الدورة 30 لمخيم الشباب القومي العربي… تكامل الحكمة مع الهمّة
} معن بشور
لا أنسى تلك اللحظة التي استوقفني فيها الأستاذ الكبير طلال سلمان (عافاه الله وشفاه)، بعد الجلسة الافتتاحية للمؤتمر القومي العربي في دورته الأولى التي انعقدت في تونس في 3 آذار/ مارس 1990، ليقول لي: «هل تأمّلت في رؤوس المشاركين فأما يغزوها الشيب أو الصلع، أين الشباب القومي العربي إذن؟ فمستقبل الأمّة في شبابها…»
أجبته ضاحكاً: انتظر قليلاً. ولما انعقدت الجلسة الأولى بعد الافتتاح تقدّمت باقتراح أن يشرف المؤتمر القومي العربي على تنظيم مخيم للشباب القومي العربي سنوياً، في قُطر من أقطار الأمّة، حيث يجري حوار بين الشباب أنفسهم، وبينهم وبين «الشيوخ» أيضاً، على أساس أنّ الشيوخ أهل حكمة، والشباب أهل همّة، وأنّ تكامل الحكمة مع الهمّة يؤدّي إلى نهوض الأمم، كما يجري في المخيم تعارف بين شباب الأمّة والتعرّف على أقطارهم في جغرافيتها وتاريخها وعطائها.
نظرت إلى الأستاذ طلال فرأيته يبتسم ويقول على طريقته: «المهمّ التنفيذ»…
طبعاً كان الرمز العروبي الوحدوي الكبير الراحل الدكتور خير الدين حسيب أول المتحمّسين للفكرة التي جرت مناقشتها سابقاً في ندوة الوحدة العربية في صنعاء التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية عام 1988، بالتعاون مع جامعة صنعاء التي كان يرأسها آنذاك الأستاذ الكبير الراحل د. عبد العزيز المقالح، حيث كان أحد المقترحات التي قدّمتها آنذاك، البحث عن أطر حوار وتلاقي بين شباب الأمّة على طريق الوحدة العربية «بلا حدود».
أما الرمز الناصري الوحدوي البارز الأستاذ عبد الرحيم مراد، أبدى استعداده لاستضافة المخيم في مركز عمر المختار التربوي في الخيارة في البقاع الغربي، وجرى الاتفاق على أن يكون الافتتاح في 23 تموز/ يوليو في الذكرى 48 لثورة يوليو/ تموز بقيادة الخالد الذكر جمال عبد الناصر.
فيما أبدى المناضل فيصل درنيقة، دينامو العمل الشعبي في طرابلس – لبنان، استعداده للمشاركة في تنظيم وإدارة هذه التجربة.
وحين عُدنا إلى بيروت باشرنا الاتصالات والتحضيرات مع أعضاء المؤتمر من جهة، ومع القوى والمنظمات الشبابية لترشيح شابات وشباب، وأبرزها في لبنان جمعية شبيبة الهدى، واتحاد الشباب الوطني، وشباب حزب الاتحاد، وتمّ تشكيل لجنة تحضيرية من أبرز الشخصيات القومية العربية في لبنان للإعداد للمخيم والاتصال بالقيادة السورية لكي يتمّ تسهيل دخول عدد من الوفود إلى لبنان من خلال مطار دمشق، باعتبار أنّ الخدمة في مطار بيروت كانت محدودة بسبب الحرب التي لم تكن قد انتهت بعد، وقد تولى يومها الأخ المناضل يحيى المعلم مهمة استقبالهم في دمشق وإيصالهم إلى مقر المخيم.
وبالفعل تمّ تنفيذ ما جرى الاتفاق عليه، وجرى افتتاح المخيم في الموعد المحدّد بحضور حوالي 200 شاب من عدّة أقطار عربية، وقد جرى الافتتاح برعاية رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك الراحل إلياس الهراوي، الذي مثله في حفل الافتتاح العروبي العتيق الوزير الراحل نصري المعلوف، وهو الخطيب المفوّه، بخطبة قومية مميّزة أكّد فيها عمق الصلة بين لبنان والعروبة.
وهكذا بدأت مسيرة شبابية ما زالت مستمرة حتى الآن، وتعاقب على رئاسة مجلس أمناء المخيم شخصيات عربية بارزة أوّلهم الراحل صفي الدين أبو العز وزير الشباب الذي اختاره وزيراً الرئيس جمال عبد الناصر عام 1968، ووزير الشباب الأردني صالح شفيق أرشيدات، والمفكر المغربي المميّز الدكتور عبد الإله بلقزيز، والسياسي الناصري اليمني الدكتور عبد الملك المخلافي، والأستاذ الجامعي المميّز مدير عام مركز دراسات الوحدة العربية الدكتور مجدي حماد (مصر)، بالإضافة إلى كاتب هذه السطور الذي رافق التجربة من مواقع مختلفة على امتداد 33 عاماً.
أما إدارة المخيم فقد تعاقب عليها كلّ من الأخوة سعيد أيوب (لبنان)، فيصل درنيقة (لبنان)، عبد الله عبد الحميد (لبنان)، طلال خانكان (لبنان)، مهدي السفياني (المغرب)، أحمد كامل (مصر)، محمد إسماعيل (مصر)، في تداول غير مألوف على المسؤولية في بلادنا، على غرار ما جرى الأمر في المؤتمر القومي العربي نفسه، حيث تعاقب على أمانته العامة عشرة أمناء عامين، بدءاً من الراحل الدكتور خير الدين حسيب (العراق)، وانتهاء بالأستاذ حمدين صباحي (مصر)، مروراً بكلّ من أ. عبد الحميد مهري (الجزائر)، أ. ضياء الدين داود (مصر)، أ. معن بشور (لبنان)، أ. خالد السفياني (المغرب)، أ. عبد القادر غوقة (ليبيا)، أ. عبد الملك المخلافي (اليمن)، د. زياد حافظ (لبنان/أميركا)، أ. مجدي المعصراوي (مصر).
ولقد واكب هذه التجربة عدد من المناضلات والمناضلين الفاعلين من الأعضاء البارزين في المؤتمر القومي العربي كالدكتور مصطفى نويصر (الجزائر)، أ. عبد الإله المنصوري (المغرب)، أ. احمد الكحلاوي (تونس)، ومساعدة الأمين العام للمؤتمر القومي العربي رحاب مكحل الحاضرة في كلّ مبادرة وطنية أو قومية، بالإضافة إلى من شارك في إدارة المخيم من شباب المخيم وشاباته.
وقد بات ثمانية من خريجي المخيم الشباب بالانتخاب أعضاء في الأمانة العامة الحالية للمؤتمر القومي العربي، وهم: مدير المخيم أ. محمد إسماعيل (مصر)، أ. أحمد حسين (مصر)، أ. أحمد حسن (لبنان)، أ. أحمد كامل (مصر)، النائب حسن مراد (لبنان)، أ. حسن المرزوق (البحرين)، د. خالد شوكات (تونس)، د. هزرجي بن جلول (الجزائر)، بالإضافة إلى أحد مؤسسي تجربة المخيم المناضل فيصل درنيقة الذي تولى موقع الأمين العام فيه، في التحضير للمخيم أو في إدارته، فيما أصبح آخرون وزراء وقادة أحزاب ونقابات وإعلاميين وأكاديميين بارزين.
ولو أفسح المجال لبعض من أشرفوا على إدارة المخيم وتنظيم أعماله كالأخ فيصل درنيقة، عبد الله عبد الحميد، والأخت رحاب مكحل، أن يعرضوا حجم الصعوبات والعقبات التي واجهوها، وقد حال بعضها دون مشاركة وفود بأكملها، لكان لهم مجلدات في هذا الصدد، لا سيّما لجهة الحرص على استقلالية هذه التجربة عن الواقع الرسمي العربي وتناقضاته، وعن محاولات هيمنة الدولة المضيفة، وعن صعوبة تأمين الموارد المالية، رغم أنّ المشاركين يتحمّلون نفقات سفرهم وإقامتهم في الفترة قبل وبعد أيام الاستضافة، وعن المشاحنات التي كانت تحصل بين مشاركين ينتمون إلى بيئات سياسية وحزبية متنافسة، إلى الحصول على تأشيرات السفر بين حدود مصطنعة، إلى مضايقات أمنية لبعضهم في بعض الأقطار، لا سيّما في فلسطين المحتلة التي كان شبابها وشاباتها من أكثر المشاركين في هذه المخيمات حماسة.
غير أنّ ذلك كله لم يمنع أن تتميّز تجربة مخيم الشباب القومي العربي عن مثيلاتها من التجارب بعدّة أمور:
أولاً: استمرارية التجربة رغم شحّ الموارد التي تقوم على تحمّل المشاركين نفقات سفرهم وبعض التبرعات المحدودة.
ثانياً: حرصها على الاستقلالية وعدم التورط في الخلافات والصراعات القائمة في الوطن العربي ليس على المستوى الرسمي فقط، بل على المستوى الشعبي والفكري والحزبي.
ثالثاً: تداول المسؤولية في هذه التجربة، سواء على مستوى الأمناء أو الإداريين، بحيث يُتاح لأوسع مشاركة في تحمّل المسؤولية وتراكم الخبرات.
رابعاً: حضور قضايا الأمّة الرئيسية في جدول أعمال كل الدورات، لا سيّما قضية فلسطين، والحصار على العراق، والحروب الصهيونية على لبنان، والحرب الكونية على سورية، وغزو الناتو على ليبيا، والحرب على اليمن وفيه، ثم قضايا التنمية والتطور والتكنولوجيا وحقوق الإنسان.
خامساً: اعتماد مبدأ الحوار الفكري والسياسي في المناقشات بين الشباب أنفسهم، وبينهم وبين المحاضرين الذين يستضيفهم المخيم، والابتعاد عن المشاحنات الحزبية والسياسية والفئوية، وتجنب إصدار بيانات سياسية للإبقاء على الطابع الحواري للمخيم.
سادساً: إنّ هذه التجربة جاءت في إطار استراتيجية العمل القومي التي تدارستها ندوات مركز دراسات الوحدة العربية، وتبناها المؤتمر القومي العربي في دورته الثالثة عام 1994، وهي بناء مؤسسات قومية بينها جمعيات علمية عربية متخصّصة في الاقتصاد والسياسة وعلم الاجتماع وعلم النفس، ومنها منظمات عربية كالمنظمة العربية لحقوق الإنسان والمنظمة العربية للترجمة والمنظمة العربية لمكافحة الفساد، ومنها المؤتمرات الجامعة كالمؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي – الإسلامي والمؤتمر العام للأحزاب العربية، على نحو يتكامل مع الحركات الحزبية والسياسية والنقابية الملتزمة بالمشروع النهضوي العربي.
ولقد كان الغرض من إنشاء هذه الشبكة المتكاملة من المبادرات والمؤسسات هو إنشاء بنية تحتية، علمية جامعة، للحركة الوحدوية العربية، استطاعت أن تنجح أحياناً وتتعثر أحياناً، لأسباب متعدّدة أبرزها النزاعات الحزبية والشخصية والفردية التي تضرب كلّ عمل مشترك، ومنها الحصار المتعدّد الأوجه لكلّ عمل قومي، لا سيّما حصار الإعلام والموارد التي لو توفّرت لهذه المؤسسات لقدّمت الكثير الكثير، ومنها أيضاً استعجال البعض لاستغلال هذه المؤسسات الناجحة لمصالح حزبية أو شخصية أو فئوية.
سادساً: لقد انطلق من رحم مخيمات الشباب القومي العربي عدّة مبادرات شبابية نعتزّ بها، وهي ندوة التواصل الفكري الشبابي العربي السنوية، وقد بلغ عدد ندواتها حتى الآن عشرة ندوات، وهي ندوة خاصة بالشباب يعدّون أوراقها ويديرون نقاشاتها دون تدخل من أحد، وقد أشرفت على تنظيمها لجنة تحضيرية مشتركة بين المنتدى القومي العربي في لبنان، والمركز العربي الدولي للتواصل والتضامن، وتناوب على رئاستها د. هاني سليمان والمناضل الراحل قبل أشهر الأخ خليل الخليل، ومنها أيضاً الملتقى الشبابي التضامني السياحي العربي الذي عقد منذ انطلاقته قبل ثلاث سنوات أربع ملتقيات في بيروت ودمشق وأشرف عليه المناضل عبد الله عبد الحميد وترك أطيب الأثر، لا سيّما في سورية المحاصرة والمنكوبة بالعدوان والاحتلال.
كما انطلقت من رحم هذه التجربة، تجربة مميّزة في لبنان، هي برنامج شباب لبنان الواحد الذي بدأ بتنظيم مخيمات وحوارات ومعارض ورحلة الاستقلال إلى قلعة راشيا التي ضمّت عشرات الآلاف من الشباب، على مدى 16 عاماً، بإشراف المناضلة رحاب مكحل التي تحرص على تكامل عملها الوطني اللبناني مع عملها القومي العربي.
ومع ذلك تبقى تجربة مخيمات الشباب القومي العربي، وهي اليوم تستعدّ لإطلاق دورتها الثلاثين واحدة من أكثر هذه التجارب إضاءة وتأكيداً على أن مستقبل الأمّة هو في شبابها الذي يشكّلون «نصف الحاضر وكل المستقبل»، كما قال يوماً الزعيم الخالد الذكر جمال عبد الناصر، وخصوصاً أنّ التكامل الرائع بين المؤتمر القومي العربي ومخيمات الشباب القومي العربي، هو تكامل بين الحكمة والهمّة، فالحكمة دون همّة فراغ، والهمّة دون حكمة ضياع.