نقاط على الحروف

ما هي خيارات الكيان في الضفة الغربية؟

ناصر قنديل

لا ينكر قادة الكيان منذ مدة طويلة أن مشروع تهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية لنهر الأردن، الذي كان مشروعاً جدياً في الماضي، قد أصبح بدوره جزءاً من الماضي، وأن معضلة كبرى تواجه مشروع الكيان لتهجير فلسطينيي القدس الشرقية، فكيف بالأمر عندما يتصل بالضفة الغربية. وبالمقابل يتفق قادة الكيان أن هناك استحالة عقائدية تحول دون قبول حل الدولتين الذي قامت عليه اتفاقات أوسلو قبل ثلاثين عاماً تماماً، وأن مقتل رئيس الحكومة السابق اسحق رابين لم يطو معه فقط مشروع الانسحاب من كامل الجولان السوري المحتل، بل حلّ الدولتين أيضاً، وفكرة الانسحاب من الضفة الغربية والقدس الشرقية، وأن هذا الاتجاه يزداد قوة كلما زاد الكيان ضعفاً، لأن ضعف الكيان يتزامن مع تراجع إيمان المستوطنين بفكرة الدولة، وتراجع نسبة الذين يعتبرون أنفسهم مواطنين مدنيين وعلمانيين لصالح مزيد من طغيان المنتسبين الى الخيارات المتشددة دينياً وعقائدياً.
سقوط التهجير وسقوط الانسحاب، هما الثنائية التي تتحرك سياسات الكيان بين حدّيها منذ سنوات، وهي في جزء من أزماتها الحكومية وفشلها الانتخابي تعبير عن العجز عن إنتاج سياسة قابلة للحياة بين هذين الحدين، وما نتج عن هذا الفراغ كان عملياً تصاعد المناخ المقاوم فلسطينياً وتراجع الرهان على التفاوض، خصوصاً مع ظهور الموقف الأميركي المؤيد لضم القدس والجولان وأغلب الضفة الغربية وغور الأردن، وظهور صفقة القرن والتطبيع بصفتهما عنوان المشروع الأميركي الإسرائيلي لحل القضية الفلسطينية، وبالمقابل على ضفة المستوطنين مزيد من التمركز في الحياة السياسية في البيئات الأشدّ تطرفاً، وهو ما عبرت عنه انتخابات الكنيست التي نتجت عنها الحكومة الأخيرة.
لم يتبقّ إلا التصادم بين هاتين القوتين الصاعدتين على أرض واحدة، باتجاهين شديدي التناقض. وقد أعلنت حكومة بنيامين نتنياهو التي تمثل أحد جانبي الصورة، كما أعلنت فصائل المقاومة الفلسطينية التي تمثل الجانب المقابل من المشهد، أن لا حل إلا بالتصادم، وأن الرهان على القوة هو الرهان الوحيد الذي يجب أن يقول الكلمة الفصل، وقدّمت معركة سيف القدس ومن بعدها صواريخ المقاومة من لبنان وسورية، صورة عن كيف يمكن للمواجهة حول القدس والضفة الغربية أن تتحوّل إلى مواجهة مع غزة وتالياً الى مواجهة مع محور المقاومة، وترجمت هذه الفرضية في الخطاب الإسرائيلي بكلام متكرّر عن حرب مقبلة على عدة جبهات.
الضفة الغربية ليست جنوب لبنان ولا قطاع غزة، فلا مجال لإعلان الانسحاب منها عندما تصبح كلفة البقاء أعلى من قدرة التحمل، وعائدات المواجهة ونتائجها، لأن الصفة الغربية والقدس الشرقية هي أصل جغرافيا العقيدة الصهيونية القائمة على نظرية أرض الميعاد، وزمن حكومة سياسية علمانية تتجرأ على البحث بالانسحاب، انتهى مع مقال رابين، وفشل الاحتلال في فرض قبضته عليها، وتسليمه بهذا الفشل يعنيان أن المشهد سوف يتحوّل الى حرب مفتوحة ومستمرّة تتعمّق معها أزمة الكيان، حيث يتعمق المأزق الوجودي وتتزايد انقسامات الكيان، وتظهر حالة الوهن والعجز على مؤسساته الأمنية والعسكرية، وتبدأ مؤسساته المالية والاقتصادية بالانسحاب من الأسواق نحو الخارج، وتتزايد أعداد حاملي جنسية الكيان الذين يغادرون دون التفكير بالعودة. فهل يملك الكيان وقياداته العسكرية والسياسية، خريطة طريق لبدائل أخرى؟
كانت معركة غزة التي حملت اسم ثأر الأحرار واحدة من محاولات امتلاك جواب على هذا السؤال، عبر الرهان على اجتثاث حركة الجهاد الإسلامي من غزة، وردع حماس عن التفكير بالمواجهة تحت شعار وحدة الساحات، لتوفير مناخ مناسب لتوجيه ضربات قاسية نحو الضفة الغربية وبسط السيطرة عليها، وقد أصيب الرهان بالفشل في كل مفرداته، وجاءت معركة جنين لتمثل آخر الفرص والرهانات، ولا حاجة للإثبات بأن نهايتها كانت بعكس ما تمنى جيش الاحتلال، وهي تفتح الباب لما بدأنا نشهده من تداعيات في أنحاء الضفة، وفي العمليات في عمق الكيان، وفي تحرّك الساحات والجبهات.
يستطيع مَن يريد أن يصدّق أن يصدّق، ويستطيع من لا يريد التصديق ألا يُصدّق، لكن الحقيقة الواضحة اليوم، وجوهرها أن الضفة تدخل مرحلة جديدة من مواجهتها مع الاحتلال، تشبه المرحلة التي عرفتها غزة وعرفها جنوب لبنان، عندما بدأ الاحتلال يفكر بالانسحاب، مع فارق أنه لا يملك خيار الانسحاب من الضفة، لكنه يدرك أن نظريات ايتمار بن غفير عن ميليشيا تحسم بدلاً من الجيش صارت نكتة سخيفة، وأن نظريات بتسلئيل سموتريتش عن زرع مئات المستوطنات في الضفة الغربية صارت موضع تندر المستوطنين المذعورين. وهذا يعني فقط ان جنين تتحوّل الى قلعة للمقاومين تضم المئات بدلاً من العشرات، وان تتوسع رقعة حركتها الجغرافية حتى تتواصل مع نابلس وحتى تتواصلان مع الخليل ورام الله، لأن لما يجري معنى واحد هو أن العدّ التنازلي لزوال الكيان قد بدأ، وفي مثل هذه الحالات ثمّة أمران يجب عدم نسيانهما، الأول أن الأولوية الأميركية تصير بتوظيف كل ملفات المنطقة لتأمين بوليصة تأمين للكيان بوجه الخطر، والثاني أن خطر الانفجار في المنطقة في أي وقت يجب أن يبقى موضع عناية وانتباه.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى