الرياح الأميركية والعباءات الممزقة
} د. حسن أحمد حسن*
يدرك المتابع المهتمّ بديناميكية الفاعلية والتأثير للقوة المهيمنة على القرار الدولي أنّ النزعة الفوقية التسلطية الأميركية تحكم غالبية الطروحات التي تمّ تسويقها كمرتكزات للاستراتيجية الأميركية، حيث تفتقت النزعة العدوانية الاستعلائية للمشرفين على العمل في مطبخ رسم السياسات العليا عما لا يخطر على الذهن البشري من خبث ومكر ودهاء لضمان استعمار العقول والدول والمجتمعات، ودفعها للتسابق في تقديم فروض الولاء والطاعة والتعبير عن أسمى آيات الشكر والامتنان على التكرّم بتوجيه الرياح الأميركية الهوجاء لتعصف ببنية الدول والمجتمعات وطرائق التفكير لتصبح أكثر انبهاراً بمفرزات الهيمنة الأميركية التي كانت مكدّسة في بازارات النخاسة الفكرية التي افتتحها اليانكي الأميركي في شتى أصقاع الكون، وغلفها بلبوس نسائم التمدّن والحضارة والرقي، ليقنع الجميع بأن لا غنى لدولة في العالم عن التمتع بقطف ثمارها، لأنها المنتج شبه الوحيد المعروض للاقتناء في سوق التداول، فالعالم ـ وفق منطق أولئك ـ محكوم بـ «صراع الحضارات» المحكومة هي الأخرى بذوبان ثقافي حتمي، وتلاشي القيم الخاصة بكلّ الأمم والشعوب التي لا ترتضي الالتحاف بالعباءة الأميركية، كما لو أنّ التاريخ الإنساني وصل محطته الأخيرة في هوليود وفق ما تضمنته صفحات كتاب «نهاية التاريخ» وما على المحظوظين إلا التسابق والتدافع والتنافس للصعود إلى عربات القطار الأميركي ولو في العربة الأخيرة من مقطورات الشحن، وكذلك الأمر في «رقعة الشطرنج الكبرى» التي رسم معالمها زبغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأميركي لدى إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر مؤكداً أن لا فاعلية ترجى لأية قوة عالمية ما لم تقبل الاصطفاف على رقعة الشطرنج الكونية وفق الترتيب المقرر من المايسترو الأميركي.
تصدير هذه الرؤى والتصورات الأميركية لم يواجَه بعراقيل نوعية فاعلة، بل بأصوات خجولة ومتواضعة، وهذا ما شجع المشتغلين في دورة اتخاذ القرار على تسويق منتجاتهم الجديدة المسمومة على أنها خلاصة الفكر الاستراتيجي الخلاق والقادر الوحيد على ضمان الأمن والاستقرار العالميين، وتمّ تكليف مراكز الدراسات والمتخصصين بقصف العقول وغزوها واستباحتها بتوزيع العمل وإسناد الأدوار الوظيفية المتناسبة مع القدرات والإمكانيات لضمان تفكيك المجتمعات والدول، وهدم البنى السياسية القائمة، وإعادة ترتيبها لتكون أكثر ملائمة للدور القيادي المهيمن لواشنطن التي لم تخفِ إصرارها على أن تكون القطب الأوحد على امتداد القرن الحادي والعشرين، وفي ضوء هذا يمكن فهم التطبيل والتزمير الذي ترافق مع تسويق مصطلحات متناقضة تحت عناوين براقة: الفوضى الخلاقة ـ الشرق الأوسط الموسع ـ الثورات الملونة ـ «الربيع» العربي إلخ…
يمكن القول بكثير من اليقين: لولا النشوة الخادعة التي حكمت صناع القرار ومتخذيه لدى الإدارات الأميركية المتعاقبة ـ وبخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ـ وتوهّمهم أنّ نصرهم نهائي ودائم لكانت الهيمنة الأميركية أطول عمراً، وأكثر ديمومة ونفوذاً، فالحرب الناعمة التي حدّد معالمها «جوزف ني» في عام 1990، وطوّر مفهومها ومجالات الاستثمار بها في كتابه الصادر عام 2004 بعنوان «القوة الناعمة: وسائل النجاح في السياسة الدولية»، وفرت البيئة الإستراتيجية الأنسب لإحكام القبضة الأميركية على أيّ قرار دولي قد يتبلور في الأروقة الرسمية، لكن عقلية الاستكبار والتفرّد جرفت الإدارات الأميركية من خانة قيادة العالم إلى خانة التحكم الفوقي بالعالم، مع تبلور نزعة التنكر للحلفاء والشركاء والأتباع، وحصر امتيازاتهم بمدى نجاحهم بتأدية الأدوار الوظيفية التي تحدّد لهم، وحشرهم في جو من القلق والتوتر والبقاء تحت وطأة هاجس التخلي عن أيّ منهم في أيّ وقت، وإلقائه من العربة عند أيّ منعطف تريده حكومة الظلّ العالمية.
العامل الآخر الجوهري الذي فعل فعله في تآكل الهيبة الأميركية وانحسار الفاعلية والتأثير أو تراجعها على أقلّ تقدير خاص بأطراف محور المقاومة، ورفض نزعة الهيمنة ومصادرة الإرادات، والإصرار على التمسك بمقومات السيادة والكرامة مهما ارتفعت سقوف الضريبة المطلوب دفعها، وليتصوّر أيّ متابع الواقع الذي كان سيحكم المنطقة لو سارت سورية في تيار الشرق الأوسط الجديد الذي بشرت به كونداليزا رايس على وقع نزف دماء أطفال لبنان وتدمير بنيته التحتية وتهجير أهله والقضاء على مقاومته التي أثبتت أنها على قدر التحدي والمسؤولية، فكان التصدي البطولي الذي اضطلع به حزب لله وبقية أنصار المقاومة وجمهورها المحتضن لها في مواجهة الوحشية الإسرائيلية في حرب تموز وآب 2006، وتعفرت أنوف الجنرالات الصهاينة بأوحال الهزيمة والانكسار، وليتخيّلْ أيّ إنسان طبيعة العلاقات الدولية وتوازن القوى إقليمياً وعالمياً اليوم لو لم تقم الثورة الإسلامية الإيرانية، أو لو تردّدت القيادة في طهران وجاملت الطروحات الأميركية، أو لو قبلت فقط غضّ الطرف عما يجري في المنطقة من أحداث وتطورات، أو لو تركت الوحشية الإسرائيلية لتستفرد بالأشقاء الفلسطينيين… أو … أو…
هذا لا يعني التقليل من أهمية مواقف بقية الأطرف الدولية الرافضة للسير في الفلك الأميركي مثل روسيا والصين وفنزويلا وكوريا الشمالية وبقية الدول التي تتمسك بمقومات استقلالية قرارها السيادي اليوم، لكن لا بدّ من الأخذ بالحسبان محدّدات التعامل السياسي واختلافها من دولة إلى أخرى، فوقوف روسيا أو الصين في مواجهة مباشرة مع واشنطن يعني احتمال نشوب حرب عالمية، وهذا ما لا يستطيع أيّ طرف تحمّل تداعياته، لذلك تتضاعف أهمية ما قدّمه محور المقاومة، وما اتخذه من مواقف مسؤولة ومهمة ساهمت في تآكل الهيبة الأميركية، وقدّمت الحوافز المشجعة للدول الأخرى لترفع الصوت في وجه الغطرسة الأميركية، وهكذا كان الانتقال التدريجي الذي وصل إلى اتخاذ القرار العلني بالمواجهة المفتوحة ـ وإن كان بشكل غير مباشر ـ فكانت العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا التي لا تزال مستمرة دفاعاً عن الأمن القومي الروسي، وهذا حقّ مشروع يكفله القانون الدولي وميثاق هيئة الأمم المتحدة، وتتالت الاختراقات الصينية التي بلغت ذروة جديدة بإشراف مباشر من الصين على إبرام الاتفاق السعودي ـ الإيراني وما يتضمّنه من رسائل ودلالات غنية في كلّ ما قد يشهده المستقبل القريب والمتوسط من أحداث وتطورات في هذه المنطقة الجيوستراتيجية من العالم، وكلّ هذا قد يكون مقدّمة لمزيد من التحوّلات البنيوية الكونية التي تلوح بوادرها واضحة في الأفق بعد أن ضاق العالم ذرعاً بمنطق التفرّد والغطرسة والاستعلاء والتكبّر والتجبّر الذي يحكم سياسات واشنطن، إلى درجة لم يعد يرضيها أن ينضوي الجميع تحت عباءتها، بل ذهبت إلى التدخل في شكل ما يلبسه كلّ طرف تحت تلك العباءة، وما قد يأكله ويشربه كلّ فرد بعد أن يغلق عليه باب بيته، وبالتالي أصبح المطلوب تغيير القيم والقناعات الذاتية والمفاهيم الحياتية وطرائق التفكير والعيش للفوز بالرضا الأميركي، وهو مستحيل المنال إلا بشكل مؤقت وعابر، ولا يمكن لمثل هذه السياسة العدوانية الإقصائية أن يكتب لها النجاح ولا البقاء، ويخطئ من يظن أو يتوهّم أنّ امتلاك ترسانات القتل والإبادة، مع متطلبات اجتياح العقول وإشعال الحرائق المتنقلة وإذكاء الفتن والحروب الممنهجة يستطيع أن يصادر إرادة جميع الآخرين، فكلما اشتدّت الرياح والأعاصير والعواصف كلما ازداد أصحاب عباءة الأصالة والحضارة ونقاء الانتماء تمسكاً بعباءاتهم ولو كانت ممزقة، في حين أنّ سطوع الشمس وانتشار الدفء والطمأنينة كفيل بدفع الغالبية للتعرّف على الأجواء والأوساط المحتملة التي توفر الراحة والاستجمام والتمتع بالمنجزات الجديدة للحضارة الإنسانية بعيداً عن الفرض والإكراه وتبديل القناعات والمبادئ والهوية لأنها جزء لا يتجزأ من شخصية الأفراد والشعوب، ولو تمّ تخصيص مكافحة الأمية والأمراض السارية والفقر والعوز والتخلف على مستوى العالم بواحد بالمئة من الأموال التي أنفقت جراء الحروب والصراعات والفتن التي اختلقها الغرب المنافق بزعامة أميركا لكانت البشرية بكليتها في ضفة أخرى.
*باحث سوري متخصص
بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية