أولى

صندوق النقد ومصرف لبنان: لن ننخدع

لا يُخفى على قارئ التقرير الأخير لصندوق النقد الدولي تلمّس حجم القلق الذي يحكم كتابة التقرير من استغناء لبنان عن وصفات الصندوق، والتقرير يتحدّث عن خطة لمصرف لبنان تدير هذا التأقلم البديل مع الأزمة، ويعرض ملامحها ويتحدّث عن نجاحاتها.
الحقيقة أن الصندوق يملك دائماً سلاحاً خفياً يقود من خلاله الدول إلى وصفاته، والسلاح الخفيّ هو التدهور المتمادي لمفاعيل الأزمات والانهيارات، بحيث يقول الصندوق دائماً ليس أمامهم من خيار إلا وصفاتنا، لكن هذه المرة يشعر الصندوق بالقلق لأنه فقد هذا السلاح السحريّ فبدا أن لبنان يملك بديلا، فهل صحيح أن البديل هو خطة تأقلم يديرها مصرف لبنان؟
لم ينجح التقرير في رسم صورة واضحة لما يصفه بخطة مصرف لبنان، لأن الحقيقة الثانية هي أن ليس هناك خطة لدى مصرف لبنان، بل إن الأصح هو أن مصرف لبنان يركب موجة تأقلم يقوم به اللبنانيون منذ 2019 مع الأزمة، ومحاولة احتوائها. وجوهرها تخفيض الاستهلاك بما يتماشى مع انخفاض قدراتهم الشرائية ما أدى إلى تراجع الاستيراد، وبالتوازي الذهاب لتطوير الإنتاج المحلي وزيادة التصدير على حساب الاستيراد. ومن جهة ثالثة موجات من الهجرة الاقتصادية في قلبها قدرات إنتاجية وسعت دائرة التحويلات التي يقوم بها اللبنانيون، إضافة لانضمام لبنانيين مهاجرين إلى قاعدة محوّلي العملات من الخارج، توسيع نطاق مشاركة المغتربين في تنشيط السياحة وإنفاق الأعياد والمناسبات، بحيث أن لبنان تمكن وسوف يتمكن مع نهاية هذه السنة أكثر من تحقيق فائض في ميزان المدفوعات.
الاستيراد لم يتجاوز العشرة مليارات دولار هذه السنة، والتصدير بلغ أكثر من أربعة مليارات، والتحويلات زادت عن ثمانية مليارات، عائدات السياحة والأعياد أكثر من أربعة مليارات، ورغم تراجع تحويلات منظمات المجتمع المدني لتراجع الاهتمام الخارجي باللعب السياسي في لبنان، تحوّل ميزان المدفوعات من سلبي إلى إيجابي.
ما يفعله مصرف لبنان هو ركب موجة هذه التحوّلات، بدلاً من مواكبتها بخطة تتيح توظيف هذا الفائض في إعادة هيكلة القطاع المصرفي وإعادة أموال المودعين، فيستعمل الفائض في منصة صيرفة لتلبية الطلبات على الدولار لتحويله إلى الخارج من كبار المودعين المحظيين عبر المصارف. والدليل بسيط، وهو هل سأل أحد كيف يتمكّن مصرف لبنان من ضخّ مليارات الدولارات سنوياً عبر منصة صيرفة وفقاً لأرقامه، ويثبت سعر الصرف تحت سقف المئة ألف ليرة، وخلال سنتين لم يتحرّك احتياطي مصرف لبنان هبوطاً، على حافة العشرة مليارات دولار؟
مشكلتنا مع صندوق النقد، أنه يريد لنا الانهيار ليفرض علينا الاستسلام لوصفاته، وفقاً لمعادلة معاونة وزير الخارجية الأميركية باربرا ليف أن الوضع يحتاج المزيد من السوء ليبدأ بالتحسن، ومصرف لبنان يريد إخفاء حقيقة أن الوضع يتحسّن ليتمكن من الانفراد بالتصرّف بعائدات هذا التحسن ومنع وجود أي خطة توظيفه في الخروج من الانهيار.
للذين تخونهم الذاكرة، هذا ما حدث معنا عام 1992، بعد الانهيار، وتوهّم اللبنانيون أن هناك تدفقات خليجية سمحت بالخروج من الانهيار، بينما كانت الحقيقة أن دينامية التأقلم بوجوهها نفسها كانت هي من فعل ذلك، وركب مصرف لبنان الموجة يومها، كما يعيد الكرة اليوم.

التعليق السياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى