عودة الى نقاشات ما قبل الطائف والرئاسة خيار وليست اختياراً
ناصر قنديل
– لا يمكن الخروج من الأزمة الراهنة التي تبدو الانتخابات الرئاسية عنواناً لها من دون الإقرار بأن القضية أكبر من رئاسة الجمهورية، وأن العناوين التي أثارتها المقاربات الرئاسية المختلفة كشفت عمق الانقسام الوطني حول خيارات تأسيسية لا يمكن تجاوزها عبر الانتخابات، حيث رمزية الاختيار الرئاسي تعكس خياراً يتصل بفهم مختلف للكيان والوطن والدولة. وهذا معنى ان النقاشات الدائرة تستعيد مناقشات ما قبل اتفاق الطائف، رغم تأكيد كل الأطراف أنها تعمل تحت سقف الطائف.
– الواضح أن التقاطع على ترشيح الوزير السابق جهاد أزعور كما لا ينكر أركانه له عنوان واحد هو قطع الطريق على المرشح الوزير السابق سليمان فرنجية، لدرجة أن جماعة التقاطع لا يملكون جواباً على سؤال ماذا لو فاز أزعور، وماذا عن اليوم الثاني بعد الفوز؟ بينما يملك كل منهم جواباً واضحاً على سؤال ماذا لو أدى ترشيح أزعور الى سحب ترشيح فرنجية؟ وخلف كل مزاعم الحديث عن توصيف فرنجية بمرشح الفرض واعتبار رفضه ناتجاً عن هذا السبب، ادراك ان هذا شعار جاذب للحملة على فرنجية، لكنه مفبرك بمعرفة أصحابه، لسبب بسيط هو أن رفض فرنجية بدأ عندما كان الحديث عن ترشيحه همساً وفي لقاء تشاور مغلق ضم الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، وان الحديث اللاحق كان تحت عنوان دعوة حزب الله وحركة أمل للحوار ورفض التيار والقوات لأي حوار لا يسبقه شرط التخلّي عن ترشيح فرنجية، فالأصل هو جوهر الاعتراض على فرنجية.
– السؤال حول أسباب الاعتراض على فرنجية لا تجيب عليه التبريرات التي يقدّمها المعترضون، وهما الحزبان المتنافسان على زعامة المسيحيين منذ منتصف الثمانينيات، تيار العماد ميشال عون وقوات سمير جعجع، الواضح أن الاعتراض ليس على غياب حيثية مسيحية لدى فرنجية، كما يقولون، بل لخروج فرنجية عما يسمّونه بالإجماع المسيحي، والقرار المسيحي، وهو العنوان الذي استخدم لتبرير اغتيال الوزير السابق طوني فرنجية والد المرشح سليمان فرنجية. واختيار ازعور يؤكد أن المشكلة هي أن لدى فرنجية حيثية، وليس العكس، وأن الرئيس مطلوب بلا حيثية إذا تعذّر وصول أحد الزعيمين إلى الرئاسة، تعبيراً عن ربط نزاع بينهما، والمشكلة الثانية في فرنجية من وجهة نظر الزعامتين العونية والجعجعية مصرّح بها، وهي علاقته بسورية والمقاومة، وهي علاقة مرفوضة مبدئياً من قبل القوات، وعلاقة يجب أن تمر بزعامة العونية من وجهة نظر التيار الوطني الحر، لأن حروب الإلغاء بين الزعامتين لا تلغي حقيقة تبنيهما نظرة منتمية لفكر الجبهة اللبنانية، في المسألة الطائفية بخلاف نظرة فرنجية المعاكسة. فالطائفية ليست علة سياسية في النظام، بل هي تعبير حضاري وثقافي عن وجود مجتمعين مختلفين يحتاجان الى نظام سياسي ينظم هذا الخلاف. وهذا أمر مختلف عن التنوع والتعدد الطائفي. فالطوائف شيء والطائفية شيء آخر. ومفتاح القضية هنا هو مفهوم التمثيل السياسي، اي قانون الانتخابات النيابية. وما كشفه النقاش حول الانتخابات الرئاسية من امتداد للفكرة ذاتها، كل طائفة تختار نوابها ثم يختار نوابها الرئيس الذي ينتمي اليها.
– هنا لا تعود قضية الرئاسة اختياراً لرئيس بل خيار يمثله الرئيس، وفرنجية يثمل خياراً يقول ما قاله اتفاق الطائف، إن النواب المسيحيين والمسلمين يتم انتخابهم من ناخبين مسلمين ومسيحيين بعيداً عن معيار تقسيم الدوائر بطريقة تحقق نقاء اللون والعرق الطائفي لتضمن ما يُسمّى بـ صحة التمثيل المسيحي، أي انتخاب النواب المسيحيين من قبل الناخبين المسيحيين. وهو الأمر الذي تتمسك به “جماعة القرار المسيحي”، بصورة تريد فرض عُرف يُعدّل اتفاق الطائف نحو الفدرالية الواقعية، التي يكرسها عرف انتخاب رئيس الجمهورية المسيحي من النواب المسيحيين المنتخبين بأصوات مسيحية، وفي هذا الأمر لا يملك أي من القيادات المسلمة القدرة على المسايرة والمجاراة التي فرضها حزب الله على حلفائه بقوة المونة الأدبية لحساب حليفه التيار الوطني الحر. فهذا انقلاب على اتفاق الطائف، لأن المناصفة في مجلس النواب كانت مشروطة مهما تغيّرت التوازنات الطائفية بقبول مسيحي بالتخلي عن تقسيم الدوائر الانتخابية بطريقة تضمن انتخاب النواب المسيحيين، أي نصف البرلمان، من قبل الناخبين المسيحيين، أي ربع الشعب، ومثلها طائفة رئيس الجمهورية، لا مشكلة بتثبيت مسيحيتها طالما أن الرئيس سوف ينتخب من نواب مسلمين ومسيحيين يشتركون بالتساوي في انتخابه، وهم نواب قد تمّ انتخابهم بأصوات مسلمين ومسيحيين بالتشارك.
– الخيار من وجهة نظر التيار والقوات هو بين رئيس يمثّل جوهر الطائف الذي يعتبره الفريقان هزيمة للمشروع المسيحي التقليدي، ورئيس يُعيد تعويم هذا المشروع من شباك التمثيل المسيحي بعد أن أُخرج من باب رفض كل أشكال الفيدرالية والتقسيم، والذين تناقشوا في الطائف تداولوا بالفيدرالية صرفوا النظر عنها لأنهم عرفوا بأن الذهاب بالخصوصية الطائفية إلى أبعد مدى أي الفدرالية سواء كانت جغرافية أو ديمغرافية يعني التسليم بأن تكون قواعد إنتاج السلطة الاتحادية خارج القيد الطائفي كلياً، في الرئاسة وقيادة الجيش وحاكمية المصرف المركزي، وهي سلطات تبقى للدولة الاتحادية في الفيدرالية، ولا يمكن الجمع بين ميزات الفيدرالية الطائفية ومكتسبات الدولة المركزية الطائفية.
– هذا النقاش هو عودة بلبنان إلى ما قبل اتفاق الطائف، وهذا تفسير تراجع أهمية الخلاف بين التيار والقوات حول الموقف من المقاومة والنظرة لسورية، لأن القضية في مكان آخر. فالعلاقة بالمقاومة وسورية بنظر التيار هي علاقة يقيمها المرجع الممثل للمسيحيين مع العمق الإسلامي الوطني والقومي، وليست علاقة يلتقي عليها اللبنانيون من موقعهم كلبنانيين، وهي بنظر القوات اللبنانية علاقة يرفضها المرجع الممثل للمسيحيين، وليست علاقة يقبلها أو يرفضها المسيحيون بصفتهم مواطنين لبنانيين.
– الخيار الرئاسي هو اختيار بين نظام ما قبل الطائف مع التأقلم مع حدود التعديلات الدستورية التي أقرّت في الطائف، بنقل السلطة إلى مجلس الوزراء، من خلال إعادة إنتاج موقع رئيس للجمهورية تقف وراءه القوى المسيحية المنتخبة من نواب ينتخبهم ناخبون مسيحيون، يملك مفاتيح الشراكة من بوابة تشكيل الحكومة، أو رئيس يترجم الطائف ويعبر عن روحه القائمة على اعتبار المناصفة والتوزيع الطائفي صيغتين تنظيميتين تطمئن المكوّنات الطائفية في سياق مسار للاندماج الوطني يتيح التقدّم نحو إلغاء تدريجي للطائفية، كما نصّ الطائف، وقبل حسم الخيارات تبدو الاختيارات تلفيقاً، حتى لو مثلت للخارج منصة للتفاوض، والغريب أن تغيب هذه المقاربة على زعيم شريك دقيق في قراءة المقاربات الطائفية اسمه وليد جنبلاط؟