آخر الكلام
آفاق أخرى في جرح تموز
} الياس عشي
رأى أنطون سعاده أنّ الأمر باغتياله، في منتصف القرن العشرين الميلادي، صدر من جهات إقليمية ودولية، ونفذته الحكومة اللبنانية بدم بارد، بعدما اتهم بالتآمر على استقلال لبنان، وتدمير الهُويّة اللبنانية.
والصحيح، يقول أنطون سعاده، أنّ السبب يعود إلى محاربتي الشرسة لاتفاقية سايكس ـ پيكو، ورفضي قيام دولة يهوديّة على جزء من أراضي الأمة السورية، ووقوفي ضدّ مشروع مرور أنابيب النفط لشركة «تابلاين» الأميركية ضمن الأراضي السورية، وسعيي لتأسيس مجتمع قوميّ مدنيّ يفصل فيه الدين عن الدولة. وإذا كان سقراط، يضيف سعاده، قد حوكم ومُنح فرصة للدفاع عن نفسه، فإنّ الحكم باغتيالي صدر من دون محاكمة، وتمّ تنفيذه بسرعة قياسية شبيهة بالمحاكم الميدانية ومحاكم التفتيش.
أنطون سعاده هو شهيد من شهداء المعرفة والفكر الحرّ.
ثلاثة من شهداء المعرفة هم سقراط، وابن المقفع، وسعاده، عبر تاريخ كلّه كربلاء كما يقول نزار قباني. إنّ المسافة الزمنية بين سقراط وابن المقفع هي ألف عام ونيّف، وبين ابن المقفع وأنطون سعاده كذلك ألف عام ونيّف. وهي ملاحظة يستحقّ الوقوف عندها، لأنها تؤكد أنّ الصراع بين الحرية والعبودية هو صراع أبديّ ولن يتوقف، وأنّ الذين يموتون من أجل قضية يؤمنون بها هم وحدهم الأحياء.
وكانوا على حقّ، ألم يقل سعاده: «أنا أموت، أمّا حزبي فباقٍ»؟
فأيّ فجر ينتظرنا، نحن السوريين القوميين الاجتماعيين، على قارعة «ذلك الليل الطويل» و «هتاف الجراح» اللذين قرأناهما حتى الثمالة، وتهجّينا حروفهما، مرافقين محمد يوسف حمود في عرسه الجنائزي؟
بل أيّ فجر سيحمل الفرح وكمال خير بك ما زال على رصيف بيروت مهدور الدم، وما زال يردّد:
اليوم أرجِعُ والأجراس ساهرةٌ
بين المقابرِ، والأنقاضِ، والخُرَبِ
أعودُ نحوكمُ من بعدِ ما عبرتْ
قوافل الحزن، والآلام، والغضب
وبين فجر وآخر يطلّ سعيد تقي الدين بهامته، وسطوع جبينه، وإلى يمينه كاهن عرّف سعاده في زنزانته، ومشى معه إلى عمود الموت لينقل، في ما بعد، محاضرة الزعيم الحادية عشرة التي تروي قصة رجل رفض أن يحني قامته، ورفض أن يقول نعم، فانتهى شهيداً على رمال بيروت.