نقاط على الحروف

عن وزير الثقافة وفيلم باربي

ناصر قنديل
– فتح قرار وزير الثقافة القاضي محمد وسام مرتضى بالطلب الى الجهات المعنية في الدولة، وهي المديرية العامة للأمن العام والنيابة العامة الاستئنافية، منع عرض فيلم باربي، سجالاً سياسياً وحقوقياً وثقافياً، يستحق المقاربة بهدوء وعقلانية لوضع النقاط على الحروف، قبل الانحياز العصبي لموقف أو رأي. فالقضية المطروحة ومحورها الموقف من الترويج للمثلية أو الشذوذ، هي إشكالية تعصف بالعالم كله وتثير انقسامات واصطفافات ونقاشات، ولا يمكن توقع تجنب دخول لبنان ساحة النقاش حولها، وصولاً لبلورة موقف للمجتمع والدولة، يراعي معايير ومفهوم الهوية التي تعاقد اللبنانيون على أن تحكم مقارباتهم المسائل المشابهة، بمعزل عن الاعتراف بوجود أكثر من رأي وموقف حولها، مثل الكثير من القضايا الفكرية والثقافية. وبالتوازي مع قرار الوزير حول فيلم باربي كان عدد من نواب التغيير ومعهم نواب من أحزاب أخرى، يتقدّمون باقتراح قانون جوهره رفع صفة الجرم عن العلاقة الجنسية بين أبناء وبنات الجنس الواحد، وتولّى بعض هؤلاء النواب الردّ على وزير الثقافة، وفتح السجال معه بلغة تميزت بأمرين، الأول اتهامه بالاهتمام بما لا يجب أن يشغله في وقت يعاني البلد من أزمات شتى تشغل بال المواطن، والثاني اعتبار أن من الطبيعي وفق تركيبة لبنان ودستوره أن يتمّ عرض الفيلم المذكور، وان الوزير يقحم قناعاته وهويته العقائدية في مجال عمل الوزارة، وصولاً الى التمادي في التهجم الشخصي والتشنيع.
– ثلاث ملاحظات يجب تسجيلها هنا، الأولى أن الأمر المثار ليس بسيطاً ولا هو سطحياً، ويكفي للدلالة على أهميته الإشارة إلى أن تشريعات البرلمانات وقرارات الحكومات في العالم منشغلة بتحديد كيفية مقاربة الدول والمجتمعات لهذه القضية، وأن خطابات لرؤساء الدول العظمى تخصصت بتحديد موقفها من هذه القضية. والملاحظة الثانية، لأنها قضية ثقافية تتصل بالهوية، فإن المنطقي أنها في صلب مسؤوليات وزير الثقافة، وأولى أولويات واجباته تتمثل بإعداد مطالعة حول الموقف الذي يجب أن يكون موقف الدولة اللبنانية، والمجتمع اللبناني، بما ينسجم مع تركيبته الاجتماعية والثقافية وقواعده الدستورية. أما الملاحظة الثالثة، فهي أنه إذا كان من داع لمناقشة أولويات بين هذه القضية وبين سائر القضايا والاهتمامات فهو يوجه للنواب الذين لا تخصص لهم كما هو حال وزير الثقافة، بل هم مسؤولون عن تحديد الأولويات من موقع تمثيلهم للشعب اللبناني، بقياس أولويات هذا الشعب، الذي ليست من أولوياته التشريعية القضايا التي ذهبوا اليها، بينما كان حريّاً بهم إظهار صدقية زعمهم التغييري بفعل ما يلمسه الناس نتائج تنعكس تغييراً على حياتها، بما يسهم بحل المشكلات الأشد إلحاحاً والأعلى مرتبة في الأهمية بالنسبة للبنانيين.
– يجب أن نوضح في هذا النقاش أننا بصدد دعوة يقوم بها النواب لتغيير مقاربة سابقة كانت موضع إجماع اللبناني حولها خلال عقود طويلة، ولا مشكلة من حيث المبدأ في أن يقوم النواب عندما يجدون أن ثمة ما بات يستدعي التغيير بإلحاح وحاجات الضرورة التي يمليها التقدّم في المجتمع، أن يقوموا بمسؤوليتهم من خلال اقتراح تغيير الإطار القانوني الذي يرعى أي ظاهرة أو ينظم أي سياق، لكن هذا في التشريع من حيث المبدأ، أما في الرقابة فإن جوهر مهمتهم هو مراقبة مدى سهر الحكومات والوزراء كل حسب اختصاصه على تطبيق التشريعات التي لا يزال معمولاً بها، لا كما يفترضون انها يجب أن تتغير، ومسؤولية كل وزير في نطاق عمل وزارته السعي لفرض التقيد بالقوانين النافذة، ولو في شؤون قليلة الأهمية، فليس هناك قانون مهم يجب تنفيذه وقانون غير مهم يمكن التغاضي عن انتهاكه، والسؤال هل اختصاص وزارة الثقافة الشأن الثقافي، وهل الأفلام السينمائية من ضمن هذا الشأن، وهل القوانين النافذة تبيح ترويج ثقافة “باربي” كما جاء بها الفيلم، فيما النواب أنفسهم يعتبرون أن هذه القوانين تحتاج الى تغيير وهم لذلك جاؤوا باقتراح قانون لتغييرها، وإذا كان هذا معياراً من معايير أهلية اي وزير لوزارته، ومنهم وزير الثقافة لوزارة الثقافة، فما قام به الوزير يستحق تنويهاً نيابياً لحسن الأداء، بدل التهكم المكتوب بلغة نابية، ربما لإخفاء العقم في المعنى؟
– في المضمون، ارتكز جوهر الرد الذي تناول قرار الوزير على اتهامه بالانطلاق من عقائدية معينة يؤمن بها ومحاولة فرضها من موقعه في الوزارة، فلنحاول اكتشاف من الذي أراد التسلل تحت عنوان المصلحة العامة وكيفية مقاربتها للترويج لعقائدية خاصة، الوزير أم النواب الذين اختلفوا معه. وبنظرة سريعة يتبين معنا ان الموقف الرافض للترويج للمثلية والشذوذ عابر للعقائد الدينية والوضعية، ويكفي لمعرفة ذلك الانتباه الى إجراءات ثقافية صينية اتخذتها الحكومة أثارت غضب الغرب، منها حذف العبارات المثلية من فيلم توثيق سيرة مغني الروك فريدي ميركوري من فيلم بوهيميان رابسودي، وحذف حسابات الترويج للمثلية من التطبيق الأكثر رواجاً في الصين “وي شات”، او ان نستمع الى الخطاب المفصل والمخصص للرد على دعوات تعميم المثلية، الذي ألقاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في تشرين الثاني من العام الماضي، وأعقبه بخطوات قانونية صارمة لملاحقة الزواج بين المثليين والتصدّي بقوة لكل محاولات نشر الدعاية المثلية، وبمعزل عن التأييد والرفض لهذه المواقف من النواب المعنيين، فإن هذه المواقف تسقط زعمهم باتهام الوزير باستغلال موقعه الوزاري للتسلل وفرض اجندة عقائدية أرادوا الإيحاء بان المقصود بها هويته الدينية او الطائفية، وتجاهلوا أن مواجهة الترويج للمثلية عابرة للعقائد والأديان والثقافات والقوميات، كما تجاهلوا أن الثقافة العقائدية في لبنان، إلى أن ينجحوا بتغييرها، لا سمح الله، هي ثقافة معادية للترويج للمثلية، التي يتبنونها، والوزير بخلفيته العقائدية والدينية لا يدعها تتحكم بمواقفه كوزير، فهو لا يعرقل نتاج هذه الثقافة العقائدية اللبنانية التي تجد الملاهي الليلية ويجد الكازينو، وتجد المهرجانات الثقافية والفنية التي تزينها المشروبات الكحولية مكاناً فيها، لأن هذا هو التعاقد الثقافي اللبناني، ولكن بالمقابل أليس النواب الذين هاجموا الوزير هم من يحاول التسلل تحت شعار تبسيط وتسطيح مسألة على درجة عالية من الخطورة لفرض رؤيتهم العقائدية التي لا يُخفى على أحد أنها امتداد لرؤية عالمية جديدة لصياغة العالم وفق مفاهيم النيوليبرالية المتوحشة، والتي يشكل الترويج للمثلية وتعميمها إحدى ركائزها، ومحوراً رئيسياً لبنيانها الاجتماعي والثقافي بل والاقتصادي، والنقاش في الغرب نفسه مليء بالمحاججات الفكرية والثقافية لأنصار الترويج للمثلية على خلفية مناهضة المشروع الأكبر الحامل لهذه الثقافة.
– في المضمون أيضاً، تضمن الرد على الوزير الربط بين تبني الترويج للشذوذ والمثلية، وبين التمسك بالحرية التي كفلها الدستور اللبناني. وفي ظل الغوغائية التي أراد النواب اعتمادها في حديث الحرية، تعالوا نعُد الى نصوص الدستور، الذي ورد في مقدمته، “ج – لبنان جمهورية دیمقراطیة برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بین جمیع المواطنين دون تمايز أو تفضيل”. ومثلما لم يحل التمسك بالمساواة بين اللبنانيين دون اعتماد التمييز بينهم طائفياً وفق القوانين التي تستند إلى المادة 95 من الدستور، لا يمكن الاكتفاء بالنص العام عن الحرية في مقدمة الدستور دون متابعة نصوص المواد الدستورية والتي بنيت عليها القوانين في تنظيم مفهوم الحرية، حيث ورد في المواد 8 و9 و10 من الدستور شرح لمفهوم وحدود ممارسة الحرية، – المادة 8: “الحرية الشخصية مصونة وفي حمى القانون ولا یمكن أن يقبض على أحد أو يحبس أو يوقف إلا وفاقاً لأحكام القانون ولا یمكن تحدید جرم أو تعیین عقوبة إلا بمقتضى القانون”. ومواد القانون توصف الشذوذ جرماً يعاقب عليه القانون – المادة 9 : “حرية الاعتقاد مطلقة والدولة بتأديتها فروض الإجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حرية إقامة الشعائر الدینیة تحت حمايتها على أن لا یكون في ذلك إخلال في النظام العام وهي تضمن أیضاً للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدینیة”. وضوابط احترام كرامة الأديان ونظام الأحوال الشخصية واضحة كقيد على مفهوم الحرية بما لا يقبل التأويل – المادة 10: “التعلیم حر ما لم يخل بالنظام العام أو ينافي الآداب أو يتعرّض لكرامة أحد الأديان أو المذاهب ولا یمكن أن تمس حقوق الطوائف من جهة إنشاء مدارسها الخاصة، على أن تسير في ذلك وفاقاً للأنظمة العامة التي تصدرها الدولة في شأن المعارف العمومية”. والخلاصة واضحة وهي أن الحرية مكفولة ضمن القيود التي تنظمها القوانين، خصوصاً فيما ينافي الآداب العامة وكرامة الأديان وليس خافياً أن النقاش حول الشذوذ والمثلية يقع تحت هذين العنوانين، ولا يمكن استغفال اللبنانيين بالقول إنها الحرية وحسب، كما يفعل الغرب تماماً في اعتماد قيد الكراهية على أي محاولة للإفادة من مفهوم الحرية لمناقشة ظاهرة المحرقة اليهودية، واعتبار النقاش محرماً بموجب القانون وتوصيفه عداء للسامية، بينما حرق القرآن مباح باسم الحرية. وبالعودة الى نصوص الدستور اللبناني لا نحتاج الى إثبات انها ترجح كفة الوزير بقوة على كفة النواب في النظر لمفهوم الحرية.
– في الشكل، قال بعض المشاركين في السجال من النواب، إن عريضة موقعة من عدد من المثقفين، تشكل ترجيحاً لكفتهم في النقاش، فهل هذا قياس منطقي أم مجرد زعبرة كلامية؟ وإذا كان التسليم بحق الذين وقعوا عريضة احتجاج على موقف الوزير بداية واجبة في النقاش، فإن التسليم بالمثل بحق الذين وقعوا عريضة معاكسة لموقف النواب، بداية موازية، والعريضتان بعض تعبير عن وجود هذه المقاربات المتعاكسة في المجتمع اللبناني، أسوة بما يحدث في كل العالم، لكن هذا لا يعطي النواب حق ادعاء احتكار صفة المثقفين عند الذين يساندون موقفهم، لاتخاذ موقفهم سنداً لأهلية أو عدم أهلية وزير الثقافة، فلسنا هنا أمام عريضة موقعة من نقابة الأطباء ونقابة الصيادلة ونقابة الممرضين والممرضات ونقابة أطباء الأسنان ونقابة أصحاب المستشفيات بحق وزير الصحة، ففي الثقافة وبين المثقفين لا معيار لتحديد مَن هو المثقف، او إحصاء، ولا إطار نقابياً يمكن أن يفيد في الجواب على سؤال أين هو موقف المثقفين من هذا السجال.
– في جوهر الخلاف، نحن كما كل العالم بين مشروعين ثقافيين، مشروع قائم على حماية تنوّع الإنسانية ومخزونها الحضاري وقيمها الروحية والدينية والأخلاقية والأسرية وتبادلها وتفاعلها بحرية تمنع الانفلات والفوضى، ومقابله مشروع ثقافي نقيض يعتبر أن النسخة الراهنة من حياة البشرية بمضمونها الثقافي باتت عائقاً أمام مفهومه للتطور، حيث يقع تفكيك الأسرة وتحديد النسل، وتقديم التمتع بلا ضوابط كتعويض للبشر عن حرمانهم من الشعور بالسكينة واحترام الذات الإنسانية. ويشكل الموقف من الشذوذ والمثلية، مفردة محورية في المواجهة بين هذين المشروعين، حيث ينتمي الى كل منهما جماعات وافراد وحكومات من كل القوميات والأديان، وليس خافياً أن القوى الواقفة وراء الدعوة للانقلاب على نموذج العيش الإنساني تمثل النسخة الأشد تطرفاً من النيوليبرالية، وتخفي مشروعها الاقتصادي المتوحش خلف قناع عنوانه لا يحد الحرية إلا المزيد من الحرية، بدلاً من الشعار الذي تعاقدت عليه الإنسانية لقرون وقوامه، تنتهي حدود حريتك حيث تبدأ حدود حرية الآخرين. وفي هذه المواجهة لم تعد المثلية والشذوذ ظواهر اجتماعية فردية يمكن مناقشة كيفية التعامل معها، بل صار الترويج لها شعار المشروع الغربي الجديد، ومعيار رؤيته ونظرته للتقدم، وصار الانضواء تحت هذا المشروع بإعادة هندسة المجتمع على قاعدة زواج أبناء وبنات الجنس الواحد، والتشجيع على ذلك في تربية الأطفال، شرطاً من شروط الحصول على القروض في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ومعياراً لتقييم مستوى احترام حقوق الإنسان في الدول، ولذلك فإن مناصري هذا المشروع، والنواب الذين يقودون الحملة في لبنان ليسوا بالصدفة جزءاً من سائر مفردات هذا المشروع النيوليبرالي، ولا يمكنهم الاختباء وراء الدعوة لاختزال السجال بمفردات تخفيفية، حرية عرض الفيلم والتسامح الانساني مع ظاهرة اجتماعية مرضية، وهم وحوش يريدون نهش لحم أطفالنا وتحويلهم الى روبوتات في مملكة باربي التي يقوم حزبهم السري بهندسة العالم لإعلان ظهورها، تماماً كما ظهرت “إسرائيل”، وفق ما تقول وثائق النيوليبرالية حول حلم العالم الجديد، والتشبه بولادة أميركا كدولة مستوطنين وولادة “إسرائيل” من بعدها، كعلامات على عبقرية هندسة الولادات الجديدة؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى