أولى

انتصار المقاومة في 14 آب 2006 وإعطاب عناصر قوة الكيان الصهيوني وإدخاله في مرحلة الانكفاء والتراجع والقلق على الوجود

حسن حردان

ليس من المبالغة القول انّ انتصار المقاومة التاريخي والاستراتيجي في 14 آب سنة 2006 على جيش الاحتلال الإسرائيلي، شكل، بعد انتصار المقاومة عام 2000، نقطة تحوّل في الصراع العربي الصهيوني، أنهت معها إلى غير رجعة أسطورة القوة الصهيونية التي صوّرت بأنها لا تهزم في ميدان الحرب، وسقطت معها أوهام قدرة هذه القوة على الوصول إلى تحقيق أهدافها في الحروب، ودشنت مرحلة تفوق روح المقاومة في القتال في مواجهة جنود الاحتلال وإلحاق الهزيمة المعنوية والنفسية بهم، مما أدخل جيش الاحتلال في أزمة هي الأولى منذ نشأته بعد احتلال العصابات الصهيونية أرض فلسطين وإقامة الكيان الصهيوني عليها عام 1948.. أزمة كرّست عدم قدرة جيش الاحتلال على تحقيق النصر في مواجهة مقاومين يملكون الارادة والاستعداد للقتال والتضحية، حيث لا يملكها الجنود الصهاينة، ولهذا دخلت إسرائيل بعد هزيمة جيشها في تموز في أعمق ازمة منذ نشأتها، والتي فاقم منها هذه الايام انقسام وتصدّع المجتمع والجيش على خلفية الصراع حول التعديلات القضائية، مما جعل كيان الاحتلال في خضمّ أعنف الأزمات عمقاً وتشعّباً في تاريخه الحديث العهد. أزمة تطال كل مقومات وجوده الأساسية: أزمة قيادة، أزمة وجود ومصير وخوف من المستقبل، أزمة الجيش الذي يشكل أساس وجود الكيان، أزمة عدم القدرة على التقدّم ودخول إسرائيل عصر التراجع المتواصل. ازمة مفتوحة على تمزق وتفكك الكيان مجتمعاً وجيشاً، لتتأكد الحقيقة القائلة: من لا يتقدّم يتأخر، فكيف إذا كان قد بدأ يتعرّض للهزائم التي لم يكن يعرفها سابقاً، لا جيش الكيان ولا مجتمعه ولا قادته. وإذا كان من الطبيعي أن تغيب الأزمات في مراحل الانتصارات والازدهار، فإنه من الطبيعي أيضا أن تتكاثر وتتناسل الأزمات في مراحل الانكسارات وتراجع الازدهار والشعور بالأمان وفقدان الاسقرار.. فـ “إسرائيل” اليوم باتت في مرحلة الانكفاء، والعجز والفشل، والشعور بمرارة الهزيمة، وتاكل قوتها الردعية، في مقابل تنامي قوة المقاومة كمّاً ونوعاً، واستعدادها في ايّ حرب مقبلة للعبور إلى الجليل لتحريره وبالتالي نقل المعركة إلى داخل فلسطين المحتلة.
لذلك عندما نتحدث عن الأزمة العاصفة بـ “إسرائيل” يجب النظر إليها بعمق. فهي ليست أزمة عابرة أو طارئة، بل أزمة تشير إلى أيّ مدى بات المشروع الإسرائيلي يعيش في مأزق استراتيجي وتكتيكي في آن معاً. لقد دخل، من جهة، في مرحلة الانكفاء إلى الداخل، يشهد على ذلك تنامي قوة وفعالية المقاومة في داخل فلسطين المحتلة، بما يؤشر الى احتمالات تكرار تجربة ونموذج المقاومة الذي حقق النصر في جنوب لبنان وقطاع غزة وأجبر العدو على تفكيك مستوطناته في القطاع، وهذا ما جعل الكيان الصهيوني يدخل في مرحلة “الخطر الوجودي” بعد ان بات يفتقد إلى قوة الدفع الأساسية التي كانت تجعله دائماً في مرحلة تقدّم وتوسّع وازدهار وصعود. ويظهر ذلك أيضاً في فقدان الثقة والإيمان لدى مجتمع المستوطنين بقدرة الجيش الإسرائيلي على تحقيق النصر وتوفير الأمن والاستقرار لهم.
