ماذا لو رشح باسيل ابراهيم كنعان: بين تماسك النص وتماسك العصبية
ناصر قنديل
– يستهين البعض بأهمية النص في الخطاب السياسي، ويعتبرونه مجرد ملء الفراغ بالكلمة المناسبة، والاعتقاد بأن الجمهور قطيع يلحق بقادته كيفما ذهبوا، تحت شعار الفاخوري يضع أذن الجرة حيث يريد. وهذا إن صح في تفسير طريقة أداء بعض القيادات السياسية وجمهورها، فهو لا يصح أبداً في المنعطفات الكبرى وفي حالة القوى التي شكّل النص والخطاب مصدر قوة ورصيد دائمين لها، تحت عنوان بناء المصداقية. وإذا تفحّصنا الاستحقاق الرئاسي والخطاب المرافق من الأطراف المعنية، سوف نقع على عينات تؤكد هذه الحقيقة، حتى بالنسبة لمن اعتاد الناس على عدم اكتراثهم بالقدرة على التغيير السريع وضمان مواكبة قاعدتهم الشعبية لهذا التغيير.
– ينقسم المشهد الرئاسيّ إلى قوى حافظت على تماسك خياراتها مع خطابها، وقد أصابها الخطاب الأصيل والنص القديم في مقتل لجهة عدم الانسجام مع الخيارات الجديدة. فمن جهة مجموعة ترشيح ميشال معوّض التي تضم القوات اللبنانية وحزب الكتائب وبعض النواب مثل معوّض نفسه وآخرين، ومجموعة ترشيح الوزير السابق سليمان فرنجية، التي تضم حركة أمل وحزب الله وفرنجية نفسه وآخرين. وتحضر هنا وهناك معادلتان متقابلتان في النص محورها الموقف من المقاومة كمعيار في الخطاب الأصلي، بين مَن يريد رئيساً يناهضها وينطلق من تحميلها مسؤولية خراب البلد وانهياره، وبالمقابل معسكر ينطلق من اعتبار المطلوب رئيس شجاع مجرّب لا يخضع للتهديد ولا يخشى على المقاومة منه. وتميّز بين المعسكرين معسكر ثالث، يضم ما سُمّي بـ نواب التغيير من جهة والتيار الوطني الحر من جهة أخرى، حيث قام الخطاب الأصلي لنواب التغيير على ما أسموه بمناهضة المنظومة. والمقصود كل الذين شاركوا بالحكم خلال العقود الثلاثة الماضية. وقام الخطاب الأصلي للتيار الوطني الحر على عدم كفاية معيار الموقف من المقاومة لاختيار الرئيس، مضيفاً العيار الإصلاحي في بناء الدولة ومكافحة الفساد ومقاربة الملف الاقتصادي والمالي.
– لا تقوم مناقشة تماسك النص والموقف معاً، على قياس مساجلة الخصوم للنص نفسه. وعلى سبيل المثال تقع انتقادات التيار الوطني الحر لاختيار الوزير السابق سليمان فرنجية في مجال بناء نص للتيار نفسه يرسم معاييره، لكنها لا تصيب تماسك نص حزب الله أو أمل مع مواقفهما، إلا عندما تحاول التشكيك بمدى صدقية انطباق معيار الموقف من المقاومة على المرشح فرنجية، ويبقى ما يقدّمه التيار في تبرير رفضه للترشيح إضافة وتراكماً في صياغة نص التيار نفسه، ولا يمكن إلزام أي جهة بقبول معايير وضعها سواها، والمحاكمة الجمعية للصدقية تقوم على مقارنة النص بالخيار، ودرجة الانسجام بينهما، ولذلك يستطيع ثنائي حزب الله وحركة أمل الشعور بالثقة لجهة صدقيّة العلاقة بين النص والخيار، وتبدأ أزمتهما حين يقبلان برئيس مثل ميشال معوّض أو جهاد أزعور أو قائد الجيش العماد جوزف عون، لتقديم تبرير يفسّر كيف يمكن لمن وضع النص القائم على درجة الصدقية والثبات مع المقاومة، أن يقدم على قبول خيار لا ينسجم مع هذا النص، وطالما أن هذا لم يحدث فيبقى الثنائي في طليعة المرتاحين على خياراتهم، ويليهما الحزب التقدمي الاشتراكي الذي تراوح بين الدعوة لمنافسة ديمقراطية تقوم على وحدة المعارضة عبر ترشيح معوّض، ثم استدار ليقول إن الانقسام في البلد يحتاج رئيساً توافقياً يجمع الطرفين المتقابلين، فلم يذهب لتأييد ترشيح فرنجية رغم ما قيل عن تغييرات إقليمية بعد الاتفاق السعودي الإيراني ترجح هذا الخيار، ولم يذهب لدعم ترشيح جهاد أزعور، رغم أنه كان أول مَن اقترحه على حزب الله، باعتبار انه طرح الاسم للتوافق الجامع وليس لمواجهة حزب الله والمرشح فرنجية الذي يدعمه. وتبدأ مشكلة الاشتراكي عندما يذهب لدعم مرشح لا يحظى بتوافق جامع في كيفية تقديم نص جديد، ربما يكون منح الأصوات لأقرب المتنافسين لفرص الفوز تحت شعار أولوية إنهاء الفراغ الرئاسي، بعد جولات من التنافس الانتخابي.
– على جبهة القوات والكتائب ومؤيدي معوّض، بدأت المشكلة بين النص والخيار مع المتغيرات التي أزالت الفيتو السعودي عن فرنجية، حيث أصيبت السلسلة المنطقية التي بناها هذا الفريق إصابة بالغة، وكانت هذه السلسلة تقوم على معادلة، فرنجية رجل محترم، لكنه حليف لحزب الله، وحزب الله مسؤول عن الانهيار المالي وعقبة أمام أي حل. والسبب واحد وهو حجم العداء الخارجي والخليجي خصوصاً، والسعودي بصورة أشد تخصيصاً، الذي يستنفره أي رئيس مدعوم من حزب الله. ثم عندما سقطت القدرة على التهديد بتعطيل نصاب أي جلسة يمكن أن تنتهي بانتخاب فرنجية، بعدما صار واضحاً أن من نتائج المناخ الدولي والإقليمي الجديد، سقوط القدرة على استخدام سلاح التعطيل، فكانت الاستدارة نحو البحث عن شعار جديد ومرشح جديد، فكان الشعار رفض قيام الثنائي الشيعي باختيار الرئيس المسيحي، تمهيداً لملاقاة التيار الوطني الحر على مرشح مشترك، استقرّ الخيار فيه على جهاد أزعور، الذي يصعب تسويقه كمشروع مواجهة لسلاح المقاومة، فإن الغالب على انتمائه لمرجعية الرئيس فؤاد السنيورة هو السياسة المالية التي كان أحد صنّاعها، ما يجعل مهمة تسويقه لدى نواب التغيير أشدّ صعوبة من شعار مرشح يجمع المعارضة لمواجهة المنظومة، وهو ما لم تنجح محاولة تسويق معوض كترجمة له إلا بحدود ضيقة، فكيف بتسويق أزعور؟ لكن يبقى النص قابلاً للتبرير أمام جمهور القوات والكتائب بمقولة إن الأولوية هي لكسر معادلة حزب الله الرئاسية، وإن التعديلات في النص ليست مراجعة للمبدأ أو تراجعاً عنه، بل تأقلم مع الظروف لهدف ثابت هو كسر حزب الله، بما في ذلك في تفسير التلاقي او التقاطع مع التيار الوطني الحر.
