أولى

«فاغنر»… خطوة صراعيّة لتوليد نظام دولي جديد

‭}‬ د. جمال زهران*
كثرت التحليلات، نتيجة تدفق ضخم من المعلومات، حول ما فعله قائد قوات «فاغنر» (يفغيني بريغوجين)، وهل هو انقلاب على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أم أنه محاولة خداعية لأميركا والغرب في إطار إخراج وتنسيق مخابراتي روسي، لمحاولة الإيقاع بالمخابرات الأميركية ومرمغة سمعتها في الأرض، بهزيمتها وكشف عوراتها، وافتضاح فشلها على الملأ العالمي؟
بعبارة أخرى، هل ما حدث في روسيا، وعلى بُعد (200) كيلو متر، من العاصمة الروسية (موسكو)، كان حقيقة أم خيالاً وترتيباً مخابراتياً؟ وأذكر في هذا الصدد، واقعة عامة وشخصية في الوقت نفسه، تفسّر قدرات المحلل السياسي على استنطاق ما حول الحدث ومناقشته وتفسيره، واستقراء المستقبل على ضوئه. حيث كنتُ محللاً سياسياً دائماً في قناة أبو ظبي، في الفترة بين التسعينيات وما بعد الألفين، ولنحو (10) سنوات، على ما أذكر، وفوجئت باتصال المسؤولين في القناة لاستدعائي للتعليق على حدث اغتيال رئيس الوزراء اللبناني (رفيق الحريري)، الذي لم يكن قد مرّتَ عليه ساعة فقط! وبالفعل ذهبت إلى الأستوديو وكنت قريباً منه بالصدفة، في القاهرة، في مبنى على النيل بجوار مبنى اتحاد الإذاعة والتلفزيون بكورنيش النيل (ماسبيرو). وقد مكثت أتابع الحدث والمعلومات المتدفقة، حيث إنني لم أكن أعرف عنه شيئاً على الإطلاق. ثم استدعيت للتعليق على الحدث وكان هو الخبر الأول في النشرة على رأس الساعة، بين الثالثة إلى الرابعة بعد الظهر، على ما أذكر. وكان اللقاء عاصفاً، حيث سألتني المذيعة، ما هو تعليقي على الحدث ومَن وراءه، وأهداف عملية الاغتيال؟ وأجبت أنه حدث مؤسف إلخ… ثم قلت: إنّ الذي وراء ذلك هو «مخطط أميركي صهيوني»، بفعل أجهزة المخابرات بين البلدين، فسألتني: وكيف تحكم على ذلك رغم أنّ الحدث لم يمرّ عليه إلا وقت محدود (ساعة أو أكثر)، فقلت لها: طريقة الانفجار المرتَّب له بعناية شديدة، ومن حيث المكان وقوّته إلخ… ثم أشرت إلى الأهداف: قلت لها إنّ الهدف الأول هو إخراج سورية من لبنان، بتوجيه الاتهام لها إلخ… ولم تمرّ أسابيع على الحدث إلا وخرجت قوات سورية من كلّ لبنان، طبقاً للمخطط الأميركي الصهيوني، تفادياً لاستمرار إلصاق التهمة إلى سورية وقيادتها.
ومما قلته إنه من المستحيل أن تكون سورية هي الفاعل في جريمة الاغتيال، لأنها أذكى من ذلك بكثير. وبعد سنوات من التحقيق الدولي تجاوزت العشر سنوات، خرجت اللجنة الدولية بتقريرها، بأنّ سورية ليست الفاعلة، ولم توجه التهمة إلا إلى أشخاص بلا هوية، بل بعضهم ليسوا بأحياء أصلاً، ولم تجرؤ اللجنة على توجيه الاتهام للمخابرات الأميركية/ الصهيونية، بأنها الفاعل، وقيّدت الجريمة ضدّ مجهول!
وقد أشرت إلى ذلك، رغم أنه موضوع شخصي ـ حيث أوقفت قناة أبو ظبي، التعامل معي نهائياً، بعد أن وجهت اتهاماً مباشراً بحكم قدراتي على التحليل السياسي السليم واستشراف المستقبل وبسرعة، إلى المخابرات الأميركية الصهيونية، استناداً إلى تسرّعي في التحليل! ولم أندم أبداً، وأطال الله في عمري، كي أعرف أنّ ما قلته كان صحيحاً تماماً، حيث أثبتته الأيام. إلا أنّ ما أشرت إليه، كان موضوعياً، في ما يتعلق بقدرة المحلل السياسيّ على استشراف المستقبل، على ضوء التوصيف الدقيق للحدث، ومن ثم فإنّ القراءة الدقيقة لحدث «فاغنر» وما وراءه، يجب أن يفهم في إطار السيناريو الأكثر قرباً للصحة والواقع.
فإذا كان ـ وباحتمال ـ أنّ ما قام به (يفغيني بريغوجين)، قائد قوات فاغنر، حقيقياً، وانقلاباً ضدّ بوتين، وكان على بعد 200 كيلو متر من جنوب موسكو، فلماذا لم يتقدّم، وكان يمتلك القدرة على الحسم وإسقاط السلطة في موسكو، وإلقاء القبض على بوتين، ووزير دفاعه (سيرغي شويغو)، ورئيس الأركان الجنرال (فاليري غيراسيموف)، وتولي قيادة روسيا، وإنهاء الحرب في أوكرانيا، وانسحاب روسيا بالكامل منها، وعودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل 24 فبراير 2022؟!
فقد بدأت الأمور بتحرّك قوات «فاغنر»، نحو موسكو صباح يوم السبت 24 يونيو/ حزيران 2023، ثم كان ردّ فعل بوتين السريع، الإعلان عن ذلك الانقلاب، وتوجيه تهمة «الخيانة العظمى» لقائد فاغنر، وتقديم قادة الانقلاب لمحاكمة عاجلة وقطع رقابهم! ولم يمض يوم واحد (24 ساعة)، حتى كان «الانقلاب المزعوم»، قد انتهى! وذلك عبر وساطة رئيس بيلاروسيا، المتحالف مع بوتين، بين قائد «فاغنر»، وبين بوتين، يتمّ بمقتضاه خروج فاغنر وقائدها ومساعديه إلى بيلاروسيا، وليكونوا مقدّمة في المواجهة مع أوكرانيا والغرب الأوروبي والأميركي، وإعلان بوتين بإسقاط تهمة الخيانة العظمى عن قائد فاغنر وزملائه! وانتهى الأمر عند هذا الحدّ! والسؤال هنا: هل هذا يصدّق، بعد أن كان قائد فاغنر، «قاب قوسين»، على مقربة ساعتين، من موسكو، ولم يكن يعوقه شيء؟! الرأي عندي أنّ هذا لا يُصدّق، بعد أن كانت روسيا على شفا حرب أهلية وتفكك بأسرع مما يتخيّله أحد…
وفي المقابل كانت تصريحات بوتين التالية: إنّ المخابرات الأميركية ليست بعيدة عما حدث، الأمر الذي دعا بايدن، إلى نفي ذلك! وبين التصريحين، يتأكد وجود المخابرات الأميركية وهي الشريكة في كلّ المؤامرات في العالم، وكمحاولة سلمية/ عسكرية، داخلية، بإسقاط بوتين، عبر تجنيد قائد فاغنر، كما حدث من قبل، بتجنيد غورباتشوف، ومن بعده يلتسين، حتى عاد زعيم جديد هو بوتين.
إلا أنّ الحقيقة قد كشفت على الفور، حيث اتضح أنّ الرواية الصحيحة، هي أنه قد تمّ السماح من المخابرات الروسية، لقائد فاغنر، بقبول التعامل مع المخابرات الأميركية، والتظاهر بقبول العرض بالانقلاب على بوتين، مقابل أن يتسلم فعلاً (6.2) مليار دولار، وهو ما حدث فعلاً. وبدأت تحرّكات قائد فاغنر، وكأنه قد انقلب على بوتين، لكن سرعان ما أعلن التراجع، بعد إثبات الجريمة الأميركية عبر مخابراتها، لتتمكّن المخابرات الروسية من الإيقاع بالمخابرات الأميركية، في ضربة غير مسبوقة.
وبالتأكيد أكاد أصدق أنّ ما حدث لم يكن انقلاباً حقيقياً، بل مجرد تظاهر يُخفي لعبة مخابراتية وتأكيد انتصار المخابرات الروسية وهزيمة المخابرات الأميركية. وهو الأمر الذي يؤكد الانتصار الروسي في أوكرانيا، وهزيمة أميركا وأوروبا، فيها في المقابل.
ولا يزال الصراع الروسي الأميركي، يزداد ويتطوّر، من أجل توليد نظام دولي جديد، يصبح الشرق فيه الفاعل الرئيسي، والغرب في انحسار وضعف وخذلان. ولا تزال الأيام تكشف كلّ يوم صدق ما توقعناه من البداية، حيث كانت سورية ثم أوكرانيا، محطات لهذه التحوّلات الدولية بلا منازع، تتوازى مع محطة كوبا وأزمة خليج الخنازير في بداية الستينيات من القرن العشرين.
*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية ـ جامعة قناة السويس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى