مشهد عالمي يدعو للتفاؤل…
} سعادة مصطفى أرشيد*
بحكم طبيعه السياسة، فإنّ من يرسم قواعدها ويضع حدودها ويقرّر شكل النظام الدولي هو القوي أو الأقوياء الذين تنتهي حروبهم بتسويات وتوازنات تحفظ مصالحهم، كلّ بمقدار ما يمتلك من عناصر القوة، مع إمكانية الخروج عن تلك التوازنات بمقدار بين حين وآخر، خاصة أنّ التوازنات مرعبة بين تلك القوى، بما يجعل من إمكانيات حسم الحروب بينهم عالية الكلفة لا بل غير ممكنة.
هذا ما حصل عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، إذ تواجدت قوتان عظميَان لكلّ منهما حلفها السياسي والاقتصادي والعسكري، ومنظومتها الفلسفية القيمية، الولايات المتحدة الأميركية التي تقود النظام الغربي القائم على الليبرالية واقتصاد السوق المفتوح وعلى حلف شمال الأطلسي عسكرياً، وفي المقابل الاتحاد السوفياتي الذي يقود العالم الشرقي الملتزم بالفكر الشيوعي ـ الاشتراكي والمادية العلمية وقيَم الشمولية وعسكرياً حلف وارسو.
استعاضت القوتان الأعظم عن المواجهة المباشرة بالحروب بالوكالة أو الحرب الباردة وذلك بالاشتباك عبر حلفاء ووكلاء. وهذا النظام الذي حكم العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى تسعينيات القرن الماضي عندما سقط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي.
حاولت مجموعة من الدول تحدّي نظام القطبية الثنائية هذا، وشكلت قطباً ثالثاً باسم كتلة عدم الانحياز، ومع توفر قادة كبار لتلك الكتلة من أمثال نهرو وجمال عبد الناصر وأحمد سوكارنو وتيتو، إلا أنها سرعان ما تحوّلت إلى مجموعة دولية نمطية يقتصر دورها على إصدار البيانات.
ورث نظام القطبية الثنائية نظام القطب الأوحد بقيادة الولايات المتحدة والذي ظنّ فلاسفته من أمثال فوكوياما أنه النظام الأمثل الذي لا يأتيه الباطل من يمينه أو يساره، وأنه النظام النهائي الذي لن يأتي المستقبل بما هو أفضل منه، لذلك اعتبره فوكوياما نهاية التاريخ…
نظّمت الولايات المتحدة مجموعة السبع من الدول الغربية الصناعية ومعها اليابان، فيما شكلت مجموعة من الدول لاحقاً قطباً مقابلاً وإنْ كان لا يملك مقوّمات وقدرات مجموعة السبع، وهو ما عرف بمجموعة «بريكس» المؤلفة من البرازيل وروسيا وجنوب أفريقيا والهند والصين، وحققت كلّ من هذه الدول نهضتها ونموذجها في البناء والتطوّر فيما كانت دولة المثال الفوكويامي تتلهّى بتدمير الدول والحضارات كما حصل في العراق وأفغانستان ومناطق أخرى بالعالم…
كان لوباء كورونا ثم الحرب الروسية الأوكرانية الفضل في كشف عورات الولايات المتحدة وتحالفها، وما صفقة الغاز والنفط الروسي إلا مثال صارخ، هذا النفط والغاز تعتاش عليه أوروبا وصناعاتها وحتى رفاهها، أرادت الولايات المتحدة من أوروبا مقاطعة الغاز وشراء غاز بديل منها بأسعار مضاعفة، غير آبهة بحلفائها وما قد يلحق باقتصاداتهم وصناعاتهم ومجتمعاتهم من كوارث.
دول «بريكس» اعتبرت نفسها مجموعة اقتصادية تهدف إلى بناء نظام تجاري مالي مصرفي عالمي جديد، ولكن الاقتصاد لا ينفصل عن السياسة، فأصبحت مجموعة اقتصادية سياسية تطوّرت نظرتها مع الحرب الروسية الأوكرانية ونظام العقوبات الذي تفرضه واشنطن على مَا تعتبرها دولاً مارقة، فأصبحت دول «بريكس» تفكر بضرب السلاح الأميركي الأقوى المتمثل بالورقة النقدية الخضراء (الدولار) وضرب سيطرته على التبادلات التجارية العالمية وحصر التبادل التجاري في ما بينها ومع من يرغب من دول العالم بالعملات الوطنية.
منذ أيام اجتمع وزراء خارجية «بريكس» وشارك في اجتماعهم وزراء خارجية دول عديدة راغبة في الانضمام للمجموعة منها دول عربية مثل سورية ومصر والسعودية وغيرها ودول غير عربية مثل فنزويلا وباكستان وإيران وتركيا. هذه الرغبة هي تعبير صريح حتى من تلك الدول التي تدور في المحور الأميركي عن أنّ لديها الرغبة بالانفلات منه والبحث عن آفاق جديدة وتنويع لعلاقاتها، وأيضاً تعبير عن إحساسها بأنّ ذلك القطب الأعظم في حالة هبوط وتراجع، هذا فيما دول في «بريكس» كالصين طوّرت من اقتصادها لتصبح الشريك التجاري الأول مع معظم دول العالم بما فيها الولايات المتحدة، وتطور دبلوماسيتها الهادئة لتنزع صاعق التفجير في العلاقات الإيرانية السعودية، ومثل روسيا وإدراك الجميع أنها ستنتصر في حربها مع أوكرانيا طال الزمان أم قصر، وإنْ شهدت جولات كرّ وفرّ وفق طبيعة الحروب… أمور تدعو للتفاؤل في المستقبل.
*سياسيّ فلسطيني
مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة.