ملحمة جنين: «الحديقة» التي هزّت أركان «البيت»
} معن بشور
ربما أفضل ما يمكن وصف عملية العدوان الصهيونيّ على جنين التي استمرت على مدى 48 ساعة في محاولة لاقتحام المخيم البطل واجتثاث المقاومة الفلسطينية من داخله هو ما وصفه بعض الإعلام الصهيوني «بأنها مسكّن أعطي لمريض ميؤوس منه…».
وربما لو أردنا إكمال هذا الوصف لقلنا إنها «مسكّن يزيد من مرض هذا المريض الميؤوس منه ويعجّل برحيله…».
ذلك أنّ أهمية ملحمة جنين الجديدة لا يمكن قياسها بمحدودية المكان الذي كان مسرحاً لعمليتها، ولا بعدد الساعات التي استغرقتها، بل إنّ لنتائجها تداعيات تتجاوز البعد المكاني والزمني لتصل الى عمق استراتيجية الصراع مع العدو الصهيوني، كما الى الأفق التاريخي لهذا الصراع…
1 ـ إنّ العملية التي حوّلها أبطال المقاومة الفلسطينية بكلّ فصائلهم وسراياهم وكتائبهم الى ملحمة بكلّ معنى الكلمة قد أكدت من جديد للعدو استحالة الاجتياحات البرية لأيّ أرض فلسطينية وعربية بدءاً من حرب تموز ـ آب 2006 في لبنان، الى حروب غزة، الى محاولات اقتحام مدن وقرى ومخيمات فلسطينية تقع تحت الاحتلال.
لقد أدرك هذا العدو بعد هذه المعركة البطولية التي خاضتها معه المقاومة الفلسطينية إنه يستطيع أن يقصف كلّ هدفٍ يختاره من الجو أو البر أو حتى البحر، لكنه لا يستطيع أن يتقدّم أمتاراً داخل الموقع الذي يوجد به هذا الهدف…
إنّ شلّ قدرة العدو على الاجتياح البري والتي تجلّت بوضوح في حروبه الأخيرة على قطاع غزة، حيث لم يعُد يستخدم مصطلح «الحرب البرية» حتى كتهديد للمقاومة الفلسطينية، هو انتصار استراتيجي كبير للمقاومة وإعلان مدوٍ عن عجز العدو على تحقيق أهدافه من أي عدوان يقوم به.
وسيحمل هذا التحوّل الاستراتيجي تطوّرين مهمّين أوّلهما إطلاق يد المقاومة في ما يمكن تسميته بـ «المقاومة الاستنزافية»، على غرار حرب «الاستنزاف» التي تعجّل بتآكل العدو ومن ثم انهياره، كما انها تكبّل يد العدو في الردّ على أيّ عملية تقوم بها المقاومة ضدّ الاحتلال.
2 ـ لقد أكدت هذه الملحمة أنّ شعار وحدة الساحات، سواء داخل فلسطين أو في أكناف فلسطين، ليس شعاراً للاستهلاك الإعلامي أو المزايدة السياسية، بل هو شعار يجري تطبيقه في كلّ مواجهة من خلال غرفة «عمليات مشتركة». وما العملية البطولية التي قام بها عبد الوهاب حسين الخلايله من أبناء الخليل في قلب تل أبيب، إلا تأكيد على سلامة تطبيق هذا الشعار داخل فلسطين، تماماً كما أنّ إمكانية تطور هذه المواجهات لتصبح حرباً شاملة تمتد الى كل قوى المقاومة ودولها في المنطقة كانت في صلب حساباته ولمدى قدرته على الاستمرار في معركته ضد المخيم.
3 ـ لقد كانت الوحدة الميدانية التي أبرزتها هذه الملحمة، سواء داخل المخيم أو على مستوى الأرض المحتلة، والالتفاف الشعبي الكبير حولها في كلّ فلسطين وبين كلّ الفلسطينيين في الداخل والشتات، إشارة الى انّ الشعب الفلسطيني، كما قياداته، بات مدركاً أن لا خيار أمامه سوى المقاومة، بكلّ أشكالها، وان لا طريق لتعزيز هذه المقاومة إلّا بالوحدة بين كلّ مكوناته السياسية وتجاوز كلّ ما يحول دون هذا التلاقي على برنامج واضح للمقاومة وعلى نحو يسقط كل رهان على خارجها…
4 ـ لقد كشفت وحشية العدوان الصهيوني، على «حديقة» «البيت» الصهيوني كما أسمى العدو عمليته، عن انّ الأهداف الوحيدة التي حققها هذا العدوان هي ارتكاب مجزرة بحق المدنيين، وتدمير البيوت والبنى التحتية وقصف المساجد والمستشفيات، وتحطيم البنية التحتية، ما كشف مجدّداً طبيعة هذا العدو الإرهابية والعنصرية والإجرامية والفاشية وأظهرت تهافت دعوات «السلام» التي انزلق بحجتها بعض الحكام العرب الى مهاوي التطبيع، كما كشفت تواطؤ بعض دول الغرب، وفي مقدمها الولايات المتحدة الأميركية الى مباركة هذا العدوان واعتباره دفاعاً عن النفس وكذب ادّعاءاتها بالحرص على حقوق الإنسان وهذا التطور مهمّ جداً في كشف حقيقة النظام الدولي الذي يتحكم بالعالم اليوم ويفتح الطريق أمام مسار التعجيل بانهياره. ولعلها من المفارقات اللافتة أن يأتي دفاع البيت الأبيض عن العدوان الصهيوني على المخيم الفلسطيني في الرابع من تموز أي اليوم الذي يحتفل فيه الأميركيون باستقلال بلادهم عن الاستعمار البريطاني عام 1776.
5 ـ أكدت ملحمة مخيم جنين، وهي استمرار لملاحم شهدها هذا المخيم منذ مواجهته التاريخية في 1 -10 نيسان/ ابريل 2002 وحتى اليوم، أنّ مسار الثورة الفلسطينية لا يزال في صعود رغم كلّ ما واجهته هذه الثورة من حروب ومؤامرات وفتن ولعلّ أبرزها الحرب العربية ـ الإسرائيلية عام 1982، التي كان لبنان مسرحها على مدى ثلاثة أشهر، والتي ظنّ كثيرون أنها بإخراج قوات الثورة الفلسطينية من بيروت ولبنان قد نجحت في اقتلاع ثورة شعب أثبتت أنها ثورة لا تموت.
6 ـ لقد أكدت ملحمة جنين قانوناً ثورياً حاول الكثيرون تجاهله او طمسه وهو أن موازين الإرادات هي الأقوى في الصراع من موازين القوى، لأنّ موازين الإرادات قادرة على بناء القوى فيما القوى المادية اذا كانت ضعيفة الإرادة سرعان ما تتآكل وتتراجع وتنهار.
7 ـ إنّ ملحمة جنين تأتي تأكيداً لصحة كلّ ما أعلنه قادة المقاومة في فلسطين أو أكناف فلسطين، بأنّ قدرات المقاومة في تنامٍ متواصل وأنها تمتلك من القوى ما سيفاجئ العدو في كلّ معركة يخوضها.
إنّ صدقية قادة المقاومة اليوم في وعودهم أمر له تأثيره المعنوي في حياة الشعوب بما يعادل أحياناً تأثير الانتصار العسكري.
8 ـ لقد أتت ملحمة جنين في ظروف عملية وإقليمية ودولية تشي بمتغيّرات هامة في موازين القوى لصالح قوى الاعتراض على الهيمنة الأميركية والغطرسة الصهيونية، لتضيف الى هذه المتغيّرات دفعاً جديداً، بحيث لا تنعكس آثارها داخل فلسطين فحسب، بل تنعكس على مستوى الأمة والإقليم والعالم.
ومن هنا من حقنا ان نتوقع أن يعزز صمود شعبنا ومقاومته في فلسطين وأكناف فلسطين من سرعة المتغيّرات التي تشهدها منطقتنا لا سيّما في أجواء الاتفاقات والانفراجات والمصالحات بين دولنا العربية والإسلامية وداخل كلّ منها.
9 ـ إنّ من يقرأ تاريخ الثورات التي حررت بلادها من الاستعمار بكلّ أشكاله، يلاحظ انّ المراحل الأخيرة من كلّ احتلال أو استعمار كانت تشهد معارك من النوع الذي نشهده في فلسطين هذه الأيام، حيث تتقدم المقاومة ويرتبك العدو.
هذا ما شهدناه في فيتنام عامي 1954 و1974 يوم نجح الفيتناميون في طرد الغزاة الفرنسيين أولاً ثم الأميركيين وما شهدناه في الجزائر عشية الاستقلال عام 1962، وما شهدناه في جنوب لبنان قبيل 25 أيار/ مايو 2000.
10 ـ لقد حرص المحتلّ على أن يطلق على عمليته اسم «البيت والحديقة» في محاولة للإيحاء بأنّ مخيم جنين هو مجرد حديقة لبيت هو الكيان الصهيوني، وفي سعي لاستخدام مصطلح «الحديقة الخلفية» الذي تستخدمه واشنطن على دول أميركا اللاتينية، فإذا «بالحديقة» التي وصفت بها تل أبيب «المخيم»، تهزّ أركان «البيت» العنكبوتي الذي ظنّ الصهاينة أنه ثابت الى الأبد.
11 ـ في تاريخ الصراع العربي ـ الصهيوني، ظنّ كثيرون انّ الأمر قد استتبّ للكيان الغاصب بالسيطرة على بلادنا، فكانت معركة الكرامة في ربيع 1968 تؤكد أنّ أمتنا لم تهزم…
ومع اتفاقيات التطبيع والإذلال التي وقعتها حكومات عدة في بلادنا العربية، ظنّ كثيرون أنّ قضية فلسطين قد باتت هامشية في حياة العرب، فإذا بملاحم فلسطين وأكناف فلسطين، وآخرها ملحمة جنين 2023، تثبت أنّ فلسطين لا تزال حيّة في وجدان وضمائر أبناء أمتنا يحمل مشاعلها فتية من فلسطين «آمنوا بربهم وزدناهم هدى».
12 ـ انّ الانتصار المؤزّر في جنين اليوم ليس مناسبة للابتهاج به فقط، بل هو أيضاً مسؤولية على عاتق كلّ القوى الجدية في الأمة والعالم من أجل مراجعة تجاربها وتطوير الإيجابي منها والتخلص مما علق بها من سلبيات، وتوحيد الكلمة والموقف في مواجهة التحديات، والارتفاع عن الصغائر في العلاقات، والالتزام دوماً وأبداً بالمبادئ والثوابت التي ما تمسك بها مناضل إلا وانتصر، وما ابتعد عنها سياسي إلا وانكسر.