المناورات «الإسرائيلية» جهد ضائع
} د. حسن أحمد حسن*
ارتفاع نبرة التهديدات الإسرائيلية وعودتها إلى الانخفاض وضبط إيقاعها لا يعني امتلاك أوراق قوة إضافية قط، ولا يعبّر عن القدرة على ترجمة تلك التهديدات والانتقال بها من الإطار النظري والكلامي إلى الإطار الفعلي القائم على أرض الواقع، وإلا لما تردّد حكام تل أبيب لحظة واحدة من الإقدام على حماقتهم بغض النظر عن الذرائع الكثيرة التي يمكن أن يسوقوها او يختلقوها. وهذا يعني أنهم يعيشون أزمة مركبة، فالمخاطر والتهديدات كبيرة ومتعدّدة وجدية وبعضها وجوديّ بكل ما تعنيه الكلمة، وهي تتزايد يوماً بعد يوم وتتبلور أكثر فأكثر مع مرور الوقت، وتحمل في طياتها ما ينخر الداخل الإسرائيلي المأزوم بالأساس، والمسكون بهاجس التدمير والفناء في ذاكرته الجمعية التراكمية المستندة إلى النبش في الماضي وتصديره وفق الصورة النمطية القائمة على الظلم التاريخي من جهة، وفرادة «شعب الله المختار» وقدرة الدماء الزرقاء التي تجري في عروقه على اجتراح المعجزات الأسطورية التي تمنحه البقاء رغم تعدد أسباب الفناء المرافقة له في حله وترحاله من جهة ثانية.
مصدر التهديدات الوجودية:
بعيداً عن كلّ ما له علاقة بمنصات الإعلام المعاصر والحرب النفسية ومحاولات كي الوعي الجمعي التي من حق كل صاحب أرض محتلة أن يستثمر فيها وبها، إلا أن معطيات الواقع الفعلية تؤكد أن الكيان الإسرائيلي يواجه حقاً تحديات وتهديدات ووجودية، وأخطر ما فيها أنه يمتلك بذور الإفناء الذاتي، والبيئة الاستراتيجية القائمة: الداخلية منها أو المحيطة مساعدة لإنتاش تلك البذور، وكل ما نسمعه ونشهده من صراخ ومؤتمرات وعربدات وتهديدات ومناورات واعتداءات وإجرام إنما يستهدف تأخير إنتاش بذور الإفناء الذاتي الحتمي والقريب. فالمصدر الحقيقي للتحديات الوجودية التي يواجهها التجمع الاستيطاني في الكيان المؤقت ليس المقاومة الفلسطينية ولا حزب الله ولا إيران ولا بقية أطراف محور المقاومة، ولا العروبة ولا الإسلام، بل عدوانية حكام هذا الكيان المؤقت والقائم على الباطل والقتل وسفك الدماء والإجرام المتواصل وسلب الآخرين حقوقهم وحريتهم وكرامتهم ومقوّمات حياتهم. ومن الطبيعي أن تواجه هذه النزعة العدوانية المتأصلة برفض ومقاومة ممن تستهدفهم بغض النظر عن الفروق الكبيرة في القوى والوسائط، فمقاومة الاحتلال عبر التاريخ البشريّ حق مشروع وواجب وطني وأخلاقي وإنساني، وبقاء ذاك الكيان مرهون بقدرته ومن يقف وراءه على فرض باطلهم، وضمان استمرار السيطرة على إرادة من اغتصبوا أرضهم وصادروا حقوقهم وسرقوا ثرواتهم وممتلكاتهم، ومآل هذا الواقع الشاذ إلى تلاشٍ، طال الزمن أم قصر.
أمام هذه العدوانية والوحشية المنفلتة من كل عقال بمباركة العديد من القوى التي كانت متحكمة بمفاصل صنع القرار الدولي من الطبيعي أن يعمل أنصار الحق والسيادة إلى مراكمة عوامل القوة الذاتية والموضوعية التي تمكّنهم من القول: (لا… وكفى) وتجسيد هذه «اللا» على أرض الحياة، فلكلّ فعل عدواني غير مشروع ردّ فعل مشروع يعاكسه في الاتجاه ويساويه في الشدة إنْ لم يكن متفوقاً عليه، ولهذا غدا من المسلم به عند أوساط المثقفين والنخب السياسية والفكرية والمجتمعية في كيان الاحتلال أن كيانهم يواجه أخطاراً وجودية حقيقية سواء اتجهوا للحرب أم جنحوا للسلام، وهم أبعد ما يكونون عن أي سلام فعلي وحقيقي يقوم على إعطاء كل ذي حق حقه. فالحرب تحمل في طياتها حتمية الخسائر البشرية والمادية على الجانبين، وبكل تأكيد ستفرز الكثير من الوجع والمعاناة والدمار والدماء وتعطل دورة الحياة اليومية وما يرافقها من أزمات غذاء ودواء وإقامة وفقدان الأمن والأمان، فضلاً عن عجز أي طرف الادعاء بالقدرة على التحكم بمداها ومستويات الصراع التي تبلغها تحت سقف زمني يبقى مفتوحاً على المجهول. وهذا ما لا يستطيع كيان الاحتلال تحمله، لا بل حتى تصور حدوثه، والسلام الحقيقي يعني استئصال النزعة العدوانية والفوقية، وإعادة ما سلب من حقوق وممتلكات إلى أصحابها، ومن المسلّم به أن نسب النمو الديموغرافي الفلسطيني وحدها كفيلة بالتيقن أن السلام الحقيقي يعني نهاية الكيان المؤقت كسلطة احتلال تبني روافع وجودها واستمراره على الإجرام والقتل وسفك الدماء والضرب عرض الحائط بكل ما له علاقة بالمجتمع الدولي وأعرافه وقوانينه. وهذا يؤكد أن التحديات والتهديدات الوجودية التي يواجهها التجمع الاستيطاني في «إسرائيل» مصدرها عدوانية حكوماتها وتنافسها في المستويات العليا من الإجرام الذي لم يعد قابلاً للاستمرارية بلا ضريبة.
