انتصار تموز نقطة تحوّل: قوة المقاومة تعاظمت ونموذجها تعمّم والردع الصهيوني ازداد تآكلاً
} حسن حردان
شكلت نتائج حرب تموز عام 2006 وستبقى تشكل نقطة تحوّل مفصلية في الصراع العربي الصهيوني، لأنّ المقاومة المسلحة، التي امتلكت الرؤية والبرنامج والعقيدة والإيمان بقدرة حرب التحرير الشعبية على تحرير الارض وتحقيق النصر، وقيادة ثورية تتمتع بالوعي والجرأة وبعد النظر والقدرة على إدارة الصراع، والمستندة إلى تأييد شعبي واسع، نجحت في إلحاق الهزيمة بأقوى جيش في الشرق الأوسط، وحطمت أسطورته وجبروته وكسرت شوكته، عبر القتال المباشر وغير المباشر الذي خاضه المقاومون ضدّ جيش الاحتلال، حيث استخدموا في هذه الحرب كلّ أساليب ووسائل القتال، الدفاعية والهجومية، إلى جانب حرب العصابات، مما أغرق جيش العدو في مستنقع من الاستنزاف لم يشهد له مثيلاً طوال عقود الصراع السابقة، فدمّرت دبابات الميركافا، فخر الصناعة الاسرائيلية، وتحوّلت إلى تواليت لجنود الاحتلال، بعد كانت في السابق تشكل حماية لهم، وأصيب ضباط وجنود النخبة في جيش العدو بحالة من الصدمة والهلع والانهيار في معنوياتهم عندما أصبحوا في مواجهة رجال المقاومة في ميدان القتال المباشر من مسافة صفر، في مارون الراس وبنت جبيل وعيتا الشعب، وغيرها من المدن والبلدات الحدودية، التي فشل جيش الاحتلال في السيطرة عليها بعد 33 يومياً من القتال، وذلك بفعل المقاومة الشرسة التي واجهها، هذا إلى جانب نجاح المقاومة في إسقاط مروحية محملة بالجنود، واصطياد عشرات دبابات الميركافا في وادي الحجير وسهل الخيام، وتدميرها، فيما كانت صواريخ المقاومة تدمّر بارجة «ساعر» على الهواء مباشرة في عرض البحر أمام شواطئ بيروت، ويعلن قائد المقاومة النبأ أثناء كلمته المباشرة على شاشة تلفزيون «المنار»، في مشهد دلل على قدرة المقاومة وسيدها على إدارة المعركة وخوض الحرب النفسية في مواجهة عدو طالما كان يتفوّق سابقا في هذه الحرب…
ترافق كلّ ذلك مع نجاح المقاومة قي هز ركائز الأمن الصهيوني عبر قصف شمال فلسطين المحتلة وصولاً إلى مدينة حيفا وما بعد حيفا حتى الخضيرة القريبة من تل أبيب طوال أيام العدوان، وفرض معادلة تل أبيب مقابل بيروت، مما أحدث حالة من الهستيريا والرعب لدى المستوطنين الصهاينة ودفع الآلاف منهم إلى الهجرة خارج فلسطين المحتلة بحثا عن الأمان…
هذه القدرة والروح القتالية والنتائج التي حققها المقاومون خلال الحرب فاجأت جيش العدو وأسقطت أسطورته وأكدت مجدّداً قدرة المقاومة المسلحة على مواجهته وإلحاق الهزيمة به، وإحباط أهدافه التي تمثلت في هدفين رئيسيين: الهدف الأول، محاولة سحق المقاومة والقضاء على النموذج والمثال الذي جسدته، بعد نجاحها في تحرير جنوب لبنان ودحر جيش الاحتلال عنه دون قيد ولا شرط أو أيّ ثمن مقابل، لأول مرة في الصراع العربي الصهيوني وإسقاط الوهم الذي ساد سابقاً حول عدم إمكانية تحقيق النصر على جيش الاحتلال، وان لا سبيل سوى الدخول في مفاوضات معه لتحقيق التسوية السياسية، وتقديم التنازلات، والتخلي عن الرهان على المقاومة المسلحة سبيلاً لتحرير الأرض المحتلة (اتفاق اوسلو)…
الهدف الثاني، فرض مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي بشرت به وزير الخارجية الأمريكية كوندوليسا رايس خلال الحرب، التي أرادتها أميركا لأجل تحقيق هذا المشروع لفرض هيمنتها الكاملة على المنطقة، وتصفية قضية فلسطين لمصلحة المشروع الصهيوني.
لقد أثبتت المقاومة المسلحة الجديدة بقيادة حزب الله، أنه بإمكانها إلحاق الهزيمة بجيش الاحتلال، وتحرير الأرض المحتلة دون شروط أو تنازلات، وانّ المقاومة تستطيع أن تردع العدو وتجبره على الانسحاب والتراجع أمام ضربات المقاومين…
أن هذه المعادلة الردعية التي فرضتها المقاومة خلال حرب تموز أصبحت اليوم هي السائدة في الصراع العربي الصهيوني، وتعززت وتعاظمت، وباتت معها «إسرائيل» قوة استعمارية عاجزة، والمقاومة خياراً شعبياً كاسحاً…
أولاً، زادت وتعاظمت قدرات المقاومة كماً ونوعاً، لا سيما بعد الخبرات القتالية المتعددة التي اكتسبتها خلال مواجهة الحرب الإرهابية الكونية في سورية والعراق، كما حصلت المقاومة على أسلحة نوعية خصوصاً الصواريخ الدقيقة القادرة على إصابة وتدمير الأهداف الصهيونية في كلّ أنحاء فلسطين المحتلة، في ايّ حرب مقبلة، وكذلك امتلاكها الطائرات المُسيّرة إلى جانب تقنيات إسقاط الطائرات الصهيونية المُسيّرة…
وقد تجلى تعاظم قوة المقاومة الردعية بوضوح في الفترة الأخيرة من خلال حدثين هامين:
الحدث الأول، المفاوضات غير المباشرة بين لبنان وكيان العدو حول ترسيم الحدود البحرية، حيث استخدمت المقاومة قوتها بالتهديد بضرب منصة حقل كاريش وكلّ حقول الغاز في بحر فلسطين المحتلة إذا لم يحصل لبنان على كامل حقوق في مياهه الإقليمية، وتمكن لبنان بفعل هذه المعادلة الردعية من انتزاع حقوقه في ثرواته النفطية والغازية ومنع العدو من سرقتها، وبالتالي فرض ترسيم للحدود وفق مطالب الدولة اللبنانية..
الحدث الثاني، نصب المقاومة خيمة داخل الأراضي اللبنانية المحتلة في مزارع شبعا، وقيام عناصر من المقاومة بنزع كاميرات مراقبة وضعها العدو على السياج الحديدي الذي أقامه داخل الأراضي اللبنانية في ما يعرف بالخط الأزرق.. على انّ معادلة الردع التي فرضتها المقاومة حالت دون أن يتجرّأ العدو الصهيوني على قصف الخيمة أو إزالتها، ولجأ إلى الدبلوماسية بدلاً من استخدام القوة، خوفاً من ردّ المقاومة.. التي انتقلت الى وضع استراتيجيتها للهجوم موضع التنفيذ، لاستكمال تحرير الأراضي اللبنانية المحتلة، في مزارع شعبا وتلال كفرشوبا وقرية الغجر، فيما هي أعدّت نفسها لليوم الذي يعبر فيه المقاومون إلى الجليل الفلسطيني المحتلّ لتحريره في ايّ حرب مقبلة، وهو ما دللت عليها المناورة التي أجرتها مؤخراً وحدة الرضوان في المقاومة، في بلدة عرمتى بالذخيرة الحية، وقام خلالها المقاومون بتجسيد عملية اقتحام المستعمرات الصهيونية في، شمال فلسطين المحتلة..
ثانياً، تعميم تجربة المقاومة اللبنانية وخبرتها حيث استفادت منها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، والداخل الفلسطيني، وتحديداً في مخيم جنين في عمق الضفة الغربية المحتلة، الذي نجح في تقديم نموذج في قتال ومواجهة جنود النخبة الصهاينة، مشابه لنموذج المقاومة في بنت جبيل، وهذا يعني أنّ نموذج المقاومة المسلحة في جنوب لبنان أصبح مثالاً يُحتذى واستفادت منه المقاومة الفلسطينية في إطار تبادل الخبرات بين أطراف جبهة المقاومة، وهو الأمر الذي جعل كيان الاحتلال يعاني من مأزق كبير يتجسّد في تآكل قوّته الردعية أيضاً في قلب الضفة الغربية المحتلة.. مما يشكل تطوراً هاماً في نضال وأداء المقاومة الفلسطينية ضدّ الاحتلال…
ثالثاً، أما نقطة التحوّل الثالثة التي أحدثها انتصار تموز فتكمن في…
1 ـ انّ هزيمة «إسرائيل» شكل مفاجأة وضربة موجعة للدول الغربية الاستعمارية، التي تعتبر «إسرائيل» قاعدتها الأساسية في قلب المنطقة لفرض هيمنتها عليها.
2 ـ تحوّل المقاومة المسلحة لتصبح قوة أساسية في المنطقة لا يمكن تجاهلها في قضايا الصراع الأساسية.
3 ـ أصبحت «إسرائيل»، القوة التي كان يعتمد عليها الغرب في تحقيق أهدافه الاستعمارية في المنطقة، أصبحت تحتاج إلى من يساعدها ويحميها من المقاومة.. وهذا أمر له دلالات هامة، فبضعة آلاف من المقاومين استطاعوا أن يهزموا أقوى جيش في المنطقة ويشكل ركيزة أساسية للقوى الاستعمارية لإدامة هيمنتها ومواصلة سرقة ثروات العرب، ولهذا كان لهزيمة «إسرائيل» وما زال اثر زلزالي، ليس فقط على كيان الاحتلال، وإنما أيضاً على الصعيد العالمي، أحدث تغييراً في موازين القوى في المنطقة لمصلحة دول وقوى المقاومة.. في حين بات نموذج المقاومة في لبنان يدرس في بعض الكليات العسكرية في العالم…
رابعا، منذ انتصار تموز 2006 ترسخت حقيقة أنّ المقاومة المسلحة هي السبيل الذي يجب أن يسود عربياً، وخصوصاً فلسطينياً لردع العدوانية الصهيونية وتحرير الأراضي المحتلة، وما حصل في جنين أكبر برهان على انّ جيش الاحتلال أصبح مردوعاً حتى داخل فلسطين المحتلة، أمام عشرات من المقاومين امتلكوا الإيمان والاستعداد للتضحية والاستشهاد والقدرة على خوض حرب التحرير الشعبية المسلحة وقتال جيش الاحتلال بجرأة وشجاعة، ولذلك نجحوا في منع العدو من تحقيق أهدافه وإجباره على التراجع والانسحاب من المخيم.. واليوم باتت المقاومة تتمتع بالثقة بقدراتها، مقابل جيش احتلال بات مردوعاً باعتراف رئيس الأركان السابق لجيش الاحتلال غادي أيزنكوت الذي كشف في كلمة له أمام الكنيست بتاريخ 10 الشهر الحالي، «أنّ شعبة الاستخبارات العسكرية، امان، أصدرت إنذارين. الأول، تراجع الردع الإسرائيلي في المنطقة، ردع لا أذكر (شبيه له) منذ عشرات السنين أو منذ إقامة الجيش». «والثاني، ارتفاع معقولية التصعيد وصولاً إلى نشوب حرب». هذا الى جانب انّ جنود الجيش الصهيوني باتوا يعانون من أزمة انهيار في معنوياتهم وعدم الثقة بقدرتهم على تحقيق النصر.. في مقابل ازدياد الثقة التي يتمتع بها المقاومون في مواجهة العدو، والتي أصبحت أيضاً سمة يتمتع بها أهالي المناطق الحدودية في جنوب لبنان، وفي جنين وبقية مخيمات الضفة الغربية التي تحوّلت إلى قلاع للمقاومة، وهي ثقة متنامية بقدرة المقاومة على تحقيق النصر.. لكن هذه الثقة لم تتحقق في يوم او يومين، إنما جاءت نتيجة نضال شاق وطويل نجحت خلاله المقاومة في إسقاط مناخات اليأس والاحباط التي كانت سائدة في السابق في الصراع مع العدو الصهيوني، ولهذا فإنّ انتصارات المقاومة نزعت الخوف من عقول الجماهير العربية وبثت مكانه الثقة والأمل بقدرة المقاومة على هزيمة جيش الاحتلال وتحرير الأرض دون قيد ولا شرط..
لهذا كله، وانطلاقاً مما تقدّم يمكن القول انّ انتصار تموز،التاريخي والاستراتيجي، شكل نقطة تحوّل مفصلية في الصراع العربي الصهيوني.