ميثاق جديد (3)
مأمون ملاعب
يقع لبنان على فالق اليمونة الزلزالي الهادئ نسبياً ويتحرّك في فترات متباعدة، أما دولة الكيان اللبناني فقد أنشئت فوق فالق زلزالي من نوع آخر ويتحرّك في فترات متقاربة زمنياً وتأثيره يزداد مع الوقت. فمن زلزال 1958 المتوسط القوة مروراً بزلزال 1973 إلى الزلزال الكبير عام 1975 وارتداداته الطويلة والعنيفة، والذي دمّر الدولة والكيان مخلفاً عشرات الآلاف من الضحايا…
وقبل أن ينهض لبنان من الكارثة وقع زلزال 1982 وارتداداته العنيفة خلال عامي 83 و84 والتي شهدت القتل والمذابح والتهجير والتدمير. ظنّ اللبنانيون أنّ البلد يتعافى في التسعينيات وما بعد خصوصاً بعد التحرير إلا أنّ زلزال 2005 فاجأهم، ومن بعده زلزال 2019 والذي أتى ناعماً وهادئاً لكنه كان كافياً لهدّ البناء بالكامل، فإذا بلبنان دون مدارس (بالمعنى الفعلي) وأجيال جديدة خارج التعليم، ودون جامعات ومستقبل الطلاب مجهول، ودون مصارف وأموال الناس منهوبة، ودون مستشفيات والناس موجوعة، ودون قضاء والعدالة مفقودة…
تكثر الزلازل في اليابان حتى قيل إنّ الأرخبيل بُني على سمكة كبيرة، لذلك يبنون بيوتهم بطريقة مقاومة للزلازل، أما في لبنان ورغم كثرة الزلازل وبشاعة بطشها لا يزال البناء يقوم على أسس متحرّكة رغم ما يُقال عن فطنة وعبقرية ودهاء الشعب اللبناني.
يقول جبران خليل جبران:
لكم لبنانكم ومعضلاته…
لبنانكم عقدة سياسية…
لبنانكم مشكلة دولية…
لبنانكم طوائف وأحزاب..
لكم لبنانكم ولي لبناني.
لقد كفّروه بلبنانهم فتبرّأ منهم وأخذ لنفسه جمال طبيعة لبنان وبراءة الصبية والفتيان. ظنّ أصحاب اللبننة ودعاة حب لبنان، وبعضهم الأكثر فتكاً به، ظنّ بعضهم أنّ الاستعارة من جبران تكشف عن عبقريّتهم فقال أحدهم «لكم لبنانكم ولنا لبناننا». كيف لا فهو لا يُتقن إلا نفث السموم. يريدون لبنانهم أصغر من لبنان الصغير وعلى مقاسهم، حيث يستطيعون طبخ الحقد وأكل الكراهية.
قال سعاده إنّ لبنان نطاق ضمان الحرية فقتلوه. لم يقدروا على تكفير سعاده فبقي مؤمناً بشعبه ووطنه، فقال لبنان يهلك بالحزبية الدينية ويحيا بالاخاء القومي. لم يستطيعوا حتى سماع الكلمات.
ليست الانعزالية صفة أطلقت على المسيحيين في لبنان بل أطلقها سعاده على الذين لا يرون في قضية الأمة قضيتهم ولا في تاريخها تاريخهم ولا في مصلحتها مصلحتهم. بل إنّ بعض المتطرفين منهم يتمنّون أن يقصّوا لبنان من جغرافيته ليعزلوه أو يلحقوه بالغرب فوقفت استراتيجيتهم على أنّ السوري عدو والفلسطيني عدو، ولم يكن اليهودي (ولا بتسمية صهيوني) يوماً عندهم عدواً…!
طرأت بعض المتغيّرات في لبنان والمنطقة بعد 2005 مروراً بأحداث الشام أرخت باعتبارات جديدة واصطفافات غريبة في مفهومي الانعزالية والعروبة. فإذا ببعض دعاة العروبة مثل السنيورة وريفي وجنبلاط يصبحون انعزاليين جدداً بينما يستيقظ جعجع ومعه الجميّل وسعيّد على عروبة، فإذا لم يستطيعوا نقل لبنان بالجغرافيا فإنّ الجامعة العربية تستطيع طرد الشام من العروبة كما تستطيع التطبيع مع العدو.
بهذه المقاييس سليمان فرنجية ليس مسيحياً. حتى الإسلام السياسي ودعاة دولة الخلافة لم يعودوا يشكلون خطراً ولا يخيفون، لم ننسَ الترحيب الحار بالتازحين السوريين، لم يعد السوريّ عدواً!
الخوف انتقل الى جهة أخرى، مكمن الخطر يأتي ممن يريد تحرير فلسطين. الذين يشكلون خطراً على الوجود اليهودي المشؤوم على أرض فلسطين هم مصدر الخطر في وعي الانعزاليين مسيحيين كانوا أم محمديين.
بهذا التغيير سقطت مبرّرات الانعزالية وسقط مفهوم الميثاق، أما آن الأوان ليعي الشعب اللبناني أنّ كلّ الآلام والمصائب مصدرها العدو وأتباعه، قديماً من أجل نشأته وحالياً من أجل ديمومته؟ أما آن الأوان لهذا الشعب لنفض المصائب عن كاهله والسير في مصلحته والانفتاح على الخير والمحبة والعز ضمن الاخاء القومي؟