غادر سلامة… الأولوية لمحاسبته والتخلص من «إنجازاته»
} أحمد بهجة*
غادر رياض سلامة حاكمية مصرف لبنان ولم يحصل شيء، بقيَت الأمور على حالها ولم نرَ الانهيار الدراماتيكي الذي كانت الجوقة المعروفة تهوّل به على اللبنانيين. أساساً حصل الانهيار ورأينا كلّ هذا الخراب المالي والدمار الاقتصادي على أيام سلامة نفسه، وها هو سعر صرف الدولار مقابل العملة الوطنية حالياً تعبير فاقع عن «إنجازات» سلامة وزمرته المعشّشة في كلّ مفاصل البلد والممسكة بكلّ المفاتيح السياسية والاقتصادية والمالية والمصرفية والإعلامية، وطبعاً لا يمكن لأحد تجاهل العامل الخارجي الداعم لمجموعة التخريب والتدمير التي أوصلت بلدنا إلى ما وصل إليه من إفقار وإفلاس…
أما عن الزفة التي خرج بها سلامة من الصرف المركزي في 31 تموز الماضي، فهو فعلاً كان يجب أن يخرج بـ «زفة» ولكن من نوع آخر، مع التأكيد والإصرار على ضرورة حصول محاكمة ومحاسبة على المرحلة السابقة، إذ لا يجوز بأيّ شكل من الأشكال أن تحصل الأمور على طريقة «عفا الله عمّا مضى» لأنّ ما مضى ليس تفصيلاً صغيراً بل هو خراب البلد ودمار اقتصاده واختفاء عشرات مليارات الدولارات من مدّخرات الناس المجمعة بعرق الجبين وشقى السنين، وخاصة في المغتربات القاسية في أربع جهات الأرض.
لا شكّ أنّ مرحلة ما بعد رياض سلامة في حاكمية مصرف لبنان ستكون مختلفة، خاصة أنّ اللبنانيين جميعاً استمعوا إلى الحاكم الجديد بالإنابة الدكتور وسيم منصوري واستبشروا خيراً بمرحلة جديدة يكون فيها القانون هو سيد الأحكام، بعدما كان تجاوُز القانون هو السائد في العقود الثلاثة الماضية، حيث عمل مصرف لبنان في كلّ شيء إلا كونه مصرفاً مركزياً مسؤولاً عن سلامة النقد، ورأى كلّ الناس كيف أنّ مصرف لبنان اشتغل بالصفقات العقارية وتملّك كازينو وشركة طيران… إضافة إلى تجاوُز السلطتين التنفيذية والتشريعية لجهة اتخاذ القرارات الاقتصادية والمالية بينما المفروض أن ينحصر عمله في إطار السياسة النقدية… فرأينا دعم الكهرباء وإبقاء سعر الكيلوات على حاله منذ العام 1994، كما رأينا دعم الليرة منذ العام 1993 بحجة الحفاظ على الاستقرار في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، لكن رغم تحقُّق الاستقرار النقدي استمرّ دعم الليرة حتى وصلنا إلى مرحلة الإفلاس التي نعيشها اليوم…
ما قاله الدكتور منصوري يُبشر بالخير كما قلنا، لا سيما لناحية الالتزام التامّ بقانون النقد والتسليف وعدم مخالفته تحت أيّ ذريعة، وتأكيده أنّ مصرف لبنان من الآن وصاعداً هو مسؤول فقط عن السياسة النقدية، بالتعاون مع الحكومة طبعاً لأنه ليس جزيرة معزولة، لكن لن يكون له أيّ دور في السياسة المالية ولا في السياسة الاقتصادية، يعني لن يخالف القانون ويقرّر دعم سلعة من هنا أو رفع الدعم عن سلعة أخرى من هناك، هذا عمل السلطة التنفيذية بالكامل، هي تقرّر الدعم وهي تؤمّن التمويل اللازم لهذا الدعم ثم هي تقرّر وقف الدعم ولا علاقة لمصرف لبنان بهذه الأمور لا من قريب ولا من بعيد.
لذلك فإنّ الحديث عن مرحلة ما بعد رياض سلامة، لا يُفترض حصره بما سيحصل في مصرف لبنان، بل يجب أن يشمل أيضاً عمل الحكومة، إذ انّ من واجب السلطة التنفيذية وضع خطة التعافي المالي والاقتصادي وما يجب أن يتبعها من خطط في قطاعات الاقتصاد الحقيقي (الصناعة والزراعة والسياحة…)، وهنا قد تكون هناك حاجة إلى مجلس النواب حيث أنّ بعض الأمور بحاجة إلى تشريعات معينة كي تصبح سارية المفعول، وهذا طبعاً ليس من اختصاص مصرف لبنان ولا يمكن إلقاء اللوم عليه إذا لم تقم الحكومة بالواجب وإذا لم تفعل هي والمجلس النيابي ما يجب فعله في إطار الإنقاذ.
