أطفالنا بين القيم والوحش الرقمي (2)
} سارة السهيل
الأطفال هم أحلام مستقبلنا المضيء نجدّ ونتعب من أجلهم وتربيتهم أفضل تربية، ونجاهد لنوفّر لهم أفضل تعليم وأفضل نادٍ وأحسن كتاب ونغرس فيهم كلّ القيم الأخلاقية والدينية التي ترعرعنا عليها من الإيمان وفعل الخير وأشكال العفو والإحسان والفداء وغيرها من القِيَم .
كانت هذه الأحلام المشروعة محلّ تحقيق عبر عقود طويلة، ولكنها في زمن ألفيتنا الثالثة للميلاد باتت من أصعب الأماني، ليس لقصور الأسرة في التنشئة فقط، ولكن بفعل متغيّرات زمنية رهيبة صارت تتحكم بشكل أكبر في تنشئة الطفل وتغذية عقله ووجدانه أكثر من المنبع الرئيسي للأسرة، فصار الطفل تائهاً بين القيَم التربوية والاخلاقية وبين قيَم «الميديا» وتكنولوجيا العصر الفتاكة.
أظنّ انّ الأسرة في كلّ بقاع العالم صارت محتلة من ملوك تكنولوجيا العصر ووسائط «الميديا» المذهلة التي سرقت عقولنا ووجداننا وباتت توجهنا في شكل حياتنا وعلاقاتنا الاجتماعية وطرق تفكيرنا حتى صار تفكيراً معلباً جاهزاً نشتريه من «السوبر ماركت» بضغط زر يصل إلينا ويلبّي احتياجاتنا بلا عناء .
فإذا كان هذا حال الأسرة الكبيرة الناضجة والتي أمضت سنوات طوال في التعلم واكتساب الخبرات والمعارف تمّت سرقتها بمحض إراداتها، فما بال الأطفال الصغار يجدون متع سريعة وجاهزة دون ان يعوا كيف يوضع السمّ بالعسل !
فالطفل الضعيف الباسم فجأة صار عنيفاً جداً إذا لم يحصل على أغنية او رقصة او لعبة حركية على الموبايل او التلفاز، أما أطفال المدارس فقد انشغلوا عن التعليم بالألعاب الالكترونية التي تعلِّم مهارات مذهلة في فنون القتال والسطو على البنوك، والقتل تحت مزاعم الدفاع عن النفس أو المنافسة أو الاستحواذ على السلطة .
والأهل هم أيضاً منشغولون إما بالكدّ لتوفير متطلبات ذويهم او بالألعاب الالكترونية، بينما يقضي الصغار معظم أوقاتهم بالمدارس الخالية من الرقابة، ووسائل الإعلام التي تشكل تفكيرهم وتشلّه خاصة الألعاب الالكترونية حيث اكتساب العنف والجريمة بسهولة تدفع الطفل الى قتل نفسه بنفسه تطبيقاً لخطوات اللعبة الالكتروني. أشدّد أنني لست ضدّ الإطار بل ضدّ المضمون وضدّ كمية الوقت المصروف .
الأنكى من ذلك ما تمرّره أفلام «ديزني» من تقديم شخصيات غير سوية في الفئات الصغيرة بعيداً عن قيَم الأديان السماوية والأخلاقية والمفاهيم الاجتماعية والثقافية المتفق عليها عبر العصور .
انّ المجتمعات البشرية كلها بحاجة الى يقظة من التيه العقلي الذي صنعته التكنولوجيا بنا، ووضع يدها على موطن الداء الذي ينتشر كالسرطان الخبيث بين أطفال العالم ويقودهم للضياع بفعل خضوعهم للوحش الرقمي المسيطر على عقولهم.
بظني انّ البشرية كلها خاصة في منطقتنا العربية والشرق أوسطية مطالبة بسرعة استعادة الوعي والحفاظ على القيَم الأسرية التي تربّينا عليها وغرس هذه القيمة بنفوس الصغار، عبر آليات متعددة منها الدور الأسري في مراقبة أبنائهم في برامج التواصل الاجتماعي والاستفادة من برامج الخبراء والمتخصّصين في معالجة أبنائهم من التنمّر واكتساب خبرات لحماية صغارهم وأبنائهم من الابتزاز الالكتروني. بجانب الأدوار المهمة للتثقيف والتوعية للمدارس والجامعات والمؤسسات الثقافية والتعليمية والإعلامية بتوعية النشء من مخاطر الوحش الرقمي وضرورة تقليص نسبة مشاهدته والتواصل فيها الي اضيق الحدود.
العالم العربي كله مطالب بالتعاون في إنتاج أعمال فنية من تراثنا القديم وواقعنا الجيد الحديث وما نأمله من مستقبل متطوّر علمياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وتقديم هذه الأفكار بوسائل عصرية جاذبة تغرس كلّ فضائل الأخلاق والقيم اللازمة لتنشئة الصغار وصون هويتهم.
وبتقديري اننا في أشدّ الحاجة لوضع خطة عملية لاستثمار فترة العطلة الصيفية بالمدارس في خلق أنشطة تستهوي الطلاب من أنشطة رياضية وكشافة ومسابقات في الشعر والقصص وإقامة المعارض للوحات الفنية والأشغال اليدوية والحرفية وتعليم الخياطة والزراعة والبحث العلمي والاختراعات العلمية وغيرها من الأنشطة التي تستقطب وقت الطلاب في أعمال مفيدة وتحقق لهم أيضاً مروداً عملياً ناجحاً.
استغلال المدارس فترة الصيف لاستيعاب الأطفال من خلال نشاط صيفي يلعبون ويستمتعون ويقرأون قصصاً. كذلك تنظم المدرسة معارض للوحاتهم ومشغولاتهم اليدوية التي قاموا بها من أنشطتهم ومواهبهم وهو ما سيلقي ترحيباً من الأطفال.
وأعتقد انه على الأبوين ان يقدّما الأسوة الحسنة في تقليص استخدامهم للموبايل وأوقات اتصالهم بقنوات التواصل الاجتماعي وان يشجعوا أبناءهم على اكتشاف مواهبهم والعمل على تنميتها داخل الأسرة قبل النادي والمدرسة .
من المهمّ استفادة الأبوين من البرامج والتطبيقات المراقبة لحماية الأطفال، فهي تعمل «بلوك» على المناظر والمواقع والدعايات غير الأخلاقية، كما يبنغي على الأبوين تحديد الوقت الذي يقضيه الطفل على الموبايل، وترسل إشعارات للأبوين بالبرامج التي يستخدمها الطفل. وعليهما أيضاً تقديم النصح المباشر وغير المباشر لأبنائهم بعدم قبول صداقات غير معروفة لهم وعدم إفشاء أسرارهم مع غرباء عبر «الواتس اب» و»الماسنجر» وغيرهما من وسائل التواصل.