هل سرقت مرارة العيش فرحة اللبنانيين بعيدهم؟
} د. عدنان نجيب الدين
يشعر اللبنانيون بالفرحة والفخر وهم يحتفلون يوم الخامس والعشرين من أيار بذكرى انتصار الشعب اللبناني على الاحتلال «الإسرائيلي» وإخراجه من أرضنا مدحوراً مذعوراً وذليلاً، وكان اندحاره هذا علامة فارقة في تاريخ الصراع بيننا وبينه، وبداية العدّ العكسي لزوال كيانه غير الشرعي على أرض فلسطين السليبة. فلأول مرة شعر العدو الصهيوني بأنّ احتلاله للبنان يختلف عن ايّ احتلال آخر له لأرض عربية، لأنه واجه ما لم يكن في حسبانه، نعم، لقد واجه مقاومة فريدة من نوعها ولا نظير لها في تاريخ المقاومات، فهي انطلقت من عقيدة إيمانية راسخة تحرّم التعايش مع الاحتلال وتحرّم التطبيع معه، وجعلت مقاومته فرض عين على كلّ شريف مؤمن بالله وبالعدالة وبهذا الوطن، ولم يجد العدو بدأ من الانسحاب أخيراً تحت وطأة ضربات المقاومة والألم الجسدي والنفسي الذي سبّبته لجنوده، فأدرك أنّ في لبنان نوعاً آخر من البشر، تعني حرية الأوطان لهم ما يعنيه الإيمان بالله واليوم الآخر، وكذلك تعني لهم حق الوجود على أرضهم أرض الأجداد، وأنّ الحياة بلا حرية لا معنى لها لأنها موت، أما الموت في سبيل الحرية فهو الحياة الحقيقية. فلا مساومة على الأرض والعرض والوجود، إذاً، لا صفقات ولا تنازلات، وإنما تحرير كامل الأرض والوطن واستعادة السيادة فعلاً لا قولاً وليس لقلقة لسان كما يفعل كثيرون ممن يرفعون شعارات الحرية والسيادة والاستقلال، وهؤلاء الجبناء كانوا وما زالوا أعجز من أن يتصدّوا لعدو صهيوني محتلّ وغاشم، فحرب التحرير لا تعنيهم ولم يكن لهم شرف الانتساب إليها وإلى المقاومة، ولذلك نراهم لا يتذوّقون طعم النصر في مثل هذا اليوم، بل ربما خذلوا وشعروا بالمرارة لأنّ هناك من دحر العدو عن أرض لبنان وانتصر عليه، فهم لا يستسيغون العمل المقاوم لأنه يظهر ضعفهم وجبنهم ونقصاً في مناعتهم الوطنية.
نعم انه عيد النصر، عيد المقاومة والتحرير، عيد الانتصار العربي الناصع على سواد الاحتلال ومشروع التوسّع في الأرض العربية. فهنيئاً للبنانيين في عيدهم، وهنيئاً للبنان الوطن في يوم تحرّره من الاحتلال الصهيوني ووجوده العسكري على أرضنا الحبيبة والغالية.
وبالرغم من الحالة الاقتصادية المزرية التي أخذ الساسة اللبنانيون بلدهم اليه نتيجة فسادهم وجشعهم وانعدام الضمير لدى معظمهم، فإنّ اللبنانيين يحتفلون يهذا اليوم المجيد ذكرى انتصارهم في 25 أيار عام 2000 على أقوى وأشرس قوة عنصرية توسعية شهدتها المنطقة على مرّ التاريخ. لقد جرى الاحتفال بالمناسبة كأجمل ما يكون، ولم تستطع الأوضاع الاقتصادية الحالية سرقة الفرحة من قلوب اللبنانيين. فالتحرير وانتصار المقاومة هو العيد الأكبر للبنانيين لأنه انتصار دفعت أثمانه دماء غالية ودماراً وحسرات، فكان هناك شهداء وجرحى وأسرى، وهؤلاء إليهم ترفع آيات الاحترام والتبجيل لأنهم ابطال هذا الوطن وقديسوه الحقيقيون ولهم مجد لبنان كله.
نعم، لقد استطاعت المقاومة تحرير الأرض وتحرير الشعب وإعادة المهجرين إلى أرضهم، إلى قراهم وبيوتهم المهدمة التي أعادوا بناءها بتعبهم وعرقهم ولم تساهم الدولة في تمويل إعادة الإعمار لأنها دولة مفلسة. والشيء نفسه حدث بعد عدوان الصهاينة على لبنان في حرب تموز 2006، ولا يسعنا الا ان ننوّه بالمساعدات التي قدّمتها مشكورة بعض الدول العربية والجمهورية الإسلامية في إيران لإعادة بناء القرى المدمرة بفعل القصف الإسرائيلي لها.
وكان من المؤمل بعد التحرير أن تتصدّى الدولة اللبنانية لإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس جديدة مستفيدة من تجربة المقاومة في عملها المقاوم وولائها الوطني غير الطائفي وغير المذهبي لأنّ المقاومة كانت مقاومة الشعب اللبناني بجميع اطيافهم، وكان لها من العزم والعلم وحسن التخطيط والبسالة والمروءة ما أدّى الى دحر الاحتلال عن أرضنا، لكن الدولة لم تضع في أولى أولوياتها خطة محكمة لتسليح الجيش اللبناني بأحدث الأسلحة دون الانصياع لممانعة الولايات المتحدة التي تحرم على اللبنانيين أن يكون لهم جيش قوي يدافع عنهم، ويردع للعدو لكي لا يكرّر اعتداءاته، وكان من واجب الدولة أن تقبل أيّ عرض يأتيها من أيّ دولة لتزويد جيشنا الباسل والمقدام بكلّ عناصر القوة من طائرات حربية مقاتلة وصواريخ ودبابات وأجهزة إتصال وكلّ أنواع الأعتدة والتقنيات الحديثة الضرورية تحسّباً لأيّ مغامرة جديدة قد يقوم بها العدو. ونعيد التذكير، بأنه وصلت للدولة عروض من روسيا وإيران والصين وغيرها، ولكن الدولة لم تفعل شيئاً، بل رفضت تلك العروض خوفاً من العقوبات الأميركية. فأين هي السيادة يا زعماء هذه الدولة، وأين هي الوطنية؟ وكانت الحجة أنّ الدولة لا تملك المال اللازم لذلك.
وهنا نأتي إلى بيت القصيد، ونسأل من جديد: لقد وصلت إلى الزعماء اللبنانيين والى الدولة اللبنانية مليارات عديدة من الدولارات من الدول العربية ومن أموال اللبنانيين المغتربين، وكانت المصارف اللبنانية ممتلئة حتى التخمة بالأموال، وما كان ينقص هو خطة لتنفيذ المشاريع الخاصة بالبنى التحتية وإعادة تأسيس الاقتصاد على القطاعات الإنتاجية وليس على الريع والفوائد وصرف اهتمامات اللبنانيين عن الاستثمار في مشاريع اقتصادية منتجة في الزراعة والصناعة والمعلوماتية وغيرها. ولكن الدولة لم تفعل. لماذا؟ لأنّ الدولة ممثلة بزعمائها وكذلك بالدولة العميقة المتمثلة بالمصرفيين والكارتيلات التابعة لأصحاب النفوذ، لم يكن وارداً عندها بناء دولة بالمعنى العلمي لبناء الدول، فالدولة في مفهوم الزعماء هي مزارع طائفية ومذهبية ورعايا وحاشيات وسمسرات وسرقات وصفقات، والأسوأ من كلّ ذلك الارتهانات السياسية للغرب المتغطرس الذي أنشأ على أرضنا العربية، في فلسطين، أسوأ كيان عنصري عرفته البشرية.
وإذا كان الزعيم تاجراً فاجراً فكيف نتوقع منه خيراً لشعبه؟
نعم، لقد حرص الزعماء على ربط مصالح الطوائف أفراداً ومؤسسات بما يملكونه من نفوذ مادي ومعنوي، فأصبح كلّ زعيم في طائفته هو المرجعية لمواطنيه، وهكذا تمّ تغييب الدولة عن دورها في أن تكون هي المرجعية الوحيدة للمواطن على مختلف الصعد الأمنية والمعيشة والتعليمية وسائر الخدمات الأخرى.
من هنا بدأت سياسة تشليع الوطن، وتشليع السيادة، وتشليع الأمن، ونشأت الكارتيلات وأصبح لكلّ طائفة شركاتها ومؤسساتها على الصعد التعليمية والاستشفائية والاقتصادية والاجتماعية إلخ…
وجاءت الطامة الكبرى بالأحداث الأخيرة، نتيجة الفساد وسوء الإدارة في الحكم، من انفجار المرفأ إلى انهيار مؤسسات الدولة وانهيار الاقتصاد والعملة للوطنية وصولاً إلى الحصار الذي فرض على لبنان واختفت الأموال من المصارف وطارت أموال المودعين وهزلت قيمة الرواتب للموظفين وتفاقمت نسبة البطالة وانتشر الجوع وتراجعت العناية الصحية وعمّ الفقر…
فهل نردّد مع الشاعر، وقد أشرقت علينا شمس العيد، «عيد بأيّ حال عدت يا عيد»؟
ونجيب بأنّ مشكلتنا تكمن في أننا كمواطنين لبنانيين، لا نملك رؤية وطنية واحدة لكيفية بناء الدولة ومؤسساتها، فنحن أسباب البلاء، لأننا ما زلنا في حالة تخلف قصوى، طالما يقتلنا التعصب الديني الأعمى، ويغرينا رضا السفارات عنا، وطالما اننا نضع مصالحنا الفئوية فوق مصالح الوطن، وطالما اننا ما زلنا نوالي هذا الزعيم او ذاك ولو كان فاسداً فاجراً مرتهناً لأسياده في الغرب او الشرق، يطيع الأوامر التي تأتيه ويخضع لما يملى عليه.
أمام كل هذه الكوارث التي حلت بنا وهي من فعل أيدينا، لأننا لا نحسن الاختيار في صندوقة الاقتراع عندما نذهب للانتخاب، ولم نستطع فرض قانون انتخابي خارج القيد الطائفي، وطالما ما زلنا نصدق الغرب بأنه يدعم حريتنا وسيادتنا. لهذا الغرب نقول: أنت تكذب علينا لأنك لم تجبر «إسرائيل» على الانسحاب من أرضنا فضلاً عن تغطيتك لحروبها علينا، وما زالت تدعم الكيان الصهيوني في حروبه على الفلسطينيين ومصادرة أراضيهم وأملاكهم وقتل الأطفال والنساء منهم، وفي احتلاله لكامل فلسطين، وفي منعه عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ارضهم والى ديارهم السليبة.
أنت أيها الغرب تكذب علينا عندما لم تجبر الاحتلال الصهيوني على التعويض علينا نتيجة اعتداءات على بنيتنا التحتية وعلى قرانا ومدننا وعلى الأطفال والنساء من شعبنا عندما قصفهم الطيران الحربي الإسرائيلي، وأنت باستطاعتك فعل ذلك لأنك أنت من أنشأت هذا الكيان الغاصب على أرضنا العربية وأنت من تدعمه بالمال والسلاح وفي مجلس الأمن.
وبعد كلّ ما تقدّم، يأتيك في لبنان وبعض الخارج ليطلب منا أن نتخلى عن مقاومتنا التي بفضلها تحرّرت أرضنا من الاحتلال، ويهاجمنا لأننا ما زلنا نتمسك بخيار المقاومة والجيش والشعب. وبدلاً من أن يكون هو أيضاً إلى جانب المقاومة في غياب توازن الردع بين الجيش اللبناني وجيش الاحتلال الصهيوني، وفي غياب دولة تسهر على تزويد جيشنا بالسلاح النوعي الرادع.
ولهؤلاء نقول: أليست المقاومة من هذا الشعب؟ أليس الجيش من هذا الشعب؟ فيا دولتنا العلية التي لم نشهد لك وجوداً على أرضنا في زمن الاحتلال «الإسرائيلي»، ولم تنشئي لنا جيشاً يحرر أرضنا في ذلك الزمن، كان واجباً علينا كشعب لبناني أصيل أن نحرر أرضنا بدمائنا، وبمساعدة مشكورة من الجمهورية الإسلامية في إيران التي مهما قيل عنها وعن سياساتها فهي تهدف إلى مساعدة شعوب المنطقة للتخلص من الهيمنة الأميركية والصهيونية، وإلى ترك شعوب المنطقة يديرون شؤونهم بأنفسهم من دون تدخل خارجي، ولنا في لبنان تجربة مشرّفة معها عندما أمدّت مقاومتنا بالسلاح والعتاد والذخبرة والتدريب وكذلك فعلت وتفعل في دعم نضال الشعب الفلسطيني وكذلك فعلت مع سورية لمواجهة الإرهاب التكفيري ولم تطلب من أحد شيئاً مقابل هذا الدعم، لأنّ سياستها تقوم على المبادئ وحرية الشعوب في تقرير مصيرها ودعمها في مقابل القوى الجبروتية الامبريالية، وهذا يستعصي فهمه على الكثيرين لأنه جاء خارج السياق التاريخي للسياسات الدولية.
بناء على ما تقدّم، سوف تستمرّ المقاومة في دورها بحماية لبنان إلى أن تقوم عندنا الدولة الوطنية القوية العادلة النزيهة التي تساوي بين المواطنين وتنهي المحاصصات الطائفية والمذهبية، دولة مدنية يرتضيها شعبنا اللبناني بكلّ فئاته ويطمئن إلى حمايتها له ولأرضه ولمصالحه… وحتى يأتي ذلك اليوم، ستبقى المقاومة تقوم بدورها إلى جانب جيشنا الوطني، بحماية البلد وأهله، هكذا تكون المقاومة جزءاً من المنظومة العسكرية للدولة اللبنانية. فأين العيب في ذلك؟ نعم العيب، كلّ العيب، في المتقاعسين عن تسليح الجيش بالأسلحة الرادعة وتعزيز قدراته في مواجهة العدو. العيب في هؤلاء الفاسدين من ناهبي الدولة والأموال العامة، وفي من سرق أموال المودعين، وفي تعثر المؤسسات الرسمية، وانهيار الاقتصاد والعملة الوطنية، وفي الاستغلال الذي يمارسه تجار الأزمات وناهبو الثروات، وليس العيب في المقاومة وفي المقاومين الأبطال الذين قدّموا دماءهم لتحرير الأرض وبقاء الكيان اللبناني ومنع سقوطه بيد الصهاينة او الإرهابيين التكفيريين، وليس العيب في استعادة السيادة من هؤلاء الأشرار. المقاومون هم أصحاب هذا النصر الحقيقيون وكلّ اللبنانيين يعيشون بركة هذا النصر لأنهم بفضل المقاومة استعادوا أرضهم وحريتهم واستقلالهم، أما المتخاذلون والجبناء والناهبون للمال العام والفاسدون وأزلام السفارات وخدم سياسات الدول الداعمة للعدو «الإسرائيلي»، فسيكونون ضحايا هذه السياسات، وسيحاسبهم الوطن وسيلعنهم التاريخ.
وكلمة أخيرة نقولها بمحبة للمقاومة الشريفة والباسلة: عليها اليوم مسؤولية كبيرة توازي أهمية دورها في تحرير لبنان من الاحتلال ودفع خطر الإرهاب التكفيري عنه، وهي مسؤولية اجتراح الحلول للمعضلة السياسية اللبنانية في العمل مع المخلصين والاحرار في هذا الوطن لإعادة بناء الدولة التي يطمح إليها اللبنانيون أيّ الدولة الديموقراطية الوطنية بعيداً عن المحاصصات الطائفية والمذهبية، ويكون المواطن فيها متساوياً في الحقوق والواجبات مع سائر المواطنين الآخرين، ويكون أيضاً عزيزاً وسعيداً في وطنه، يشعر بالفخر والانتماء الحقيقي إلى دولته الوطنية التي يسودها القانون والعدل، وتبقى فيها الحريات وحقوق المواطنين مصانة ومحترمة، في ظلّ قضاء نزيه وعادل ومستقلّ عن السياسة والسياسيين وأصحاب النفوذ والفاسدين كي بكون القانون محترماً، ويحاسب الفاسد على فساده، ولنا كلّ الثقة في قدرات المقاومة على الصعيد الفكري أيضاً، لأنها تملك مراكز أبحاث ولديها علماء ومفكرون يمكن الاستعانة بهم والاستفادة منهم للعمل إلى جانب زملائهم اللبنانيين الآخرين لبلورة مشروع إعادة بناء لبنان الجديد.