المناورة الإسرائيلية ومروحة الخيارات والسيناريوهات المحتملة:
لا أحد ينكر أن الكيان الإسرائيلي قوة عسكرية كبيرة، ويمتلك طاقة تدميرية هائلة وترسانة من أحدث ما توصل إليه المجمع الصناعي العسكري العالمي، لكن العنصر الأهم من السلاح في الحروب هو من يستخدم هذا السلاح، ومدى قدرة المجتمع وصلابته في مواجهة تداعيات حرب مفتوحة في الزمان والمكان بعيداً عن التهديدات النارية التي يطلقها هذا المسؤول أو ذاك، ومن تابع وقائع مؤتمر هرتسيليا الذي عقد في 22 و23 من أيار الحالي وما صدر عنه من مواقف وتصريحات متناقضة فيما بينها، وكل منها متناقض مع مكوناته الذاتية يدرك مدى الخوف والقلق المسيطر على الداخل الإسرائيلي. وقد تضاعف بعد المناورة التي نفذها حزب الله بحضور مئات وسائل الإعلام المحلية والإقليمية والدولية، وأمام نظر الجيش الإسرائيلي وفي المنطقة الحدودية التي كان يحتلها ذاك الجيش قبل أن يرغم على الانسحاب ولعق مرارة الهزيمة في 25 أيار 2000م. وجاءت الصفعة الأشد للعربدة الإسرائيلية عبر إطلالة سماحة السيد حسن نصر الله وخطابه بمناسبة عيد المقاومة والتحرير، وتفنيد كل ما تسوّقه وتهدد به حكومة نتنياهو، ورد الحجر من حيث أتى، لا ليسقط بالقرب ممن ضربه، بل على رأسه المتصدع بتشظي الداخل الاستيطاني الذي يرى حبل الانتحار يلتف حول رقبته، وينتظر من حكامه سلَّم نجاة مع يقينه بعجز حكام تل أبيب عن تقديمه، ولا يمكن أن يجدوه لأنه ليس بحوزتهم، ولن يكون، وهذا يفسّر ارتفاع نسبة الخوف والقلق والاضطراب في الداخل الاستيطاني، وانعكاسها على الأداء الحكومي المتوتر هو الآخر والموتور أحياناً تحت وطأة الحيرة المفروضة عليه في اتخاذ القرارات الآنية الروتينية، فكيف بالقرارات الاستراتيجية؛ وهذا أمر متوقع، ومبرر نظرياً لسبب جوهري وواضح وهو ضيق مروحة الخيارات المتاحة، وبالتالي رفع سقف الأهداف المطلوب بلوغها من أضخم مناورة عسكرية ينفذها جيش الاحتلال في البر والبحر والجو يؤكد أن القرار المتخذ محكوم بردة الفعل لا بالموازنة بين الخيارات والبدائل الممكنة، ووضعها على طاولة التشريح الإلزامي في مطبخ صنع السياسة واتخاذ القرارات بعد وضع جميع السيناريوات المحتملة مهما كانت إمكانية حدوثها متدنية، والحكم عليها بكفتي ميزان التكلفة والمردودية. وحقيقةً جميع السيناريوات المحتملة أكثر من كارثية على الكيان المؤقت وعلى المنطقة بكل أطرافها، لكن الأطراف المصطفة على الجانب الآخر من كيان الاحتلال لديها القدرة على تحمل التكلفة مهما ارتفعت، وتبقى محافظة على وجودها بغض النظر عن حجم الخسائر والدمار الذي يمكن أن تخلّفه أي جولة جديدة من الصراع، في حين أن أصحاب الرؤوس الحامية في تل أبيب أدرى بعجز كيانهم عن تحمل التداعيات، وبعجزهم عن منع تدحرج كرة النار من جبهة الجولات المتكررة إلى جبهة الحرب الكبرى التي قد تحمل في طياتها نهاية هذا الكيان إن لم يكن زواله، كما قال سماحة السيد حسن نصر لله.
خلاصة:
من كل ما يتقدم يتضح بالعقل والمنطق أن هذه المناورة ومهما تمّ التطبيل والتزمير لها لا تقلق حزب الله ولا سورية ولا إيران ولا أي طرف من أطراف محور المقاومة، وكل ما سيتم اتخاذه من تدابير لتنفيذه وفق بنك الأهداف المعتمد ليس أكثر من صراخٍ عالٍ للفت نظر واشنطن وبقية الأطراف الفاعلة في صنع القرار الدولي في هذا التوقيت الحرج الذي يعيشه العالم وتوازناته للقول: إن حكومة نتنياهو قادرة على إشعال المنطقة، والجميع يعلم أن أي طرف مهما كانت قدراته متواضعة قادر على أن يكون السبب المباشر للاشتعال الأكبر.
الأمر الآخر الذي قد تستطيع حكومة نتنياهو إنجازه بهذه المناورة يندرج تحت عنوان «حقنة مسكنة» تضخ في أوردة المستوطنين قسراً لتخفيف الألم المتزايد، وما أن ينتهي مفعول المسكن حتى يعود الألم الأشدّ الذي لا يمكن تسكينه إلا بمعالجة جذره الأساسي، والجذر كان ويبقى العدوانية المتأصلة في حكام تل أبيب وليس أي سبب آخر، وكل ما سيتطلبه إتمام مناورتهم الحالية جهود ضائعة في التوقيت الخاطئ.
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية.