أخيرة

ذؤبان الإصلاح

‭}‬ حيّان سليم حيدر
محمية يِلّوستون (Yellowstone National Park) في الولايات الأميركية المتحدة هي مأوى ل 300 نوع من الطيور ومجموعة من مختلف الحيوانات، البَرّمائية، الزواحف والأسماك، الثدييّات من أنواع الدببة، القيوط، أسد الجبل، الوشق، الجاموس، الغزال، الأيائل وغيرها. 67 نوع من الثدييّات كلّها تؤمّن تجانس، بيئي من منطلق «الآكل» و«المأكول».
لذلك هناك تحدّ يتمثّل بتأمين التوازن فيما بين «الآكل» و»المأكول» من الحيوانات والنبات على السواء وإلّا… يختلّ التوازن البيئي في المحمية وفي سلسلة الغذاء ممّا يؤدّي إلى عواقب بيئية وخيمة.
في الماضي كانت الذئاب تقف على رأس السلسلة الغذائية للغابة، غير أنّ عددها بدأ يتضاءل حتى أنّها اختفت من المحمية بالكامل.
في العام 1990، وبعد غيابها من المحمية لمدة قرن، أجرت السلطة المحلّية تجربة مثيرة، أدخلت بموجبها 41 ذئباً إلى الغابة. بعد سنوات، تابعت السلطة، بتمويل الاختبار والأبحاث عبر التحديد والرصد والمتابعة لمعرفة كيفية تفاعل الذئاب مع مأواهم الجديد. هذا البحث أوضح أيضاً تأثير وجود الذئاب على ديناميات باقي العناصر البيئية وبخاصة «المأكول» منها مثال الأيائل والجاموس، ومن بعدها ومن خلالها التأثير على سائر حيوانات وكائنات المحمية وحتى النبات.
وكانت السلطات الفيديرالية قد سبق وأقامت حملات لإبادة الحيوانات المفترسة، من صنوف الآكل، الأمر الذي أدّى إلى تفاقم عدد الأيائل والجواميس، من صنف المأكول، ممّا اضطرّ السلطات للتخلّص من أكثر من 70000 منها بين عامي 1932 و 1968. وعندما توقّفت عن ذلك، إرتفع عدد الأيائل من جديد من 5000 إلى 20000. مع الإشارة إلى أنّ الحيوانات «المأكولة» تعتاش على النبات على أنواعه الأمر الذي يوثّر على البيئة الزراعية الخضراء ممّا يؤثّر بدوره، سلباً أيضاً، على الحشرات والزواحف إلى آخر السلسلة الطبيغية للغابة الكاملة الأوصاف.
ومع إدخال الذئاب حصل تغيير كبير في الغابة. فابتداءً من العام 2015 تضاعفت الجالية الذئبية من 41 إلى 400 لتثبت في هذه الحدود. هذه الدراسة شكّلت نموذجاً عالميّاً في تصرّف الحياة البيئية.
لقد أثبتت الأبحاث أنّ الذئاب ساهمت في خلق قطعان من الأيائل «الصلبة» من طريق التخفيض من الحيوانات الضعيفة والمريضة، بما يمكن تسميته «تنقية النوعية». وبعكس ما كان يظنّه البعض أنّ الذئاب ستبيد مجموعات الأيائل، ولأنّ الذئب يصطاد الغنيمة الضعيفة، كان لِ»عملها» عاملاً مساعداً على تثبيت أعدادها عملاً بمبدأ البقاء للأقوى. لقد خلقت أجيالاً من الأيائل، والجواميس، الأقوى بحيث أصبحت أعداد الأيائل بين 6000 و 8000 بمقابل التغيّرات الكبيرة في الأعداد كما كان سائداً، علماً أنّ في هذا المناخ فالأيل لا يموت من الجوع.
هذا اختبار بنَفَس طويل، طويل الأجل، وقد نجح.
وما علاقة كلّ ذلك لنا وبموضوعنا؟
العلاقة بكلّ بساطة هي في عبارة «الآكل والمأكول»، وفهْمْكم كفاية!
من منطق أنّ لبنان بلد مكربج بسبب الآكل فيه الذي لا يشبع والمأكول الذي لا ينفع (يفهم)، وعلى ضوء الاختبار الذئبي الوارد أعلاه والذي تعمّدنا إفساح المجال التشريحي الواسع له آنفاً، بادرتني فكرة – إمكانية التعويض عن فشل كلّ المحاولات الإصلاحية السابقة من طريق الإختبار أعلاه.
وبذلك أقترح أن ندرّب، كلّ في طائفته التي على رأسها زعيم متحكّم، علينا إدخال مجموعة من الذئاب… المُصلِحة ورفدها بأعمال التحديد والرصد والمتابعة لمعرفة كيفية تفاعل الذئاب مع «مأواهم» الجديد ومع مأكوليهم فيه. هي عملية من نوع تدقيق جيني قد تذكّرنا بأعمال التدقيق الجنائي والجزائي وغيرها التي تمّ تصميمها لكي لا يكون لها أيّ نهاية.
لا شك أنّ عدد «المُصلحين»، الذئاب، سيختلف مع اختلاف «الجمهور»، المأكول، الطائفي، ومساحة المحمية، واستشراس حاميها، واستحالة الإصلاح، وإمكانية انصياع البيئة «الحيوانية» ودرجة نقاوة البيئة «النباتية» مع الحال… إلى آخر الأمور.
وفي الحدّ الأدنى سيكون علينا معالجة أربعة أو (خمسة) مجموعات، مناطق، طوائف، وربّما أكثر، والله أعلم، ولتبسيط الاختبار فلنبدأ بأربعة (أو خمسة) «محميّات». وفي النهاية نجمع ذئاب المجموعات كلّها في مجلس قيادة لنحصل على… «ذؤبان الإصلاح».
لا شك أنّ لبنان هو مرقد المثل القائل: «إذا لم تكن ذئباً، أكلتك…»
وطالما تساءلت لماذا يكون هناك جمع الجمع. وها هو الجواب يبرز من لبنان الخلّاق، ومن باب طوائفه المميّزة، ومن غابة الإصلاح تحديداً، وفي النهاية من مغاور ذئابه. فأنت بحاجة إلى ذؤبان جمعاً للذئاب في مواجهة الديوك وأمثالها فيما يمكن أن «يرضي» الميثاقية…
وفي هذا المجال يقول الشاعر:
«لبنان مأساتك الكبرى مثلّثة:
الدافعون الأذى هم أصله كانوا
والحاكمون الأولى تُرجى شفاعتهم
هم الذين لهم في الشر إدمان
والشعب – ما العروة الوثقى إذا انفرطت؟ –
ألشعب من كثرة الذؤبان قطعان!»(*)
ولك الخيار: يا آكل… يا مأكول!
هل توضّحت الصورة، أم أنها استحالت، أو أنّ ما ذهبت إليه هنا هو علّة لبنان في الأساس؟

*من مجموعة «الشعب يطالب بحكم الذئاب»
سليم حيدر – قصيدة «المحنة الكبرى» – ديوان «لبنان» – شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ش.م.ل. – 2016.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى