هندسة الانتخابات…
} عباس طالب عثمان
اكتسبت الانتخابات في تركيا اهتماماً دولياً وإقليمياً جعل من البرامج الانتخابية للأطراف المتنافسة شعبية، تدعم وتعارض أفكارها، من خارج الحدود التركية، نظراً لارتباط الأخيرة بملفات محورية في المنطقة والعالم لعلّ أبرزها الحرب السورية والأزمة الروسية الأوكرانية إضافة الى موقعها في حلف شمال الأطلسي وما نجم عنه من وضع شروط على من يريد الانضمام الى الحلف المذكور. ولعلّ المرحلة التي يمرّ بها العالم كان لها الدافع الرئيس لجذب أنظار العالم لتلك الانتخابات، حيث تتخذ تركيا موقعاً مؤثراً في خريطة النظام العالمي الجديد الذي يتشكل.
في ظلّ تلك التغيّرات، وفي خضمّ ارتفاع نسبة الجهوزية بين ضفتي العالم، برزت عوامل عدة، أظهرت ملامح استحواذ الرئيس التركي أردوغان على رأس مال انتخابي يتخطى ذلك الذي تتمتع به المعارضة. فبرز تقدّم الأول ملحوظاً في نقاط عدة ابرزها:
1 ـ على صعيد السياسة الخارجية
أ ـ تركيا الأطلسية:
ترتفع نسبة القومية في تركيا الى مستويات تجعل أصوات تلك الفئة من المجتمع فيصلية في الانتخابات، ولذلك يمكن ملاحظة الجهد الحثيث الذي بذله المرشحان لاستمالتهم. كان تفوّق أردوغان على كمال أوغلو واضحاً في هذا المحور، إذ استطاع الرئيس الحالي إشباع جزء من حاجة القوميين، الذين يريدون ان يكون لتركيا دور فاعل في الأحداث العالمية، من خلال فرض تركيا شروطاً على السويد وفنلندا للانضمام الى حلف شمال الأطلسي، والتي كان أبرزها التوقف عن دعم الاكراد واتخاذ إجراءات تضيق الخناق عليهم.
ب ـ سورية:
لعلّ الملف السوري وما يحتويه من تفرّعات عدة كان من أبرز الملفات التي تمحورت حولها الانتخابات التركية والتي كان من الواضح تقدّم أردوغان على منافسه في هذا الملف. فعلى الرغم من تأكيد كمال أوغلو على وضعه خططاً وحلولاً لأزمة اللاجئين وإعادة العلاقات مع سورية، كان أردوغان يتقدّم عليه بسبب عوامل عدة أبرزها:
1 ـ إعلان الرئيس التركي في عدة مناسبات بأنه يريد لقاء الرئيس السوري بشار الأسد اذا ما سمحت الظروف لإحداث ثغرة في الجدار الذي أحدثته الحرب والذي يفصل بين الدولتين، ولعلّ أبرز تلك التصريحات هي التي أطلقها أثناء تواجده في قمة شنغهاي. فقيام أردوغان بالإعلان مرات عدة بموافقته على اعادة العلاقات مع سورية ـ الأمر الذي سينعكس بشكل إيجابي على أزمة اللاجئين وهي مطلب قومي ـ ومقابلة تلك التصريحات بتجاهل ورفض سوري، جعل أردوغان يظهر أمام القوميين الأتراك وكانه ليس هو المسبّب بتفاقم ازمة اللاجئين.
2 ـ إقناع القوميين وعلى رأسهم سنان أوغان بأنّ عودة اللاجئين المرتبطة بالانسحاب التركي (كما صرّح الرئيس السوري بشار الاسد) يزيد حجم الخطر الذي يواجه الأمن التركي وذلك بسبب احتمال استثمار الأكراد للاجئين وتجنيدهم، أو احتمال تدفق المزيد من اللاجئين المعارضين للدولة السورية والداعمين للتواجد التركي في سورية.
3 ـ عند وقوع انفجار اسطنبول، لم يكن بإمكان المعارضة التعليق على ذلك الحدث، لعدم إدخال تلك الحادثة ضمن الحملات الانتخابية، فاستثمر أردوغان الانفجار لرفع مستوى تأييد القوميين له، من خلال التهديد بتنفيذ عملية عسكرية على الحدود السورية التركية.
ج ـ على الصعيد الداخلي:
1 ـ لطالما كان استثمار أردوغان للتاريخ أحد أبرز عوامل نجاح ترشحه في الانتخابات، فاختياره لـ 14 أيار كموعد للانتخابات لم يكن صدفة، ففي هذا التاريخ، ظهر الإسلاميون والمحافظون مجدّداً على الساحة السياسية التركية بعد إجراء الانتخابات في 14 أيار عام 1950 والتي انخفضت فيها نسبة سيطرة حزب الشعب الجمهوري الى 14% فيما فاز الحزب الديمقراطي بقيادة عدنان منديرس بـ 85% من مقاعد البرلمان التركي.
2 ـ كان من أبرز عوامل قوة الرئيس التركي قدرته على الربط بين القومية والدين، فكان تركيز أردوغان على ذكرى الانقلاب على عدنان منديرس واضحاً ويُعدّ جزءاً من محاولة أردوغان كسب المزيد من تاييد القوميين والأحزاب الدينية، فقد كان عدنان مندريس أول رئيس للجمهورية بعد انتهاء حكم حزب الشعب الجمهوري، زمان قد حاول عدنان منديرس ان يعيد الحياة للإسلام في تركيا بعد حكم العلمانيين الذين يعارضهم أيضا القوميون.
3 ـ لم تغط الحملة الإعلامية المعارضة حاجات الشباب التركي الذي ينتخب للمرة الأولى والذي نشأ خلال عهد أردوغان. إضافة الى ذلك، تعرّضت الحملة الإعلامية الداعمة للمعارضة، لحواجز عدة أبرزها سيطرة أردوغان على وسائل الإعلام وتشريع البرلمان لقوانين تحظر التعرّض لأردوغان. إضافة الى ذلك، بعد صدور نتائج الجولة الأولى، انخفض حجم الدعم الإعلامي الغربي للمعارضة وذلك في محاولة من الغرب بالتهيّؤ لفوز أردوغان. وقد حالت تلك العوامل دون تعرّف الشباب على المعارضة بشكل أكبر.
4 ـ كان بارزاً إمكان أردوغان تحقيق توافق بين مكونات حلفه، على الرغم من تكونه من الأكراد والإسلاميين والقوميين، على عكس حلف المعارضة الذي برزت التناقضات داخله. حيث صرح بان روسيا تتدخل بالانتخابات التركية وأعلن أنه يرغب بالتقرّب من الغرب بعد فوزه بالانتخابات على عكس ما صرح به البرلماني في حزب الشعب الجمهوري «أوزقور كارابات» الذي قال انّ أوروبا تحارب كمال أوغلو وتدعم أردوغان. إضافة الى ذلك، يتبيّن حجم التنافسات داخل حلف المعارضة من خلال تعيين «جنان أوغلو» قائدة لحملة حزب الشعب الجمهوري التي وصفت تركيا بالقاتل المتسلسل بسبب حربها على حزب العمال الكردستاني، ولكن بعد تعيينها في هذا الموقع صرّحت بانّ عبدالله أوجلان مؤسس لتنظيم إرهابي.
استطاع أردوغان حسم مصير تركيا لخمس سنوات مقبلة، سيكون له السيطرة شبه الكاملة فيها على سياسة البلاد الداخلية والخارجية واهمّها سياسة البلاد تجاه التحالفات التي تنشأ في ظلّ النظام العالمي الجديد. ولكن بالنظر الى ما تقدّم، كان واضحاً عدم التوافق بين قدرات الرئيس التركي وتلك التي يتمتع بها منافسه، ورغم ذلك، ولأول مرة استطاعت المعارضة ان ترفع من نسبة التصويت الى مستوى يفصل بينه وبين نسبة التصويت للأول حوالى 5%، فهل يمكن اعتبار ذلك فوزاً لأردوغان؟