– على جبهة نواب التغيير وكل النواب الذي رفعوا شعار مواجهة المنظومة، كانت أزمتهم مع النص ظاهرة في صعوبة القدرة على التجاوب مع دعوات تبنّي ترشيح معوّض، وهي أكبر بكثير مع ترشيح أزعور، باعتبار أن معوض أمضى سنتين يغسل مشاركته ووالدته في التركيبة السياسية المولودة من رحم الرعاية السعودية السورية لترجمة اتفاق الطائف، ومن ثم شراكته مع التيار الوطني الحر في تكتل واحد قبل أن ينسحب ويستقيل من المجلس النيابي لاحقاً، ويقدّم نفسه واحداً من ثوار 17 تشرين، أما أزعور فهو ليس سياسياً بل صاحب أفكار ورؤى مالية واقتصادية وسلوك وزاري ومرجعية سياسية. وتتقاطع هذه الثلاثية عند كلمة سر واحدة هي الرئيس فؤاد السنيورة الذي يعتبر فيلسوف الصيغة التي أخذت لبنان الى الانهيار، وبعد سقوط نظرية تحميل حزب الله مسؤولية القطيعة العربية، لم يعد ممكناً الاكتفاء بنص القوات والكتائب بالنسبة للتغيريين بالقول المهم كسر حزب الله، إلا لمن جاء منهم في قلب معادلة قوى الرابع عشر من آذار، وليس النص الاقتصادي والمالي والاجتماعي. هذا إضافة الى أن السير بترشيح أزعور يعني الوقوف في جبهة واحدة مع التيار الوطنيّ الحر ورئيسه جبران باسيل الذي تركّزت عليه شعارات هيلا هوب لثورة 17 تشرين كرمز أول لما سمي بالمنظومة.
– المأزق الأكبر في مواءمة النص مع الخيار يبرز في حالة التيار الوطني الحر، ولا تنفع العصبية في تحجيم أهمية النص ومصداقية علاقته بالخيارات، خصوصاً أن العصبية التي كان جوهرها الشدّ والجذب مع القوات اللبنانية مدعوة لتهدئة التوتر مع القوات في خدمة الخيار الجديد، ولا يمنح خيار أزعور مصداقية لمجرد القول لمؤيدي فرنجية، مرشحكم ليس أفضل، لأن الجواب بسيط وهو أن فرنجية أفضل بقياس معيار الذين يؤيدونه وهو الموقف من المقاومة، فهل من رشّح أزعور يستطيع القول إنه أفضل من فرنجية في المعيار الذي وضعه هو لرفض فرنجية وهو معيار الموقف الإصلاحي ومناهضة المنظومة، أما القول بأنهما متشابهان، فهذا القول اعتراف بسقوط النص الذي رفض فرنجية على أساسه. هذا إضافة للتخلي عن النص الذي يقول برئيس يطمئن المقاومة ويحقق التوافق. فيصير النص الوحيد الصالح لمواكبة الخيار الجديد، هو نص القوات اللبنانية، رفض قيام حزب الله الشيعيّ باختيار الرئيس المسيحي، ويكفي كسر حزب الله سبباً لاختيار من يجمع أوسع تأييد مسيحي، حتى لو لم تكن لديه فرص الوصول للرئاسة، ومعلوم سلفاً أنه لن يصل.
– النص الوحيد الذي يحضر في تبرير الخيار الأزعوري للتيار هو أن الحليف، أي حزب الله، أدار ظهره لاعتراضات التيار على فرنجية، فلم يتبقّ للتيار من خيار إلا البحث عن مرشح يتقاطع عليه مع خصوم الحزب للقول باستحالة تمرير خيار فرنجية، لفتح باب التفاوض على بديل. وفي هذا النص الجديد تبرز معضلة أولى، وهي طالما التسليم بأن المعيار لا يتحدث عن مرشح يمكنه الوصول الى الرئاسة، فلماذا يكون مرشحاً يناقض بكل شيء نص التيار الأصلي. وهنا يصير السؤال ماذا لو رشح باسيل زميله في التيار إبراهيم كنعان، الذي يفترض أن ترشيحه يشكل إحراجاً للقوات التي تعترض على باسيل، لكنها لا تعترض على كنعان، وقد ورد اسم كنعان في لائحة البطريرك بشارة الراعي الرئاسية ولم يلق اسمه احتجاجاً قواتياً، ورغم ضعف النكهة الإصلاحية لكنعان من موقعه كرئيس للجنة المال والموازنة. فإنه بانتمائه للتيار يمنح التيار قدرة تقديم الانسجام بين ترشيحه والانحياز للنص الإصلاحي، بينما يمهّد ضعف خياراته الإصلاحية لتسويقه لدى الأوساط التقليدية، ما دام الهدف التفاوض على مرشح بديل يحقق التوافق الجامع، والقول باستحالة سير القوات بترشيح كنعان يعكس خطأ في الحسابات، وسوء تقدير لمكانة التيار وأهميته كبيضة قبان كان يجب الحفاظ عليها بدل إهدارها. وهذا ما فعله بعدما أدركه النائب السابق وليد جنبلاط، لأن مأزق القوات أكبر من مأزق التيار في مواجهة ترشيح فرنجية، ومعضلتها محصورة بكيفية استقطاب التيار لمرشح مشترك، لأن الباقي متموضع عند خيارات تتراوح بين فرنجية، وعدم تبني أي ترشيح والاكتفاء بدعوة التوافق، وكان ترشيح كنعان سيفرض إحراجاً كبيراً على القوات، وان لم تسر فيه سيفتح ترشيح باب التفاوض على محطة اولى اسمها سحب معوّض وسحب كنعان، فيدخل التيار أشد تماسكاً وأكثر قوة في التفاوض، وصولاً لاسم أكثر قرباً منه ومن نصوصه الأصلية الإصلاحية، وغير العدائية لخيارات حزب الله كمقاومة، ولو ناهضت خياره الرئاسي الذي يمثله فرنجية، وبما يحفظ من محطة الى محطة للتيار موقع بيضة القبان والنسبة الأعلى من الانسجام بين النص والخيار.
– المعضلة الثانية التي يواجهها النص الجديد للتيار بأن الطرق سُدّت أمامه، وبات عليه تعطيل خيار الحزب لفتح باب التفاوض، هي بأن هذا النص سطحي جداً، فهو لا يأخذ بالاعتبار ان الحزب يوم دعم ترشيح العماد ميشال عون، وقف منفرداً لسنتين قبل أن ينضمّ الرئيس سعد الحريري ورئيس حزب القوات سمير جعجع الى الترشيح. وخلافاً لنص مظلومية التيار بأن أولويات الحزب تضع التيار في المرتبة الثالثة، وفق مقولة أولوية التحالف مع حركة أمل وأولوية استبعاد الخلاف مع المرجعية السنية ثم مساواة التيار وفرنجية، وفق مقولة هذا عين وذاك عين، فقد وقف الحزب في ترشيح العماد عون بوجه حليفه حركة أمل ورئيسها رئيس مجلس النواب حتى اللحظة الأخيرة وانتخاب عون رئيساً، ووقف سنتين كاملتين ضد المرجعية السنية التي يمثلها الرئيس الحريري، وأدار ظهره لفرضية إيصال العين الثانية الى الرئاسة عندما بدا أنها تحظى بقبول خارجي وداخلي يكفيان للفوز. وكانت نظرية هذا عين وذاك عين، ترضية عاطفية فرنجية مقابل حسم رئاسي لصالح عون، وأي قراءة لما يمكن أن يفعله الحزب وفقاً لمعادلة المنطقة الجديدة، تقول إنه قد يبقى الى جانب ترشيح فرنجية ثلاث سنوات، ما دام في ظروف أقل مواتاة قد وقف عند ترشيح العماد عون سنتين ونصف، ولا يقبل المفاوضة. وقد تحلّ الانتخابات النيابية وينتخب المجلس النيابي الجديد رئيساً، والتيار خير من يعرف درجة استعداد الحزب للمضي قدماً بالثبات عند الخيارات أخلاقياً. والخطورة في الحديث عن كسر الحزب لفتح خيار التفاوض، هي في أن التيار يعلم بأن التفاوض إذا جرى فسوف يجري بين المقاومة والخارج المناوئ لها، وأن المقابل التفاوضي سيكون إما طلبات من المقاومة لتسهيل انتخاب فرنجية أو عروض إغرائية مقابل الدعوة لتسهيل انتخاب قائد الجيش، فماذا يكسب التيار من هذه أو تلك؟
– يقول ابن خلدون في المقدمة لفهم التاريخ، إن العصبية تمثّل أساس تشكل الدولة، لكن النص وما يسميه بـ «الخلال»، يمنح الحكم المشروعية، ويقدمه كمشروع أمة، وأن العصبية تعيش على الانتصارات، والنص يتغذى على المصداقية، وأن سقوط النص مؤشر أفول المشروع، والعجز عن تحقيق الانتصارات بدء تصدّع العصبية.