رحل العفيف عفيفا إلى دار العفيف الأول
ناصر قنديل
تنعى جريدة البناء برحيل آية الله العلامة الشيخ عفيف النابلسي أحد الرموز المضيئة التي أنارت صفحتها الأولى بمقال افتتاحي لسنوات، وأنعى شخصياً قامة فكرية أدبية مقاومة تشرّفت بمرافقة مسيرتها منذ أربعين عاماً، ونشأت بيننا صداقة ومودة، كانت تقوم بدون صلة بها وفي موازاة هذه الصداقة، صداقة وزمالة ورفقة درب مع نجله الصديق العزيز الحاج محمد عفيف، ونادراً ما كانت تتقاطع المناسبات بجمعهما معاً، قبل أن تبدأ معاناة الشيخ مع المرض، وغالباً ما كان الشيخ صادق يتولى ترتيب اللقاءات التي كانت عاشوراء في كل سنة من مناسباتها الثابتة في العشر الأخيرة، يشرّفني خلالها بمنبره الحسينيّ متحدثاً منه.
تجسّد شخصية الشيخ الجليل الراحل، نموذجاً للعلماء الذين قادوا المقاومة في مواجهة الانتداب الفرنسي، ولاحقاً في مواجهة الاحتلال الصهيوني، نموذج رواد وقادة مؤتمر وادي الحجير بوجه الانتداب الفرنسي، بقيادة السيد عبد الحسين شرف الدين ومعه رفاقه الشيخ حسين مغنية وجدّي لوالدتي الشيخ حسين نور الدين، ومن رفاق درب الشيخ عفيف كان الشيخ الشهيد راغب حرب من أقرب هؤلاء لقلبه وعقله ومسيرته. وهذا النموذج يتميز بثلاثة عناصر، الأول هو المثابرة المستمرّة على البحث العلمي والقراءة والكتابة مهما كثرت الانشغالات وكبرت المهام. والثاني الشجاعة في مقاربة تحمل المسؤوليات قولاً وعملاً، خصوصاً في المقاومة. والثالث الذوبان في مسيرة الأئمة وصولاً الى الزهد بالمظاهر التي يتسابق عليها الآخرون، من المكاسب والمناصب. والجامع المشترك بين هذه السمات الثلاث تقف النزاهة بأشكالها المتعددة، نزاهة الفكر، ونزاهة الموقف، ونزاهة الموقع، والنزاهة مرادف العفة.
الشيخ عفيف حمل اسمه معه في كل مسار حياته، عفيف الفكر، مؤمن بأن البحث العلمي ليس ترفاً فكرياً، ولا عملاً صناعياً حرفياً في قوالب مسبقة الصنع، ولذلك ربما كان مثل أغلب الباحثين الملتزمين بالعفة، شاعراً، لما من علاقة بين الشعر والعقل الحر، فالإيمان الديني العميق لم يتحوّل كما في حالات كثيرة الى نوع من القوالب الجامدة الأقرب إلى الصنمية الفاقدة للروح والحياة والقدرة على الابتكار والاجتهاد. والعفة في التفكير تحتاج إلى شجاعة نادرة، سواء في مقاربة الإشكاليات الفكرية والتجرؤ على المسّ بما اعتاده الآخرون، والشجاعة في بلوغ نتائج غير تقليدية وتناولها ومناقشتها والتصدّي لما تلقيه من مسؤوليات وتبعات. وهنا تأتي نزاهة الموقف، بعيداً عن حسابات الربح والخسارة وموازين القوى ومعادلاتها. ونحن هنا نتحدث عن الجانب الشخصي من تحمّل المسؤولية، وليس عن إدارة المعارك الكبرى وحساباتها، وفيها أرواح المؤيدين والمريدين والموالين. وهم هنا أهل المقاومة والمجاهدين. والنزاهة في الفكر والموقف يترجمها الاستعداد لتحمل الجزء الأكبر من الغرم، والزهد بأي نوع من الشراكة بغنم، سواء كان مكسباً مادياً أو معنوياً أو منصباً، ويعلم الذين رافقوا مسيرة الشيخ عفيف كم كان عفيفاً في ترفّعه عن التطلع إلى مناصب ومواقع استحقها بجدارة.
العفيف فكراً وموقفاً وموقعاً، بقي رفيق العفة حتى الرمق الأخير، حتى كان يقلقه أن يرتّب على عائلته أعباء مرافقة أيامه الأخيرة ومصاعبها، وهو يترجل عن صهوة الفكر والمقاومة بتواضع وأخلاق الكبار، منتقلا الى العفيف الأعلى، الذي خلق البشرية والكون ولا يريد لنفسه شيئاً، مخلفاً وراءه عشرات المؤلفات القيّمة وإرثاً عظيماً وتاريخاً مضيئاً، وثلة من الفرسان في ساحات الفكر والإعلام والسياسة والمقاومة. أتقدّم منهم باسمي وباسم أسرة البناء وفي طليعتهم الصديق العزيز الحاج محمد عفيف والصديق الأخ الغالي الشيخ صادق والعزيز حسن وسائر أفراد العائلة الكريمة بأرق مشاعر المواساة، طالبين من المولى أن يتغمد سماحته فقيدنا الكبير بواسع رحمته، وأن يحتسبه مع الشهداء والأولياء.