هي حرب شاملة على وكالة الغوث… وعلينا!
} فتحي كليب*
في العام 1994 التقى وفد يمثل المؤسسات الاجتماعية في لبنان بمدير عام الأونروا في تلك الفترة ليونيل بريسون، وقد بدأ شبح الأزمة المالية للأونروا وتخفيض الخدمات يلوح فوق رؤوس اللاجئين والمخيمات، بعد توقيع اتفاقية أوسلو وعدد من الاتفاقيات التي رسمت جميعها قصوراً على الرمال في المجال الاقتصادي، وأفرد لوكالة الغوث دوراً رئيسياً في تطبيق عدد من «الاستراتيجيات الاقتصادية والتنموية».
وفي إطار النقاش والأفكار المطروحة في ذلك اللقاء لمعالجة الأزمة المالية، اقترح أحدهم على الأونروا إجراء مسح اجتماعي للاجئين الفلسطينيين في لبنان، بهدف تحديد أكثر الأشخاص حاجة للمساعدات الضرورية، ولم تكن الآلاف من الفلسطينيين قد هجرت لبنان بعد تحت ضغط الأزمة الاقتصادية وتداعيات الانقسامات السياسية الداخلية، فكان ردّ الأونروا وبشكل حادّ: انّ الأونروا تقدّم خدماتها لجميع اللاجئين الفلسطينيين، وكلّ فرد مسجل في قيودها فهو يستحقّ الخدمات، وبالتالي فإنّ التمييز بين اللاجئين وعدم المساواة في ما بينهم ليس من «قيَم ومبادئ الأمم المتحدة»، وقد يكون سبباً لنقد محلي ودولي، ما دفعنا الى الثناء على هذا المنطق الإيجابي في التعاطي مع اللاجئين…
هذا اللقاء ذكرني بقرار أصدرته الأونروا عام 2016 وقامت بتفعيله مؤخراً ويتعلق بحرمان اللاجئين الفلسطينيين الذي حصلوا على الجنسية اللبنانية من حق الاستفادة من خدمات الاستشفاء بذريعة الأزمة المالية، رغم أنهم ما زالوا مسجلين في قيود الأونروا ويتمتعون بأهلية ومكانة اللاجئ القانونية.. إضافة الى قرار آخر بعدم تسجيل ايّ لاجئ فلسطيني قادم من سورية الى لبنان، كي «تتمكن الوكالة من تقديم المساعدة المالية للمهجرين الفلسطينيين من سورية والمقيمين في لبنان قبل تاريخ 1 آب 2022.
ما اعتبرته الأونروا في العام 1994 مناقضاً لقيَم الأمم المتحدة ومنظماتها التي تنطلق في تعاملها مع اللاجئين الفلسطينيين من اعتبارات سياسية وقانونية وإنسانية نصت عليها العديد من وثائق الامم المتحدة، أصبح اليوم أمراً عادياً وبديهياً تلجأ اليه الأونروا ببيانات رسمية غير آبهة بردود فعل محتملة كون إجراءاتها لا تنسجم ومبادئ الأمم المتحدة، لا بل انّ بعض الموظفين الكبار في الأونروا يرسلون الى مدارء الأقاليم بالعديد من الرسائل التي تدعوهم الى بحث إمكانية اقتطاع جزء من الموازنة من خلال الضغط سواء على الخدمات، تخفيضاً وإنقاصاً، او إخراج بعض الفئات الاجتماعية من دائرة الاستفادة من بعض الخدمات، ايّ انّ ما رفضته الأونروا عام 1994، أصبح اليوم مطلباً يمارس بقوة الأمر الواقع (الأزمة المالية)، وبنتيجة ذلك تحرم أعداد واسعة من اللاجئين من حق الاستفادة من بعض الخدمات..
في المقارنة بين الموقفين والتاريخين، يبدو انّ وكالة الغوث في العام 1994 كانت محقة وتصرفت وفقاً للتفويض الممنوح لها من قبل الجمعية العامة ووفقاً لقرار تأسيسها (302)، بحيث رفضت حرمان ايّ لاجئ من حق استفادته من الخدمات طالما هو مسجل في قيودها، اما ما تقوم به الأونروا اليوم فهو الدخيل وغير المألوف في أعرافها، خاصة حين تتخذ إجراءات وقرارات تحدّد بموجبها مَن مِنَ اللاجئين يحق له الاستفادة من الخدمات ومن لا يستحق، لذلك حقّ لنا وصفها بالممارسات والإجراءات الاستنسابية التي لا يحق لأيّ كان فرضها على اللاجئين، حتى لو كانت الأونروا نفسها التي يجب ان تتصرف وفقاً لقواعد وأنظمة لا وفقاً لسلطات استنتسابية من مفوض عام او حتى من مدير او موظف كبير. فتسجيل اللاجئ الفلسطيني في قيود الأونروا يعني حكماً انه أصبح مؤهّلاً للاستفادة من الخدمات، إلا إذا تنازل عنها اللاجئ بمحض إرادته وكان راغباً بعدم استفادته من الخدمات، وهناك أعداد لا بأس بها من اللاجئين مدرجة في قيود الأونروا، لكن لأكثر من سبب قرّروا عدم استفادتهم من الخدمات، مع الاستدراك بأنّ هناك فئات مسجلة لدى الأونروا لكنها لا تستفيد من كافة الخدمات لأنها في وضع قانوني مختلف.
أما من ناحية الواقع المعاش، فإنّ جميع اللاجئين في لبنان، وفي مناطق العمليات الأخرى، يستحقون ما هو أكبر وأوسع وأشمل من الدعم الاقتصادي الذي فرضته تداعيات الأزمة الاقتصادية في لبنان، وايضاً تداعيات الحصار والعدوان الإسرائيلي (قطاع غزه) وفي سورية والضفة والأردن. وحتى لو لم يكن هناك نصوص وقوانين وأعراف تفرض على الأونروا تقديم المساعدات الإغاثية للاجئين الفلسطينيين، لوجب العمل على إقرار هذه القوانين لتقديم المساعدات للاجئين وإغاثتهم، خاصة في الأزمات، وإلا بإمكاننا سؤال المعنيين عن سبب لجوء وكالة الغوث لإقرار برامج وموازنات الطوارئ التي اعتمدتها الأونروا في لبنان وفي فلسطين خلال العديد من الأزمات التي شهدها اللاجئون الفلسطينيون بفعل عمليات العدوان الإسرائيلي المتتالية.. واذا لم يكن الوقت الحالي هو الوقت المناسب لتفعيل هذه الخطط، فمتى يمكن تفعيلها!
لسنا بحاجة لشواهد ونماذج كي نقنع من لا يريد ان يقتنع بأن ما يتعرّض له اللاجئون الفلسطينيون هو جزء من حرب تجويع شاملة وسياسة ابتزاز استعمارية تشنّ عليهم من قبل الثنائي الأميركي ـ «الإسرائيلي» وبالشراكة مع بعض الدول المانحة ومنها للأسف دول عربية، لم تعد ترى في وكالة الغوث عامل امن واستقرار لها، بعد ان انقلبت الأجندات الوطنية وتغيّرت بوصلتها، بحيث لم تعد فلسطين هي العنوان بالنسبة لبعض من النظام الرسمي العربي الذي ينفق المليارات هنا وهناك ويعجز عن، بل يرفض، المساهمة في موازنة وكالة الغوث التي تعاني من عجز بسيط جداً لا يكاد يساوي شيئاً مقارنة بما يمكن ان يقدّمه لها ذلك النظام، رغم عرض المفوض العام للأزمة الاقتصادية في المؤتمرات الدولية وخلال مؤتمرات المشرفين على شؤون اللاجئين في الدول العربية وفي مؤتمرات القمم العربية..
هي الرسالة الأميركية و»الإسرائيلية» للفلسطينيين والعرب: ثقافة المقاومة والصمود والعزة والكرامة وغيرها من مصطلحات، ستوصلكم الى المجاعة والى التدمير الخارجي والذاتي، والى صراعات وانقسامات لم تشهدها بلادكم من قبل.. والى حصار وفقر وخراب تحتاجون لعقود من أجل إصلاحه، بينما القبول بدمج «إسرائيل» في المنطقة العربية واعتبارها «كياناً طبيعياً»، سيعطيكم الرخاء الاقتصادي والبحبوحة المالية، كما سيعطيكم الأبراج وصالات اللهو والفرح وغيرها من مظاهر البذخ الخادع والمضلل.. ولنا في تجارب الكثير من دولنا العبرة…
ولا يجب ان يغيب عن بال أحد انه في إطار السلام الأميركي الاسرائيلي سيغيب الأمن والأمان والاستقرار، وتصبح الكرامة الوطنية مجردة من كلّ معانيها العربية الأصيلة، والعدالة الاجتماعية ستغدو عنواناً لمن يلتحق بالركب الأميركي الإسرائيلي، وستصبح بلادنا مستعمرة ومستعبدة لآلاف السنين، بل ستصبح شعوبنا مجرد أدوات لا تملك حتى حقّ التصرف لا بثرواتها وخيراتها ولا بحقها في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية والثقافية، بل لا تملك حق صياغة حاضرها ومستقبلها وطريقة عيشها…
هي ليست حرب على وكالة الغوث فقط، بل على اللاجئين والفلسطينيين وكلّ أحرار العرب الذين ما زالوا يرفعون راية المقاومة ضدّ المشروع الأميركي ـ «الإسرائيلي». وقد بات واضحا انه كلما اشتدّت الحرب الاقتصادية والعسكرية والأمنية على شعوبنا، كلما اقتنع الأحرار انهم في المسار الصحيح، وبالتالي فإنّ حروب القتل والتجويع والحصار وغيرها من أدوات الاحتلال والاستعمار الامبريالي لن تنطلي إلا على الضعفاء الجبناء الذين ركعوا أمام أول امتحان، أما الأحرار والمناضلون الشرفاء فقدرهم الصمود والمواجهة، وما أكثر الأحرار في امتنا…
*مسؤول دائرة وكالة الغوث في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين