البازار الداعشي بين العرض المفتوح والطلب المؤتمت
} د. حسن أحمد حسن*
عندما يتبنّى تنظيم «داعش» تنفيذ إجرامه المتكرّر والمتمدّد في أكثر من مكان وعلى جغرافية أكثر من دولة من الباكستان إلى إيران إلى سورية سواء في دير الزور أم في الست زينب، أم في أماكن أخرى على الجغرافيا السورية، فهذا يعني أنّ المسؤولين الأميركيين الممسكين بصنبور تدفق الإجرام الداعشي في وضع ضاغط ـ نسبياً ـ على أقلّ تقدير، ويبدو أنّ التحكم المؤتمت بإطلاق الوحشية الداعشية لم يعد قادراً على تلبية الطلب الأميركي المتزايد لاستخدام الإرهاب المسلّح بلبوس «داعش» أو غيرها من مفرخات الإرهاب الذي تفنّن بتعدّد مسمّياته والأقنعة التي يمكن أن يلبسها وينتشر حاملاً هويتها المختومة ببصمة الاستخبارات الأميركية بامتياز باعتراف المسؤولين الأميركيين أنفسهم، وكيلا يتشعّب الحديث سأركز الاهتمام في هذا المقال التحليلي على العدوانية الأميركية المتصاعِدة عبر داعش، والجرائم التي ارتكبها ولا يزال على الجغرافيا السورية، وبخاصة الاعتداء على قافلة مبيت عسكرية في ريف دير الزور منذ أكثر من أسبوع وارتقاء عدد من الشهداء والجرحى، وكل القرائن الدالة المرافقة للجريمة تشير إلى المهنية العالية في التنفيذ الممنهج والتطبيق الدقيق لما يصدر عن قيادة القوات الأميركية في القواعد العسكرية التي تحتلها في الشرق والشمال الشرقي السوري. ومن المفيد هنا الإشارة إلى عدد من العناوين الفرعية والأفكار والنقاط المهمة التي قد تساعد على اتضاح الصورة، ومنها:
ـ المتابع الدقيق للسياسة الأميركية يدرك أنه لا انقطاع بين حلقات تلك السياسة بتبدّل الواجهة المقيمة في البيت الأبيض ومفاصل القرار المرتبطة بالإدارة جمهورية كانت أم ديمقراطية، ولا يوجد مسؤول أميركي إلا وهو حريص على أن تبقى الهيمنة الأميركية أطول وقت ممكن، والجميع يسعى بكلّ الإمكانيات لأن تبقى الأحادية القطبية على امتداد القرن الحادي والعشرين وفق ما تضمنته الخطوط العريضة للاستراتيجية الأميركية منذ ثمانينيات القرن الماضي.
ـ منذ أيام الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما أعلن أنّ القضاء على داعش يحتاج إلى فترة زمنية طويلة قد تمتدّ حتى ثلاثين عاماً، وكلّ من يفهم ألف باء الخبث الأميركي يدرك أنّ مثل هذا الكلام على لسان رئيس أميركي يعدُّ مؤشراً على القرار المتخذ مسبقاً باستمرار الاحتلال الأميركي لأجزاء من الجغرافيا السورية مدة تصل إلى ثلاثين عاماً إن استطاعوا ذلك.
ـ العنوان الرئيس الذي دخلت تحته ما تسمّى «قوات التحالف» بقيادة أميركية إلى الجغرافيا السورية هو القضاء على داعش. والذريعة التي تسوقها واشنطن في جميع المحافل الدولية لعدم خروجها من المناطق التي تحتلها أن داعش هو السبب، والخروج الأميركي يعني عودة داعش، في حين أنّ العكس هو الصحيح. فوجود داعش هو الرئة التي تتنفس من خلالها قوات الاحتلال الأميركية، وكلما مرّت تحركات داعش بفترات خمود تليها مرحلة من رفع سقف العدوانية الإجرامية كلما كان ذلك عصا ارتكاز لأميركا لتعزيز وجودها العسكري أكثر فأكثر، ومن يتوهّم أنّ واشنطن مهتمة بالقضاء على داعش فعلاً عليه أن يعيد النظر في طريقة تفكيره.
ـ ما يؤكد دقة النقطة السابقة هو ما صدر عن القيادة الأميركية من تصريحات ومواقف ركزت على تعزيز الوجود العسكري المباشر، واستقدام آلاف الجنود وحاملة طائرات إضافية، فضلاً عن الإعلان عن نشر أحدث أنواع المقاتلات الأميركية في المنطقة «F22 _ F35” ، وتلا ذلك الوتيرة المرتفعة لداعش وتعدّد جرائمها المرتكبة في أكثر من منطقة، أيّ أنّ جرائم “داعش” مرتبطة بتعزيز الوجود العسكري الأميركي المباشر على الأرض وليس العكس، وكلما زادت الوقاحة الأميركية عبر تعزيز وجودها العسكري، تمدّدت “داعش”، وأخذت متنفساً جديداً وآفاقاً أبعد من المراحل السابقة. وفي الوقت نفسه تعتمد واشنطن تلك الجرائم التي تقوم بها “داعش” ذريعة لاستمرار الاحتلال، مع أن كل ما يتمّ تنفيذه لا يمكن له أن يظهر إلا برعاية أميركية، وإشراف مباشر من قبل القوات المحتلة المنتشرة في العديد من القواعد غير الشرعية.
ـ منذ عدة سنوات وتنظيم “داعش” كجسم عسكري مسلح يأخذ بالتواري والاختباء على صيغة “خلايا نائمة” وغالبية الأعمال التي تقوم بها في مناطق قريبة من مناطق سيطرة قوات التحالف، وعادة يكون الانطلاق من تلك المناطق ذاتها، فكيف يمكن فهم تناقض كهذا، وطالما أنّ تنظيم “داعش” لا سيطرة علنية له على أية بقعة جغرافية منذ سنوات، فمن أين يأتي بالتمويل والتسليح في منطقة تحيط بها وتسيطر عليها قوات “التحالف” بقيادة واشنطن؟
ـ إذا تماشينا ـ مؤقتاً بغاية فهم الحقيقة ـ مع الرواية الأميركية التي تدّعي أنها لن تنسحب من مناطق احتلالها خشية من عودة “داعش”، فبماذا يمكن تفسير استمرار سرقة النفط والغاز والحبوب التي تمثل سلة الغذاء السورية؟ وهل تستطيع القوات الانفصالية “قسد” سرقة تلك المقدرات إلا بغطاء أميركي؟ والتفسير الوحيد القابل للفهم والاستيعاب هو حرص واشنطن على الانتقام من الشعب السوري بكسرة الخبز، وبكلّ مقوّمات وضروريات استمرار الحياة بما فيها المياه بالتنسيق مع المحتل التركي.
ـ تزامن التصعيد الميداني الداعشي على ضفتي الحدود العراقية ـ السورية يؤكد أنّ المشغّل واحد، وإذا أخذنا هذا العنوان وربطناه بالمواقف الأميركية المتعددة التي تؤكد العمل لقطع شريان التواصل بين سورية والعراق والتركيز لفرض السيطرة على امتداد الحدود المشتركة وصولاً إلى التنف، حيث قاعدة القيادة الأميركية عندها تتضح الصورة لكلّ من يريد أن يفهم الحقيقة بأنّ داعش صناعة أميركية بامتياز خدمة لمصالح الكيان الصهيوني، فالبعرة تدلّ على البعير، ومنه مصدرها بأشكالها المتعددة.
ـ توقيت الإجرام الأميركي ـ الداعشي باستهداف قافلة المبيت العسكرية جنوب شرق دير الزور أتى بعد الإعلان الأميركي عن تخريج دفعات جديدة من المسلحين الذين خضعوا لدورات تدريبية مكثفة في قواعد الاحتلال الأميركي، وهذا يعني أنّ المجهود الذي بذل في صقل مهارات أولئك القتلة في الإجرام كان كبيراً ونوعياً، وقد يتكرّر بمباركة المدرّبين الذين قد يطالبون بأوسمة من مصدّري الديمقراطية، وتجار حقوق الإنسان في الإدارة الأميركية، وكل من يدور في فلكها الآسن.
ـ استهداف القافلة العسكرية وفق ما تناقلته وسائل الإعلام كان في الليل، أيّ أنّ داعش بإمكاناته الذاتية عاجز عن تحديد هوية القافلة المستهدفة، وهذا يعني أنّ القادة العسكريين الأميركيين هم الذين رصدوا وتتبّعوا وحدّدوا نوع القافلة ووجهة التحرّك وساعة المرور وكلّ ما له علاقة بالجريمة التي أعلن داعش عن تنفيذها وارتقى جراءها العديد من الشهداء والجرحى. وبكلام آخر “داعش” وبقية التنظيمات الإرهابية والانفصالية المسلحة هي الجيش الأميركي العامل على الجغرافيا السورية، وكلّ كلام آخر يبقى مبتوراً وغير مقنع، لأنه ببساطة غير مترابط، بل متناقض شكلاً ومضموناً.
ـ بيان وزارة الخارجية السورية الذي حمّل قوات الاحتلال الأميركي المسؤولية المباشرة عن الجريمة النكراء التي تمّ ارتكابها ضدّ حافلة المبيت العسكرية للجيش العربي السوري يتضمّن العديد من الرسائل، ولعلّ من أهمّها تلك الرسالة التي تلقفها أبناء العشائر والقبائل السورية المنتشرة في الجزيرة السورية، وفهموا منها ضوءاً أخضر، بل تشجيعاً لتنظيم المقاومة الشعبية وتفعيلها أكثر فأكثر لأنها السلاح الأقوى في مواجهة غطرسة الاحتلال الأميركي وكلّ ما يرتبط به من قوى إرهابية وانفصالية مسلحة، ولعلّ البيان الصادر عن المقاومة الشعبية في المنطقة الشرقية الذي تمّ تداوله عبر منصات التواصل الاجتماعي خير دليل على الانطلاقة الواثقة لهذه المقاومة المشروعة التي حذفت من قاموسها ألفاظ التردّد والتراجع واستبدلتها بالمزيد من الزخم والإصرار على إرغام أصحاب الرؤوس الحامية على إعادة حساباتهم. ولا شك في أنّ بدء مسيرة انتقال النعوش الأميركية عبر الأطلسي سيترك ارتداداته وآثاره المباشرة على الأرض، بغضّ النظر عن مدى رغبة الإدارة الأميركية بإعادة تدوير داعش، وضخ المزيد من السلاح والمسلحين في جسد ذاك التنظيم الإرهابي. فهذا هو المتوقع من قوة احتلالية يزعجها جداً ارتفاع صوت المقاومة الرافض للهيمنة الصهيو ـ أميركية، وإذا كان هناك من يراهن على إمكانية قطع التواصل بين أقطاب محور المقاومة عبر الحدود السورية العراقية، فما على أولئك إلا انتظار عرض هوليودي جديد على غرار ما حدث في أفغانستان عندما انسحبت القوات الأميركية التي احتلت أفغانستان بحجة محاربة طالبان، واضطرت لمغادرة أفغانستان بعد تسليم طالبان ترسانة من الأسلحة الحديثة المتطورة التي تُرِكَتْ على الجغرافيا الأفغانية… وإنّ غداً لناظره قريب.
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية
البريد الإلكتروني للكاتب: [email protected]