الحرب الأوكرانية… ماذا عن المواجهة الروسية ـ الأميركية!؟
} هشام الهبيشان
تزامناً، مع قرار أميركا بفرض مزيد من العقوبات الأميركية على روسيا على خلفية التطورات العسكرية مؤخراً في أوكرانيا، والدفع بمزيد من الدعم العسكري لأوكرانيا، يبدو أنّ الواقع المؤكد بهذه المرحلة أنّ كلا الدولتين الروسية والأميركية تعيشان الآن بحالة حرب عسكرية ساخنة جداً قد تتطوّر مستقبلاً إلى صدام عسكري مباشر، وعلى الأغلب سيكون مسرح هذا الصدام العسكري هو الأراضي الأوكرانية أو ما يحاذيها من الأراضي الأوروبية المنخرطة في حلف الناتو، وهنا نقرأ أنّ جميع المؤشرات المتولدة من قرار بوتين بتصعيد الحرب في أوكرانيا، تؤكد بأنّ الروس بهذه المرحلة تحديداً، وأكثر من أيّ وقت مضى أصبحوا بشكل أكثر واقعية تحت مرمى وتهديد مشروع أميركا وحلفائها، فهم اليوم باتوا بين مطرقة حلف الناتو الذي بات بحكم الواقع يهدّد أمن الحدود الروسية، ويشكل خطراً محدقاً بأمن المنظومة العسكرية الروسية، وخطر خسارة أوكرانيا لصالح الغرب، واحتمال فقدها لكثير من مناطق نفوذها بالشرق الأقصى والشرق الأوروبي وبالشرق العربي، وسندان تقويض جهودها التوسعية والوصول إلى مناطق ومراكز نفوذ جديدة والاستغناء عن مراكز نفوذها القديمة لصالح القطب الأوحد الأميركي والانكفاء على نفسها، وليس بعيداً عن كلّ ذلك الملف السوري وغيره من الملفات وخصوصاً الثروات الطبيعية وملفات حقول الطاقة بالدول التي تتحالف مع الروس «الثروات الطبيعية الإيرانية ـ كمثال»، ومن جهة أخرى يدرك الروس حجم المؤامرة الأميركية، والتي أفرزت ما يُسمّى «حرب النفط»، والتي تستهدف إركاع القوة الروسية.
البعض يعتقد أنّ الروس كسبوا عندما انفصلت شبه جزيرة القرم عن أوكرانيا أو أنّ الروس سيكسبون أيضاً عندما أعلنت بعض مناطق الشرق الأوكراني انفصالها عن أوكرانيا، وهذا الموضوع بالذات هو خسارة كبيره لروسيا والروس أنفسهم يدركون ذلك فهم خسروا ما كان بالأمس يُحسب بالمطلق عليهم وربحوا اليوم جزءاً مما كان بالأمس يُحسب عليهم، فهم خسروا تقريباً الكلّ واستطاعوا أن يعيدوا جزءاً من الكلّ لهم وهذا بتحليل وقراءة الجغرافيا السياسية وبعلم السياسة الدولية هو خسارة سياسية وأمنية فادحة بالنسبة للروس، فاليوم هم أصبحوا شبه محاصرين فمن الشرق والشمال نصبت الدرع الصاروخية الأميركية والجنوب والغرب بدأ تدريجياً يخرج عن نفوذهم، وبوتين نفسه يدرك حقيقة هذه الأخطار.
والسؤال هل ستسمح روسيا لأميركا بأن تملي عليها وتفرض عليها واقعاً جديداً؟ وخصوصاً بعد تعهّد أميركا باستمرار الدعم العسكري لأوكرانيا، فاليوم الروس يواجهون مشروعاً غربياً الهدف منه تقويض الجهود الروسية في الوصول إلى مراكز قوى جديدة ومناطق نفوذ أوسع تحقق لهم قوه دراماتيكية على الصعد السياسية وحينها ستكون روسيا واحدة من القوى الأكبر دولياً المؤثرة أكثر من أيّ وقت مضى بصناعة القرار الدولي، فمنذ انهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع التسعينات من القرن الماضي وانقسام جمهوريات الاتحاد إلى كانتونات متفرّقة ومع تعدّد انتماءاتها وولاءاتها، أصبح الغرب يتطلع أكثر وأكثر إلى كسب هذه الجمهوريات إلى صفه لتكون ورقة ضغط على الروس في أيّ تسويات دولية مقبلة لتقاسم مراكز القوة والنفوذ والثروات في العالم، وحينما أدرك الروس انّ الغرب تمادى أكثر وأكثر بهذه الممارسات الاستفزازية، وبدأ الحديث عن نظام الدرع الصاروخي المنصوب شرقاً وعلى مقربة من الدولة الروسية في بعض الجمهوريات التي كانت تحسب عليهم في حلفهم واتحادهم السابق وهو الاتحاد السوفياتي في بعض جمهوريات الشرق الأوروبي وبعض دول الشرق الآسيوي، بالإضافة إلى تركيا وبعض دول جوارها الأوروبي، حينها أيقن الروس وأخذوا القرار بأنهم عليهم التكشير عن أنيابهم أمام هذه الغزوة الكبرى والتهديد المحدق بهم.
في مطلع شهر آب من عام 2008 قامت القوات الجورجية بهجوم عسكري من جورجيا على مقاطعتي أبخازيا وجنوب أوسيتيا المواليتين للروس، وبعدها قامت القوات الروسية بهجوم مضاد سريع وعنيف على جورجيا لتحسم المعركة بوقت قصير جداً، ويعلم جميع المتابعين لخفايا ما وراء الكواليس انّ الروس لم يقرّروا الولوج بمعركة جورجيا الا لإيصال رسائلهم للغرب وأميركا، وحينها وصلت الرسالة وبدأت هذه الدول وخصوصاً أميركا بإعادة دراسة لسياستها الخارجية اتجاه روسيا بعد حرب جورجيا، بعدما وصلتهم الرسالة الروسية شديدة اللهجة والإنذار الأخير لهذه الدول بأنّ روسيا ستردّ على كلّ من يهدّد أمنها ومراكز نفوذها، فمنذ تلك الواقعة نرى الموقف الغربي في تشدّد أحياناً اتجاه روسيا ببعض قضايا دولية وبتوافق بأحيان أخرى وبخلاف سياسي ببعض حالات، مع العلم أنّ هناك مجموعة من الخلافات حصلت بعد حرب جورجيا خلافات دبلوماسية احياناً واقتصادية أحياناً أخرى وأمنية ببعض أحيان وتشابك وتعقيدات ببعض الملفات مثل ملف إيران النووي وكوريا الشمالية وأفغانستان وغيرها من الملفات.
في مطلع عام 2011، انطلق ما يُسمى «الربيع العربي» وبدأت هنا مرحلة جديده فمراكز النفوذ بدأت بالتحوّل ومراكز القوى تغيّرت، وهنا قرّر الغرب انه يجب إعادة تقسيم الكعكة العربية، ومن هنا أنطلقت أولى هذه الخلافات حول الربيع العربي وتوزيع مراكز القوى فيه، بين الغرب وروسيا، وأولى هذه الخلافات كانت في ليبيا وعندها طعنت دول الغرب روسيا بالظهر في ملف ليبيا وحينها خسر الدبّ الروسي مركز نفوذ في المغرب العربي وشمال أفريقيا كان يشكل عامل أمان للروس وقوة في هذه القارة ومعبر أمان للدولة الروسية للاتساع والولوج أكثر بعلاقاتها مع باقي دول المغرب العربي وشمال أفريقيا وشرقها، فبعد أن أدرك الروس أنهم طعنوا من دول الغرب وأدركوا أن هناك مؤامرة كبرى تستهدف مراكز نفوذهم بالمنطقة العربية .
وعندما اتسع نطاق هذا الربيع العربي ووصل الى سورية برزت إلى الأحداث «الورقة السورية» وهنا استمات الروس في الدفاع السياسي والإمداد اللوجستي العسكري والاقتصادي للدولة العربية السورية وجيشها العربي، ومن مبدأ أنها إذا خسرت سورية فأنها ستخسر نفوذها وقاعدتها الأخيرة وحلفها الأخير مع دول المشرق العربي، فهي بسورية تسير بخط ونهج مستقيم غير قابل للتشكيك لأنها تدافع عن نفسها اليوم من سورية فإذا سقطت سورية فالروس يدركون انّ الهدف المقبل للغرب ولو تدريجياً سيكون روسيا، ولذلك هم اليوم يستميتون في سورية، فساسة وجنرالات موسكو يؤكدون بمواقفهم أنهم يسيرون بسورية بخط ونهج مستقيم غير قابل للتشكيك، ومن مبدأ أنّ موسكو تدافع عن نفسها اليوم من دمشق فإذا سقطت دمشق فالروس يدركون انّ الهدف المقبل للغرب ولو تدريجياً سيكون موسكو ولذلك هم اليوم يستميتون في سورية، فهم أدركوا حقيقة المؤامرة الكبرى عليهم أولاً وثانياً على الدولة السورية.
ختاماً، يبدو واضحاً أنّ روسيا لن ترضخ أمام كلّ هذه الضغوط، التي تفرضها عليها واشنطن وحلفاؤها عسكرياً واقتصادياً وأمنياً وسياسياً، والواضح أنّ الدب الروسي كشر عن أنيابه من جديد ليعيد الكرة الى الملعب الأول عن طريق الولوج بمعركة مفتوحة سياسية وعسكرية غير مباشرة مع قوى الناتو والهدف من هذا العمل العسكري في أوكرانيا، هو إيصال رسائل موسكو مجدّداً للغرب وحلفائه بأنّ الروس موجودون ولن يتنازلوا وسيستمرون بالتوسع بكلّ الاتجاهات، والمرحلة المقبلة من المؤكد أنها ستعطينا صورة أوضح لملامح وشكل موازين القوى بالعالم الجديد التي يتمّ صنع موازين القوى ومراكز النفوذ فيه من جديد.