ربما يتخوّف بعض الناس من تدهور سعر صرف العملة الوطنية، وهذا لا علاقة له بوجود أو عدم وجود رياض سلامة على رأس الحاكمية، فقد كان موجوداً حين انهار كلّ شيء ووصل سعر صرف الدولار الواحد إلى نحو 145 ألف ليرة، واليوم يدور سعر الصرف حول التسعين ألف ليرة، أقلّ بقليل أو أكثر بقليل، وهذا رقم متدهور أصلاً… وقد أعلن النائب الأول للحاكم الدكتور منصوري أن لا سبب من الجانب النقدي لأيّ تدهور إضافي خاصة أنّ الكتلة النقدية بالليرة الموضوعة في التداول صارت أقلّ من قبل، وإذا تمّ تفعيل إدارات الدولة وعادت إلى عملها الطبيعي من حيث جباية الرسوم والضرائب فإنّ ذلك يخفض أيضاً من حجم الكتلة النقدية بالليرة في الأسواق، إضافة إلى أننا لا نزال في عزّ فصل الصيف حيث لا تزال العملات الأجنبية تتدفق في الأسواق بشكل كبير… كلّ هذه العوامل تجعل من الممكن الحفاظ على نوع من الاستقرار النقدي لعدة أشهر مقبلة، ولكن من الضروري في هذه الأثناء أن تكون الحكومة قد أنجزت الموازنة العامة للسنة المقبلة، واتخذت بعض القرارات الملحة التي طلبها نواب الحاكم في سياق تخفيف الأعباء الاقتصادية والمالية عن الناس.
ولا بدّ في هذا السياق من تسجيل ملاحظة أساسية على أداء الحكومة الحالية التي تمّ تشكيلها قبل سنتين وتحديداً في 10 أيلول 2021، حيث السؤال يطرح نفسه: ماذا فعلت هذه الحكومة؟ وأيّ إجراء اتخذته لمواجهة الأزمات المتراكمة والنازلة فوق رؤوس اللبنانيين مثل القضاء والقدر…؟
هناك طبعاً مبادرات فردية يقوم بها عدد من الوزراء، ويحققون من خلالها إنجازات مشهودة، لكن الحكومة كحكومة مسؤولة عن إدارة البلد بأسره وانتشاله من هذه الهوّة السحيقة التي انحدر إليها لم يسجل لها أيّ إنجاز يُذكر…
وها نحن نرى رئيس الحكومة يتهرّب من المسؤولية ويحاول رميها على المجلس النيابي من خلال افتعال إشكالية التغطية القانونية للصرف من الاحتياطي الإلزامي لمصرف لبنان، والتراجع عما كان تعهّد به لنواب الحاكم قبل أيام من انتهاء ولاية سلامة.
فقد كان الحديث عن مشروع قانون يقرّه مجلس الوزراء ويحيله إلى المجلس النيابي، يغطي اقتراض الحكومة من المصرف المركزي مبلغ 200 مليون دولار شهرياً لمدة ثلاثة أشهر، لتغطية رواتب موظفي القطاع العام وكلفة دعم أدوية الأمراض المزمنة وبعض الالتزامات الأخرى الضرورية جداً، على أن يحدّد مشروع القانون كيفية ومواعيد تسديد القرض،
وإذا برئيس الحكومة يفاجئ نواب الحاكم ومعهم الوسط الاقتصادي والسياسي، لا سيما المجلس النيابي، حيث دعا الرئيس ميقاتي إلى أن يتمّ تشريع القرض باقتراح قانون يقدّمه عدد من النواب ويقرّه المجلس النيابي، وهذا أمر غير جائز أبداً، إذ لا يجوز أن يحلّ مجلس النواب مكان الحكومة ولا يستطيع إعطاء تعهّدات وتحديد مواعيد تسديد القرض بالنيابة عنها، لذلك لا بدّ أن تتحمّل الحكومة ورئيسها بشكل خاص المسؤولية وتواكب نواب الحاكم في توجهاتهم الجديدة المخالفة لكلّ ما سبق من تجاوزات وارتكابات ومخالفات لا يريد نواب الحاكم الاستمرار بها في المرحلة المقبلة.
إلا إذا كان تهرّب ميقاتي هدفه الضغط على نواب الحاكم ودفعهم للاستمرار بالسياسة السابقة نفسها التي كانت معتمَدة في المصرف المركزي، أولاً لكي يزيح عن ظهره أعباء المسؤولية وثانياً لكي يظهر أن لا غنى عن سياسة رياض سلامة، بينما الحقيقة أن لا إنقاذ للبنان وشعبه واقتصاده إلا بالخروج نهائياً من تلك السياسة الهدامة القاتلة التي أوصلت البلد إلى هذه الهوّة السحيقة…
*خبير مالي واقتصادي