هل يمكن التلاعب بالمواصفات الرئاسية والحفاظ على العفة؟
ناصر قنديل
– يفترض أن يشكل في بلد يتم الاحتكام فيه للمنطق مجرد الحديث عن بحث عن اسم مرشح رئاسي يمكن لمجموعة قوى الاتفاق عليه لمواجهة مرشح معين، فضيحة سياسية وأخلاقية. والبحث يعني أن من سيُقدّم ليتولى رئاسة الجمهورية، أعلى منصب في الدولة، لا يملك حيثية ومواقف وسيرة، بما يكفي ليكون ظاهراً بقوة، بل يجب التنقيب عنه، خصوصاً عندما يكون من المفترض أن المطلوب اجتماعهم على الاسم المبحوث عنه، يمثلون معسكرات فكرية وسياسية واستراتيجية متناقضة. وفي الحالة اللبنانية نحن أمام انقسام عميق ومديد منذ العام 1982 باقٍ وتتغير مظاهره وأشكاله، بين ثلاثة معسكرات، معسكر يؤمن بالمقاومة وسلاحها كحاجة وضرورة، ومعسكر يعادي هذه المقاومة ولو كان الثمن بقاء الاحتلال واستمرار العدوان، والثالث معسكر الوسط المؤيد للمقاومة والمعارض لها في آن، واختصاراً هي معسكرات “نعم” و”لا” و”لكن”.
– منذ 2006 بدا أن هناك معسكرين فقط، عندما تموضع الرئيس سعد الحريري في معسكر “لا”، بعدما كان والده الرئيس رفيق الحريري في معسكر “لكن”، ومثله فعل النائب السابق وليد جنبلاط الذي انتقل من معسكر “لكن” الى معسكر “لا”، على خلفية تحولات مرحلة ما بعد القرار 1559 واغتيال الرئيس رفيق الحريري وتشكل قوى 14 آذار، بينما انتقل التيار الوطني الحر من معسكر “لكن” الى معسكر “نعم” على خلفية التفاهم الذي أبرمه في 6 شباط 2006 مع حزب الله وترجمه في حرب تموز 2006 بموقف واضح دفاعاً عن المقاومة، دون أن يصبح في معسكر 8 آذار الذي يمثل المعسكر الأصيل لـ “نعم”.
– أدى تموضع حزب الله الى جانب التيار الوطني الحر بقوة التفاهم واهتمام حزب الله بانتقال التيار إلى معسكر “نعم”، إلى استثمار وجود الحزب القيادي في قوى 8 آذار وفي التوازنات الداخلية، لصالح رؤية التيار لقانون الانتخابات في مرتين تم خلالها إقرار قانون جديد للانتخاب، بين 2006 و2023، مرة في اتفاق الدوحة باعتماد قانون القضاء ومرة في قانون النسبية واعتماد تقسيم دوائر وتصويت تفضيلي وفق رؤية التيار، وكذلك إلى ترجيح كفة تبني ترشيح زعيم التيار ومؤسسه العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية، معرضاً قوى 8 آذار للانقسام، ومثلما أدت متغيرات المنطقة وخصوصاً مسارات الحرب في سورية التي رفعت مكانة حزب الله وقوته الإقليمية، إلى منح فرصة لتظهير هذا الترجيح بفوز العماد عون بالرئاسة، كذلك أدّت هذه التطورات الى تفكك قوى 14 آذار، فولدت التسوية الرئاسية، التي حملت العماد عون الى رئاسة الجمهورية، والرئيس سعد الحريري الى رئاسة الحكومة، بما بدا أنه تحالف معسكر “نعم” ومعسكر “لكن” الذي تشكل من جديد من تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي، بينما ظهر الانضمام المؤقت للقوات اللبنانية الى خيار العماد عون الرئاسي، ظرفياً عابراً من ضمن حسابات البقاء في معسكر “لا”.
– شهد النصف الثاني من عهد الرئيس ميشال عون، تحولات جديدة، أنهت التسوية الرئاسية، لصالح إعادة تشكيل معسكر “لا” وتمت استعادة تيار المستقبل والاشتراكي الى صفوفه، بقوة الدور السعودي، وبقوة استيلاد قوة جديدة من رحم تداعيات الانهيار المالي واستثماره سياسياً عبر ثورة ملونة حملت الى المجلس النيابي كتلة جديدة لم يكن غامضاً تموضعها في معسكر “لا”، مثل كل ثورات جورج سوروس، بينما أدّى تركيز الهجوم على التيار الوطني الحر من قبل “الثورة”، وفقاً لنصائح جيفري فيلتمان، من جهة، والشعور بأن وعود الإصلاح التي حملها الرئيس عون باءت بالفشل، من جهة مقابلة، إلى ارتباك في خطاب التيار بين “المسيحية” و”الإصلاحية”، فتناوب عليهما لتوجيه الاتهام لحزب الله في التسبب بإضعافه، لأن الحزب بقي في معسكر 8 آذار، أي معسكره الأصيل المدافع بقوة وشراسة وأصالة عن الـ “نعم”، رغم الحديث عن مشروع بناء الدولة الذي يرفعه التيار عنواناً للخلاف، لأن ذلك يفترض أن يكون حاضراً في تفسير التسوية مع الرئيس الحريري والتفاهم مع القوات اللبنانية.
– شيئاً فشيئاً استقرّ التيار في معسكر “لكن”، وجاءت التحولات في المنطقة والتموضع السعودي الجديد، لتفعل فعلها في استعادة المستقبل والاشتراكي إلى معسكر “لكن”، وفي قلب هذه التموضعات تجري مقاربة الاستحقاق الرئاسي، حيث لا يملك كل من معسكر “لا” ومعسكر “نعم” القدرة على ايصال مرشحه، من دون انزياحات كبرى في معسكر “لكن”، في تأمين النصاب والتصويت والانتخاب، والواضح أن انتقال معسكر “لا” الى معسكر “لكن” مستحيل لاعتبار مبدئي واستراتيجي وسياسي، ولذلك فإن خطته هي المناورة بأسماء مرشحين من معسكر “لكن” لتحقيق فوز على معسكر “نعم”، وهكذا يتحقق عملياً نقل معسكر “لكن” الى معسكر “لا”، بينما لا يستطيع معسكر “نعم” فعل الشيء ذاته، لأن قضيته ليست هزيمة معسكر “لا” بل وصول رئيس ينتمي استراتيجياً لخط تأييد المقاومة، لأن القضية هي المقاومة وليست الرئاسة.
– يبدو أن المستقبل والاشتراكي ثابتان في معسكر “لكن”، ويتمسكان بمرشح يلتقيان عليه مع معسكر “نعم” ومعسكر “لا”. والمفترض أن هذا هو موقف التيار، لكن الواضح أن الجهد الرئيسي لمعسكر “لا” منصبّ على كيفية جذب التيار إلى معسكر “لا”، تحت عنوان مسيحي مرة ومرة تحت شعار الاتفاق على مرشح. وهنا نتذكر أن الذين رفضوا التمديد للرئيس اميل لحود وقالوا إنهم من ضمن الخيار الاستراتيجي ذاته عرضوا أسماء مثل الراحل جان عبيد والوزير سليمان فرنجية بديلاً، بداعي أنهما أكثر مقبولية. والذين رفضوا ترشيح العماد ميشال عون من الموقع الاستراتيجي ذاته للمقاومة عرضوا اسم الوزير فرنجية، بداعي أنه أكثر وسطية داخلياً سياسياً وطائفياً، وعندما اعتراض التيار على ترشيح فرنجية في أول الحوار مع حزب الله، كانت معادلته أن المطلوب رئيس داعم للمقاومة ولكن إصلاحي، معتبراً أن فرنجية يحقق واحدة لكنه يفتقد للثانية، لكنه منذ ذلك النقاش عجز التيار عن تقديم اسم يحقق هذين الشرطين من وجهة نظره، وأعطى قبوله لأسماء تنتمي تاريخياً إلى معسكر لا مقاوم ولا إصلاحي،، ولو تحت عنوان البقاء في معسكر “لكن”، أي الدعوة لتوافق جامع على اسم الرئيس، فهل يصل الى الاستعداد للسير بمثل هذه الأسماء الى حد الاصطفاف مع معسكر “لا”، فينتصر الاعتبار المسيحي بمفهومه الضيق، على الاعتبار الإصلاحي، بعدما يكون انتصر سلفاً على الاعتبار المقاوم، والتيار لا يستطيع القول إن حزب الله يفعل ذلك بعلاقته مع حركة أمل، فحزب الله خالف أمل في انتخاب العماد عون، وهو يلتقي معها على الخيار المقاوم، فهل يستقيم التلاعب بالمواصفات الرئاسية، بتبني ترشيح الوزير جهاد أزعور مثلاً، وهو وزير المالية لسنوات رئاسة الرئيس فؤاد السنيورة للحكومة، حيث لا إصلاح ولا مقاومة، والحفاظ على العفة، والعفة ميزة يفترض أنها أساسية في نظرة التيار لنفسه، وسعيه لجعلها أساساً في نظرة الآخرين إليه؟
– يبدو أن لا حل إلا بعودة التيار إلى خياراته الأصلية الثلاثة، مرشح يتوافق عليه الجميع، وإذا تعذر ذلك يتمّ غض النظر عن المرشح لصالح الاتفاق على المشروع. وإذا تعذر ذلك يتم ترشيح رئيس التيار لإثبات الحق، والخيار الثاني هنا هو الانتقال إلى معسكر “نعم” مجدداً، بعد إضافة نكهة داخلية إليه محورها لم يعُد الإصلاح، لأن الدولة منهارة وتحتاج الى إعادة بناء وليس إلى مجرد إصلاح، ومثلها الاقتصاد. بينما بالمقابل المنطقة أمام تغييرات كبرى لصالح المقاومة، بحيث إن جمع العناوين يبدو تعبيراً عن حقائق ووقائع لا مجرد تلفيق تسويات.