ويبقى ناصر رغم أنف الحاقدين…
} د. محمد سيد أحمد
ليست المرة الأولى التي نتحدّث فيها عن جمال عبد الناصر، ذلك الزعيم الأسطوري الذي غيّر وجه الحياة في مصر، عبر ثورته ورفاقه والتي سجلت في دفاتر التاريخ بثورة 23 يوليو/ تموز 1952، واستطاع الرجل بشخصيته الكاريزمية أن يسحر الجماهير سواء في بلاده أو خارجها، وعبر انحيازه للفقراء والكادحين والمستضعفين في الأرض تمكّن من حفر اسمه بحروف من نور في سجل الخالدين في تاريخ البشرية. ففي الكثير من بلاد العالم خاصة في أميركا اللاتينية وأفريقيا شيّدت تماثيل بِاسمه وأطلق اسمه على العديد من الشوارع والميادين، وبالطبع كان هذا هو الحال بالنسبة لمصر، وظلّ هذا الوضع قائماً لسنوات طويلة بعد الرحيل المبكر للزعيم الذي غيّب الموت جسده وهو في ريعان الشباب، لكن كالعادة لا يسلم العظماء من حقد الحاقدين.
ففي أعقاب الرحيل مباشرة بدأت الهجمة الشرسة على الرجل ومشروعه وثورته، فوجدنا أولاً الرئيس أنور السادات ليثبت أقدامه في الحكم يطلب إحضار تمثال لجمال عبد الناصر في مدخل مجلس الشعب لينحني أمامه، ويؤكد أنه سوف يسير على خطى جمال عبد الناصر. وبعدما استتبّ له الأمر بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، قام بالسير على خطى ناصر بأستيكة ليمحو كلّ ما فعله الرجل وما قام به من إنجازات لشعبه وأمته والمستضعفين في العالم، فتمّ استدعاء كتيبة من الكتاب والصحافيين كانت مهمّتهم الأساسية الهجوم على الزعيم الذي أصبح في ذمة الله ومحاولة تشويهه. ومنذ ذلك التاريخ والهجوم على ناصر لم يتوقف لحظة واحدة، وهناك مواسم يتجدّد فيها الهجوم على ناصر وثورته، ومن بين هذه المواسم ذكرى ثورته العظيمة في يوليو/ تموز من كلّ عام، وذكرى ميلاده في يناير/ كانون الثاني، وذكرى رحيله في سبتمبر/ سبتمبر، وخلال الأيام القليلة الماضية سمعنا خبر تغيير اسم أكاديمية ناصر العسكرية، لتصبح الأكاديمية العسكرية للدراسات العليا، وهو ما أثار جدلاً واسعاً وهجوماً من أنصاره ومحبّيه وعارفي فضله على مواقع التواصل الاجتماعي، وكان قد سبق ذلك تغيير اسم بحيرة ناصر لتصبح بحيرة السدّ، وتغيير اسم استاد ناصر ليصبح استاد القاهرة، وتغيير اسم مدينة نصر لتصبح مدينة مصر، هذا بخلاف إزالة تماثيل الرجل من العديد من المواقع في محافظات مصر، وتغيير اسم العديد من الشوارع التي كانت تحمل اسمه، وفي الوقت الذي يحدث فيه ذلك لا يزال العديد من عواصم دول العالم الثالث تحمل شوارعها اسمه وتحتفظ ميادينها بتماثيله.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن مَن الذي يقف خلف هذه الحملة لتشويه الزعيم الأسطوري؟! وهل هذه الحملة تستهدف ناصر فقط أم تستهدف مصر وتاريخها ورموزها؟! فجمال عبد الناصر ما هو إلا صفحة ناصعة البياض من تاريخ مصر الحديث والمعاصر، ولكلّ الحاقدين عليه نقول لن تتمكّنوا من هدفكم لأنّ الرجل يسكن في قلوب الفقراء والمستضعفين حول العالم…
عبد الناصر فكرة والأفكار لا تموت، فعند حلول ذكرى ثورته أو ميلاده أو رحيله، تتعالى أصوات الفقراء مترحّمة عليه وعلى أيام حكمه التي أنصفتهم وحققت لهم العدالة الاجتماعية المفقودة والعزة والكرامة في وطنهم بعد أن كانوا مهانين ومهدرة كرامتهم وإنسانيتهم, فقبل قيام ثورة 23 يوليو/ تموز 1952 كان المجتمع المصري يُعرف بمجتمع النصف في المئة، ذلك النصف الذي يسيطر على الثروة والسلطة والنفوذ مقابل السواد الأعظم من المصريين الذين يعيشون في ظروف صعبة للغاية ومعاناة في توفير الحدّ الأدنى من متطلبات الحياة.
ويلخص الزعيم جمال عبد الناصر أحوال المجتمع المصري عشية قيام الثورة في إحدى خطبه حيث يقول: «500 مليون جنيه مع 700 واحد… طب والـ 27 مليون عندهم أيه…؟ ده الوضع اللي ورثناه… ده الاشتراكية لما يبقى فيه عدالة اجتماعية، لكن مش العدالة الاجتماعية ولا المجتمع اللي نعيش فيه واحد يكسب نص مليون جنيه في السنة، وبعدين كاتب لأولاده أسهم كلّ واحد نص مليون جنيه… طب والباقيين الناس اللي ليهم حق في هذا البلد، أيه نصيبهم…؟ يورثوا أيه في هذا البلد؟ لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون الغنى إرثاً والفقر إرثاً والنفوذ إرثاً والذلّ إرثاً… لكن نريد العدالة الاجتماعية، نريد الكفاية والعدل، ولا سبيل لنا بهذا إلا بإذابة الفوارق بين الطبقات، ولكلّ فرد حسب عمله، لكل واحد الفرصة، لكلّ واحد العمل، ثم لكل واحد ناتج عمله».
وتكشف كلمات الزعيم عبد الناصر كيف كانت أحوال المصريين؟ وكيف كانت الخريطة الطبقية؟ وتكتشف أيضاً رؤيته الثاقبة وقراءته النافذة التي مكّنته من وضع يده على الجرح العميق في جسد المجتمع المصري، وقدرته الفائقة على التشخيص السليم ووضع روشتة العلاج، والذي تمثل في تحديد الأولويات التي جعلت من العدالة الاجتماعية الحلّ الأمثل التي لا يمكن أن تتحقق إلا بتذويب الفوارق بين الطبقات، لذلك جاء مشروعه المنحاز للفقراء منذ اللحظة الأولى ليوجه ضربات قاسمة إلى الإقطاعيين والرأسماليين والأجانب الذين لم يتجاوز عددهم 700 شخص كانوا يحوزون الثروة والسلطة والنفوذ، فكان قانون الإصلاح الزراعي وقرارات الـتأميم والتمصير ثم القرارات الاشتراكية، وهو ما أتاح الفرصة لتذويب الفوارق بين الطبقات، وإتاحة فرص التعليم والعمل أمام الجميع وهو ما حقق مجتمع الكفاية والعدل، حيث تغيّرت الخريطة الطبقية للمجتمع المصري ونمت الطبقة الوسطى بشكل غير مسبوق في تاريخ المجتمع المصري.
وزرع حب جمال عبد الناصر في قلوب الملايين من الفقراء والكادحين من خلال سرعة الاستجابة لهم وقدرته على فهم احتياجاتهم دون تصريح، ففي إحدى زياراته لصعيد مصر توقف القطار في إحدى المحطات ففوجئ عبد الناصر ومرافقيه برجل بسيط يصيح «أنا جابر السوهاجي يا ريس» ويلقي بصرّة داخل الديوان الذي يقف فيه عبد الناصر ورفاقه وقعت بين أرجلهم وتملك الحضور بعض من الارتباك نتيجة المفاجأة، وسارع أحد ضباط الحراسة الخاصة بالتقاط هذه الصرّة بحذر، وبدأ يفتحها وكانت المفاجأة أنّ الصرة لا تحوي غير رغيف من الخبز الناشف (بتاو) وبصلة في منديل يُعرَف لدى أهل الريف بالمحلاوي، ولم يفهم أحد من الحضور لماذا رمى الرجل بهذه الصرّة؟! إلا أنّ زعيم الفقراء كان الوحيد الذي فهم معنى الرسالة، وأطلّ برأسه بسرعة من القطار وأخذ يرفع صوته في اتجاه الرجل الذي ألقى بالصرّة قائلاً له: «الرسالة وصلت يا أبويا، الرسالة وصلت». وفور الوصول إلى أسوان طلب جمال عبد الناصر تقريراً عاجلاً عن عمال التراحيل وأحوالهم المعيشية، وفي خطابه مساء اليوم نفسه لجماهير أسوان قال: «يا عم جابر أحب أقولك إنّ الرسالة وصلت، وإننا قرّرنا زيادة أجر عمال التراحيل إلى 25 قرشاً في اليوم بدلاً من 12 قرشاً فقط، كما قررنا تطبيق نظام التأمين الاجتماعي والصحي على عمال التراحيل لأول مرة في مصر».
لذلك لا عجب أن يطلق الفقراء على قائدهم جمال عبد الناصر لقب زعيم الفقراء، فقد انحاز لهم قولاً وفعلاً، واتخذ من أجلهم العديد من الإجراءات الحاسمة، ودخل في العديد من المعارك لإنصافهم، وتحمّل ما يفوق طاقة البشر من الضغوط المحلية والإقليمية والدولية لكي يتراجع عن مواقفه وسياساته الاقتصادية والاجتماعية الداعمة للفقراء في مصر والوطن العربي والعالم الثالث، لذلك حين وافته المنية خرجت جموع الفقراء حول العالم لوداعه، ولا تزال ترفع هذه الجماهير صوره في كلّ بقاع الأرض كرمز للعدالة الاجتماعية، وهؤلاء جميعاً هم من يحفظون اسم الزعيم بقلوبهم، لذلك سيبقى ناصر رغم أنف الحاقدين، اللهم بلغت اللهم فاشهد…