الأزمة البنيوية في الكيان الصهيوني… لماذا تفجّرت الآن وهل تؤدّي إلى حرب داخلية؟
حسن حردان
باتت أغلبية الصهاينة في كيان الاحتلال (67 %) تخشى اندلاع حرب داخلية، وذلك وفق آخر استطلاع للرأي أجرته القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي، فيما تزامن هذا الاستطلاع مع تحذيرات من الرئيس الإسرائيلي هرتسوغ، ورئيس الأركان السابق بني غانتس من أن تؤدّي الأزمة المتفجرة بين المعارضة وحكومة بنيامين نتنياهو إلى اندلاع حرب أهلية تهدّد وجود الكيان بالخطر…
هذا المناخ العام، عززته مؤخراً جملة من الأحداث التالية:
الحدث الأول، استمرار التظاهرات الحاشدة، وتهديد المعارضة بشلّ كلّ مناحي الحياة، في الكيان.. بعد أن قامت ببروفة نفذت خلالها إضراباً شاملاً وناجحاً عبر النقابات…
الحدث الثاني، حصول أوّل اشتباك بين أنصار المعارضة من أحزاب اليسار من جهة، وأنصار أحزاب الصهيونية اليهودية المتشددة من جهة ثانية.. واستخدام العنف من قبل الشرطة ضد المتظاهرين..
الحدث الثالث، انتقال الانقسام من الشارع إلى داخل المؤسسة العسكرية والأمنية، وتحديداً الجيش الإسرائيلي، حيث أعلن المزيد من ضباط وجنود الاحتياط في القوة الجوية وبقية الأسلاك العسكرية التمرد على الخدمة، اذا ما استمرت الحكومة في إقرار الإصلاحات القضائية في الكنيست الذي أقرّ بعضها بالقراءة الثانية مما أجّج الاحتجاجات في الشارع وزاد من تفاقم حالة التمرد في المؤسسة العسكرية، الأمر الذي دفع رئيس الأركان هرتسي هيلفي إلى دق ناقوس الخطر من أن يؤدي ذلك إلى التأثير على تماسك الجيش.. وقال: “تتطلب الجبهات المختلفة البعيدة والقريبة أن يبقى الجيش متيقظاً لتعزيز الردع .. وان التحديات الأمنية تتطلب استعداداً عالياً”.. مشيراً إلى أن “استعداد الجيش هو مزيج من الكفاءة والتماسك”.، مؤكدا أنّ “كلّ من يدعو إلى رفض الخدمة العسكرية خلال هذه الأيام يضرّ بالجيش الإسرائيلي كما يضرّ بأمن الدولة”.
والأسئلة التي تطرحها هذه التطورات هي:
ما هي الأسباب العميقة للأزمة العاصفة بالكيان؟ وهل تقود إلى اندلاع حرب داخلية؟
وما هو ارتباطها بهزائم الكيان أمام المقاومة وتأثيرها السلبي على قوة الردع الصهيونية المتآكلة أصلا؟
أولاً، انّ الأزمة التي يشهدها الكيان الصهيوني إنما هي أزمة مفصلية في تاريخه تحصل لأول مرة منذ احتلال العصابات الصهيونية أرض فلسطين وإقامة هذا الكيان، المؤقت والمصطنع، والذي قام على التمييز العنصري حتى بين المستعمرين الصهاينة الذين تمّ الاتيان بهم من دول العالم المختلفة، مما جعل الكيان يقوم على تناقضات في بنيته وتكوينه منذ البداية.. غير انّ هذه التناقضات لم تطفُ في العقود الماضية الى السطح، بسبب عاملين اساسيين:
العامل الاول، غلبة المستوطنين الاشكناز الغربيين، وسيطرتهم على كل مفاصل الكيان ومؤسساته، خصوصا ان القادة الصهاينة الأوائل كان اغلبهم ينتمون إلى هذه الفئة من المستوطنين وهم قادة المشروع الصهيوني.. فيما المستوطنون المنتمون إلى ما يسمى اليهود السفارديم الشرقيين، كانوا أقلية، وتمّ تهجيرهم من الدول العربية إلى فلسطين بعد إقامة الكيان، وتمّت معاملتهم كمستوطنين من الدرجة الثانية.
العامل الثاني، أنّ الكيان طوال المرحلة التي سبقت هزيمته عام 2000 أمام المقاومة في لبنان كان في حالة ازدهار وتقدم مشروعه الصهيوني، نابعة من الانتصارات التي حققها في حروبه مع الدول العربية، والدعم الغربي غير المحدود الذي وفر للكيان ومستوطنيه مستوى عال من حياة الرفاهية، والامن والاستقرار مما جعل التناقضات تخبو ولا تظهر إلى السطح..
اليوم هذان العاملان لم يعودا موجودين، لسببين:
السبب الاول، التغير الديمغرافي في بنية الكيان، حيث ازدادت اعداد المستوطنين من السفارديم وباتوا منظمين في أحزاب صهيونية متشددة تعبّر عن طموحهم في وضع حدّ لتهميش دورهم في الكيان الصهيوني، وتمكنوا من الوصول إلى الكنيست بكتلة نيابية وازنة، استفادوا من حاجة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى التحالف معهم لتشكيل الحكومة وإحداث تعديلات في القضاء لحماية نفسه من الملاحقة القضائية بتهم الفساد، وبالتالي حماية مستقبله في الحياة السياسية، وشكلا معاً الحكومة، بعد الانتخابات، وحصلوا على مناصب وزارية هامة مثل المالية والاستيطان والامن الداخلي… مما جعلهم في موقع التأثير القوي في السلطة السياسية والتنفيذية لأول مرة لتحقيق مشروعهم الاستيطاني وحلمهم التلمودي…
على انّ وضع هذا التحالف الحكومي التعديلات القضائية موضع التنفيذ العملي واقرارها من قبل الكنسيت بالقراءة الأولى والثانية فاقم الأزمة، ودفع أحزاب المعارضة التي تنتمي إلى المستوطنين من اليهود الغربيين الاشكناز إلى دق جرس الإنذار من خطر إحداث انقلاب في النظام وتغيير هويته الليبرالية الغربية، لمصلحة سيطرت المستوطنين المتطرفين المتشدّدين الذين يريدون مدّ نفوذهم داخل الدولة، وخارجها، من خلال السيطرة على مواقع اساسية في المؤسسات، أو من خلال تشريع طموحهم بتعزيز وتقوية دور ميليشياتهم المسلحة كجسم رديف للجيش، مع إعفاء المنتسبين إليهم من الخدمة العسكرية.. الأمر الذي تعتبره الاحزاب العلمانية الليبرالية خطراً يهدّد وحدة وتماسك الكيان وهويته التي قام ونشأ عليها.
السبب الثاني، دخول الكيان منذ هزيمته أمام المقاومة عام 2000 في مرحلة الهزائم والانكسارات وتآكل قوته الردعية وعجزه عن تحقيق الانتصارات، لا سيما بعد هزيمته الاستراتيجية أمام المقاومة في قطاع غزة عام 2005 ومن ثم في حرب تموز عام 2006، الأمر الذي أدّى إلى تفجر الازمات السياسية داخل الكيان، والتي تراجعت معها حالة الازدهار وانتعاش المشروع الصهيوني، ليحلّ مكانها عدم الاستقرار السياسي والقلق على وجود ومستقبل الكيان.. فيما الثقة بقدرة الجيش الصهيوني على تحقيق النصر والأمن والاستقرار للكيان باتت ضعيفة، حتى داخل المؤسسة العسكرية نفسها، خصوصاً بعد فشل كلّ الاعتداءات التي نفذها ضدّ قطاع غزة في القضاء على المقاومة أو إضعافها.. ونجاح المقاومة في فرض نوع من توازن الردع والرعب مع الكيان من خلال قدرتها على قصف العمق الصهيوني لا سيما تل أبيب ومحيطها، إلى جانب المستعمرات في جنوب فلسطين المحتلة… فيما المقاومة في لبنان عززت من معادلاتها الردعية التي شلت قدرة الكيان على شنّ اعتداءاته او تحقيق أطماعه في الأرض والمياه والثروات اللبنانية..
من هنا طفت التناقضات التي قام عليها الكيان إلى السطح، وعكس تفجرها إلى أيّ مدى كان الصراع الملتهب اليوم، موجوداً تحت السطح بانتظار اللحظة التي يظهر فيها بقوة إلى السطح..
ثانيا، انّ الصراع المحتدم اليوم له علاقة بتركيبة وبنية الكيان القائمة على التمييز، ولهذا فهو صراع عميق ويمسّ مصالح ونفوذ النخبة الصهيونية الحاكمة من المستوطنين الاشكناز، الذين بدورهم قرّروا الدفاع عن هذه المصالح وعن نفوذهم في السلطة، واستخدام كل ما يملكون من قوة لمنع ايّ تغيير في السلطة يمسّ مصالحهم، الأمر الذي سيزيد من حدة الصراع والاستقطاب في الشارع، وهذا بدوره سيقود إلى مزيد من الانقسام والتفسخ والتذرّر في بنية الكيان، والذي بدوره سينعكس بإضعاف تماسك الجيش، بمزيد من التمرد في صفوفه.. وهو ما يجعل عندها احتمال اندلاع حرب داخلية احتمالاً كبيراً.. لانّ الأطراف التي تهيمن على مفاصل النظام الصهيوني تخوض اليوم معركة المحافظة على مصيرها وجودها التاريخي في السلطة ومؤسساتها..
ثالثاً، هذه الأزمة العاصفة في الكيان تصبّ في مصلحة قوى المقاومة ضدّ الاحتلال، وتشكل فرصة لتعميق مأزقه، ومجرد استمرار المقاومة في ظلّ ارتباك الكيان في مواجهتها، وتفاقم أزمته الداخلية وانتقالها إلى قلب الجيش، فإنّ ذلك يسهم في تغذية الأزمة داخله ويزيد من تآكل قوته الردعية، وإضعاف قدرته على مواجهة المقاومة، ويوفر الظروف المواتية لتعزيز قوة المقاومة في داخل فلسطين المحتلة، وخصوصاً في الضفة الغربية.. ولا شك أنّ هناك ترابطاً بين الأزمة التي يعيشها الكيان الصهيوني اليوم، وبين هزائمه أمام المقاومة وازدياد عجزه في مواجهتها، والذي تجلى أخيراً في مخيم جنين المقاوم، حيث تسهم الأزمة في إضعاف الكيان وقدرة جيشه في مواجهة المقاومة المتنامية ان كان في لبنان، او قطاع غزة او الضفة الغربية، والتي تؤدّي الى مفاقمة أزمة الكيان.. وجعله كياناً غير آمن او مستقر للمستوطنين الصهاينة مما يدفعهم للهجرة المعاكسة إلى الدول التي أتوا منها بحثاً عن الأمن والاستقرار اللذين باتا مفقودين في الكيان المصطنع…