ويعني ذلك أنّ المرحلة التي كان فيها الكيان الصهيوني محصّناً وآمناً، ويشكل مصدر إغراء لهجرة اليهود إليه، قد انتهت. وهو ما عكسته المناقشات التي شهدها مؤتمر هرتسيليا السابع، حيث ساد شعور بوجود حالة انهيار استراتيجي، يُضاف إليها صورة سوداوية قاتمة للاوضاع في إسرائيل، فـ “ميزان المناعة والأمن القومي”، الذي كان عنوان المؤتمر، أظهر، منذ ذلك الوقت، أنّ إسرائيل تعيش أزمة قيادة وحكم وعجز عن اتخاذ القرارات وتنفيذها، وانقسام وتخبّط إزاء سبل الخروج من الأزمة.. فكيف والحال اليوم من انفجار الازمة البنيوية في قلب الكيان، وتكاثر مؤشرات عجزه عن استعادة قدرته الردعية في مواجهة مقاومة تزداد قوة وكفاءة وثقة بقدرتها على إلحاق المزيد من الهزائم بجيش احتلال بات يخاف مواجهتها ويعاني من فقدان الثقة بقدرته على تحقيق النصر في ميدان الحرب..
ولكن ما هو السبب الأساسي للأزمة وكيف تتبدّى؟
من المعروف انّ الجيش الإسرائيلي هو الأساس الذي ارتكز إليه في بناء دولة “إسرائيل”، التي ما كان لها أن تنشأ دون العناصر الأولى التي تكون منها هذا الجيش، وهي العصابات الصهيونية: (الهاغانا وشتيرن) وغيرهما، والتي دخلت فلسطين، في بدايات القرن العشرين، في إطار خطة استعمارية من أجل الاستيلاء عليها وبناء وإقامة هذه الدولة كمرتكز للمشروع الاستعماري في المنطقة.
لقد أخذ هذا الجيش، الذي تأسّست نواته الأولى من هذه العصابات الصهيونية، يتحوّل شيئاً فشيئاً إلى قوة أسطورية، خصوصاً بعد حربي عامي 48 و67 حيث هُزمت الجيوش العربية في مواجهته، وزاد من تضخيم هذه الاسطورة أنّ هذا الجيش يمتلك أحدث ترسانة عسكرية في المنطقة، بفعل الدعم الأميركي غير المحدود لإسرائيل، وبالتالي تحوّلت إسرائيل بفعل قدرات جيشها إلى قوة يخافها العرب وتشكل مصدر التهديد الدائم لهم.
انّ سيادة هذا الانطباع ولّدت شعوراً عاماً بأنه يستحيل إلحاق الهزيمة بالجيش الإسرائيلي، وبالتالي على العرب أن يستسلموا للأمر الواقع، ويتخلّوا عن جزء من حقوقهم في إطار تسوية للصراع.
وبقدر ما تولّد هذا المناخ في الواقع العربي، بقدر ما كان يتحوّل فيه الجيش الإسرائيلي لدى الإسرائيليين إلى مصدر فخر لهم، ويشعرون إنه يوفر لهم الأمن والاستقرار، وإنه هو ضمانة وجود إسرائيل ومستقبلها من جهة، وإنه قوة لا يمكن أن تهزم من جهة ثانية. وزاد من هذا الشعور أنّ عمق الكيان الصيهوني خلال الحروب العربية الإسرائيلية ظلّ بمنأى عن الحرب، على عكس الدول العربية التي كانت مدنها وعواصمها مسرحاً لقصف الطائرات الإسرائيلية، وحتى عمليات الإنزال من قبل الكوماندوس الإسرائيلي.
إلا أنّ هذا الجيش، الذي حصّل على كلّ هذه الهالة الاسطورية، بدأت قوته الردعية تضعف تدريجياً، وتتآكل معها قوته الهجومية، وبالتالي قدراته على تحقيق النصر، وبرز ذلك في المحطات التالية:
المحطة الأولى: اجتياح عام 82، بعد اجتياح الجيش الإسرائيلي للبنان وتمكنه من دخول العاصمة بيروت، ومن ثم فرض توقيع اتفاق 17 أيار، نهضت مقاومة وطنية جديدة بمواصفات ثورية تملك مشروعاً استراتيجياً لخوض حرب المقاومة الشعبية المسلحة والتحرر من الاحتلال، وبدأت حرب عصابات ضد قوات الاحتلال، كان من نتائجها أن أجبر الجيش الإسرائيلي على تنفيذ انسحابات متتالية عن الأرض اللبنانية، والتحصّن في منطقة الشريط الحدودي، فيما اتفاق 17 أيار سرعان ما سقط وتهاوى بفعل الاندحار الإسرائيلي، والذي توّج بعد حرب استنزاف خاضتها المقاومة ضده على مدى 22 عاماً بإلحاق أوّل هزيمة بهذا الجيش عام ألفين بإجباره على الرحيل عن معظم الأراضي اللبنانية، التي كان يحتلها، دون قيد أو شرط أو أيّ ثمن مقابل، أو اتفاق، الأمر الذي شكل أوّل انتصار للمقاومة ضدّ الاحتلال على هذا الجيش وتحطيم اسطورته التي استندت إلى مقولة إنه قوة لا تقهر.
المحطة الثانية: وكانت في قطاع غزة، حيث وبعد اندلاع الانتفاضة الثانية، الشعبية والمسلحة، وفشل الجيش الإسرائيلي في إخمادها، أو القضاء على المقاومة، اضطرت قيادته السياسية إلى أخذ أوّل قرار في تاريخ نشأة الكيان وهو تفكيك المستوطنات الصهيونية، التي أقيمت في قطاع غزة، لعدم القدرة على الاستمرار في توفير الحماية لها، ما شكل ثاني هزيمة وتراجع لهذا الجيش عن أرض احتلها بالقوة، لكنها أوّل هزيمة للمشروع الصهيوني على أرض فلسطين التاريخية، التي تشكل محور الصراع الرئيسي.
المحطة الثالثة: حرب تموز 2006. إذا كانت محاولة امتصاص هزيمة لبنان عام ألفين، وهزيمة قطاع غزة عام 2005، بهجوم إعلامي، إسرائيلي وعربي ودولي، عبر تصوير الأمر على إنه لا يعدو كونه مجرد تكتيكٍ إسرائيليٍ، وليس هزيمة، فإنّ حرب تموز كانت أكثر الحروب وضوحاً لناحية الهزيمة التي مُني بها الجيش الإسرائيلي. فقد رمى فيها هذا الجيش بكلّ قوته العسكرية المتنوعة براً وجواً وبحراً، مدعوماً بموقف أميركي أوروبي، وحتى من بعض الدول العربية، من أجل القضاء على المقاومة، وعلى مدى 33 يوماً من المعارك والقصف الوحشي الذي مارسه ضدّ لبنان فإنه فشل في تحقيق أيّ من أهدافه العسكرية والسياسية. وتمكنت المقاومة من التغلب عليه وتحطيم أسطورته في الميدان، حيث أظهرت للعالم كله أنه عاجز عن احتلال قرى حدودية، أو السيطرة على مسرح المعركة، أو إسكات نيران المقاومة ومنع تساقط صواريخها في العمق الصهيوني.
وإذا كانت المحطتان، الأولى والثانية، قد أسقطتا قدرة الجيش الإسرائيلي على مواصلة إسرائيل لسياسة التوسع والاحتفاظ بالأرض التي كان يحتلها جيشها والاضطرار إلى التراجع عنها، فانّ المحطة الأخيرة أسقطت قدرة هذا الجيش على تحقيق النصر في المرحلة الأولى من الحرب بالاعتماد على سلاحي الجو والدبابات. وبالتالي فإنّ نظرية الضربات الخاطفة واستخدام التفوّق في الجو فشلت فشلاً مدوياً، الأمر الذي دفع مركز جافي الإسرائيلي للدراسات الاستراتيجية إلى الحديث عن الضمور إو الانحلال في مفهوم إسرائيل لاستخدام القوة عبر التبني المتحمّس جداً للنظرية الأميركية المسماة العملية الموجهةـ النتيجة، والتي تستهدف شلّ قدرة عمل العدو خلافاً لتدمير قواته، وذلك من خلال ضرب مقراته واتصالاته وعناصر اساسية أخرى لديه..
انطلاقاً مما تقدّم يمكن القول انّ المقاومة الشعبية المسلحة نجحت في إلحاق الهزائم المتتالية بجيش الاحتلال وتمكنت من إعطاب عناصر قوة الكيان وتحطيم جبروته مما أدخله في مرحلة الانكفاء والتراجع، والقلق على الوجود.. وهذا ما يفسّر كلّ هذه الحرب الأميركية وأدواتها في الداخل على المقاومة وسلاحها بهدف الانتقام منها ومحاولة تشويه صورتهما والنيل منهما وصولاً الى محاولة عزل المقاومة في بيئتها الشعبية وإضعافها خدمة للكيان الصهيوني.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى