الفقراء يُستخدمون فقط في الصراع على السلطة؟
} د. محمد سيد أحمد
ليست المرة الأولى التي نتحدث فيها عن الفقراء والصراع الاجتماعي والسياسي. فمن خلال نظرة متعمّقة ومراجَعة نقدية لتاريخ الإنسان على سطح المعمورة يمكننا أن نخرج باستنتاجات عامة مفادها أنّ الصراع الاجتماعي أحد أهمّ العوامل التي لعبت دوراً في تشكيل المجتمعات وتطورها، ودائماً ما كان الصراع الاجتماعي يتشكّل وتتبلور ملامحه بين طبقتين أو فئتين أو شريحتين… الأولى محدودة العدد دائماً لكنها تمتلك كلّ أدوات إدارة الصراع سواء كانت هذه الأدوات اقتصادية أو سياسية أو ثقافية أو دينية أو إعلامية، والثانية كبيرة العدد بل وتشكل الأغلبية في أيّ مجتمع لا تمتلك أيّ شيء من الأدوات السابقة في مواجهة الأولى، لكنها تمتلك فقط قدرتها على الخروج معترضة عندما يفيض بها الكيل من شدة الظلم والقهر والاستبداد والإفقار المتعمّد بعد نهب وسرقة حقوقها من قبل الطبقة أو الفئة أو الشريحة الأولى.
وجاءت كل الحركات الاجتماعية والثورات عبر تاريخ البشرية لرفع الظلم والقهر والاستبداد عن الطبقة أو الفئة أو الشريحة الثانية وتحقيق حدّ أدنى من العدالة الاجتماعية المفقودة بين الطرفين في محاولة لتخفيف حدة الصراع الاجتماعي وتحقيق نسبة معقولة من التعايش والسلم الاجتماعي الذي يساعد على استمرار الحياة وتنمية وتطور المجتمعات بدلاً من تخلفها وتدميرها، لذلك يمكننا التأكيد على أنّ الديانات السماوية والفلسفات والنظريات الإنسانية الوضعية ما هي إلا ثورات اجتماعية هدفت لإحداث تغيير يحقق حدّاً أدنى من العدالة بين الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية الظالمة والمظلومة والقاهرة والمقهورة والمستبدة والمستبدّ بها، حتى تستمرّ الحياة الإنسانية وتنمو وتتطوّر المجتمعات.
وبنظرة فاحصة للمجتمعات البشرية سنجد أنه كلما خفت حدة الصراع الاجتماعي بين الطبقات والفئات والشرائح المتصارعة وتحقَّق حدّ أدنى من العدالة الاجتماعية خفت حدة الفرز الاجتماعي ونمت أعداد الطبقات والفئات والشرائح الوسطى داخل المجتمع، ومعها يحدث الاستقرار الذي يسمح بنهضة وتنمية وتطور المجتمعات الإنسانية. وهذا هو حال المجتمعات الأكثر تقدّماً في عالمنا اليوم، أما المجتمعات التي تشهد فرزاً اجتماعياً بحيث تزداد فيها الهوة بين الأغنياء والفقراء بحيث تؤدي السياسات العامة المتبعة إلى أنّ الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقراً، هنا تغيب الطبقة الوسطى وتزداد حدة الصراع الاجتماعي بين من يملكون كل شيء وبين ما لا يملكون شيئاً على الإطلاق، هذه هي المجتمعات الأكثر تخلفاً والأقل نهضة وتنمية وتقدماً.
ووفقاً لهذه الرؤية فالمجتمع المصري في اللحظة الراهنة يمكن تصنيفه بين تلك المجتمعات الأقل تقدماً، حيث يشهد فرزاً اجتماعياً مستمراً بين فئة قليلة تسيطر اقتصادياً وسياسياً وثقافياً ودينياً وإعلامياً، وبين غالبية عظمى من الشعب لا تملك من أمرها شيئاً كلّ ما يمكنها أن تفعله هو الخروج العشوائي بلا وعي خلف بعض القوى السياسية المنظمة التي تريد الاستيلاء على السلطة لتحل محل الفئة المسيطرة على السلطة، وما الصراع بينهما إلا صراع على السلطة كما أكد على ذلك عالم الاجتماع الإيطالي فيلفريدو باريتو ودائماً ما يدفع الفقراء ثمن الصراع لكنهم لا يستفيدون بشيء، فصراع الصفوات السياسية مع بعضها على السلطة يختلف عن صراع هذه الصفوات السياسية مع الشعب، فكلّ الصفوات السياسية حين تصعد لسدة الحكم تعمل على تحقيق مصالح الطبقة والفئة والشريحة التي تنتمي إليها على حساب الشعب، وهنا يدفع الفقراء وحدهم الثمن.
وفى المشهد المصري الذي بدأ منذ 25 يناير/ كانون الثاني 2011 كان هناك نوعان من الصراع الأول على مستوى الصفوة السياسية تبلور بين صفوتين، صفوة جماعة مبارك الفاسدة، وصفوة جماعة الإخوان الإرهابية، وكلهما ينتمي للطبقة العليا التي تسعى للسيطرة والهيمنة على كل أدوات ممارسة القوة داخل المجتمع، والنوع الثاني من الصراع هو الصراع بين من يصعد للجلوس على سدة الحكم وبين الغالبية العظمى من شعب مصر من الفقراء الذين أفقرتهم سياسات نظام السادات – مبارك الانفتاحية الرأسمالية الفاشية المنحطة والتي لا تزال تطبق حتى اللحظة، فبعد خروج الفقراء في وجه مبارك في 25 يناير/ كانون الثاني مطالبين بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، عادوا إلى بيوتهم ينتظرون ما طالبوا به فكان الثمن مزيداً من المعاناة بعد صعود الإخوان لسدة الحكم. وعندما خرج الفقراء على مرسي في 30 يونيو/ حزيران مطالبين بالمطالب نفسها، عادوا إلى بيوتهم ينتظرون تحقيق مطالبهم فكان الثمن مزيداً ومزيداً من المعاناة بعد عودة جماعة مبارك لسدة الحكم.
لذلك يجب على الفقراء أن يستوعبوا دروس التاريخ جيداً ولا يستجيبوا لدعوات أيّ صفوة سياسية محرّضة على الخروج في وجه الصفوة الحاكمة لأنهم لن يحصدوا من ورائها إلا مزيداً من المعاناة فهم وحدهم يدفعون الثمن، وعليهم أن ينظموا صفوفهم ويخرجوا من بينهم طليعة يمكنها أن تدخل في صراع مباشر مع الصفوات القائمة، فالثورة الحقيقية تقوم بها طليعة منحازة إلى الفقراء فعندما تصل للحكم تقوم بتحقيق مطالبهم وإعادة التوازن للخريطة الطبقية عبر سياسات اقتصادية واجتماعية يدفع ثمنها من سرق ونهب قوت الشعب وبعدها ينتقل الفقراء إلى الطبقات والفئات والشرائح الوسطى فينهض المجتمع وينمو ويتقدم، وهو ما فعله الضباط الأحرار الذين شكلوا طليعة ثورة 23 يوليو/ تموز 1952 كنموذج حيّ للانحياز للفقراء، اللهم بلغت اللهم فاشهد…