عائدات النفط والغاز مثل الذهب…
} أحمد بهجة*
تحقّق في لبنان خلال الأسبوع الماضي إنجاز تاريخي ستكون له تأثيرات مهمة جداً على حاضر البلد ومستقبله، لا سيما على صعيد الإنقاذ الاقتصادي، لأنّ الأزمة الحالية الخانقة التي يعاني منها اللبنانيون لم يعد ممكناً إيجاد الحلول لها بالوسائل التقليدية العادية، وبات من الضروري اللجوء إلى علاج استثنائي وسريع.
هذا الإنجاز الاستراتيجي الكبير تمثل بوصول باخرة التنقيب عن النفط والغاز (Transocean Barents) إلى البلوك رقم 9، لتبدأ عملها في الاستكشاف والحفر أواخر شهر آب الحالي، على أن تنتهي خلال أقلّ من 3 أشهر، وتقدّم النتائج بشكل رسمي إلى الدولة اللبنانية.
قبل الدخول في التفاصيل الحالية، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ ما حصل ويحصل في البلوك رقم 9 معاكس تماماً لما حصل في البلوك رقم 4 في العام 2020، حين أوقفت «توتال» وشريكتاها «إيني» الإيطالية و»نوفاتك» الروسية العمل ولم تستكمل الحفر، ولم تسلّم الدولة اللبنانية ممثلة بوزارة الطاقة والمياه التقرير الرسمي بنتائج الحفر كما ينص الاتفاق الموقّع بين الجانبين، فيما جرى وقتها ترويج معلومات غير مؤكدة بل غير صحيحة بأنّ البلوك رقم 4 لا يحتوي على الغاز كما كان متوقعاً، علماً أنّ «توتال» كانت قد أعلنت في تقاريرها الأولية عن وجود الغاز بكميات كبيرة، ثم أعلنت عند بدء عملية الاستكشاف والتنقيب في ذلك البلوك أنّ لبنان سيكون من أغنى الدول.
هذا الأمر لن يتكرّر في البلوك رقم 9، والسبب معروف وواضح لأنّ العمل اليوم يجري برعاية المُسيّرات والإحداثيات ورسائل المقاومة المعلنة والغير معلنة، والتي يفهمها الأميركيون والإسرائيليون بشكل جيد، وقد تحدّث مسؤول ملف الموارد والحدود في حزب الله السيد نواف الموسوي عن هذا الأمر بالتفصيل في إطلالته التلفزيونية الأخيرة على قناة «المنار»، وكيف ردّ على أحد المندوبين الدوليين حين حاول تخويف وتهديد اللبنانيين بتهديد مقابل قائلاً له «ضع في رأسك أنّ عليكم تحضير أنفسكم ومطاراتكم لاستقبال ملايين اللاجئين الإسرائيليين لأنّ المقاومة قادرة على ضرب كلّ مكان في الكيان الصهيوني بشكل مدمّر».
في السياق نفسه أعلن وزير الأشغال العامة والنقل الدكتور علي حمية عن الخط الجوي ما بين مطار بيروت وحقل قانا البحري في الجنوب، لتقديم الخدمات الفنية واللوجستية لمنصة الاستكشاف والحفر، وأطلق عليه اسم «خط قانا 96»، تخليداً لشهداء مجزرة قانا عام 1996 كتاريخ مفصلي بالنسبة لقواعد الاشتباك مع العدو الإسرائيلي، وهي القواعد التي أرست دعائم النصر وأسّست لمرحلة التحرير في العام 2000.
وأعلن الوزير حمية قراره خلال قيامه بزيارة ميدانية مشتركة مع وزير الطاقة الدكتور وليد فياض الذي أكد أنّ وصول باخرة التنقيب مناسبة مهمة جداً في مسيرة طويلة لوضع لبنان على الخارطة النفطية، وخاصة في حوض البحر الأبيض المتوسط، وهذه المسيرة بدأت عندما كان النائب جبران باسيل وزيراً للطاقة والمياه عام 2010، حين تمّ وضع الإطار القانوني والهيكل لهيئة إدارة قطاع البترول، لكن الكيد السياسي هو الذي حال دون المضيّ قدُماً منذ ذلك الوقت إلى العام 2016».
وذكّر الوزير فياض بأنّ «النقطة الثانية والأساسية وُضعت مع بداية عهد الرئيس عون حيث اكتملت في 2016 – 2017 كلّ المراسيم التطبيقية التي كنا في حاجة إليها لنستطيع البدء بالتنقيب عن النفط والغاز في البحر الأبيض المتوسط».
وفي أواخر عهد الرئيس عون كانت النقطة الرئيسية والمحورية والجوهرية التاريخية وهي الترسيم البحري الذي استطاع من خلاله الرئيس عون في عهده وبدعم معادلة القوة التي يتمتع بها لبنان، والتي فرضت أن نأخذ في الترسيم ما لم يكن ممكناً تحصيله في ظرف مغاير. وقد حافظ لبنان من خلال هذا الترسيم على كلّ حقوقه بالنسبة للموارد تحت المياه وبالنسبة للموارد الجغرافية، بمعنى أننا لم نخسر أيّ كميات من النفط والغاز المحتمل أن تكون موجودة في حقل قانا بغضّ النظر سواء أكانت جنوب الخط 23 أم شماله وحقنا كله سنأخذه».
المهمّ الآن أنّ العمل قد انطلق في البلوك رقم 9، وفي أقلّ من ثلاثة أشهر سوف تأتي البشرى السارة كما تؤكد كلّ التقارير بأنّ في هذا الحقل كميات هائلة من الغاز، وهي كميات كافية لكي يبدأ لبنان بحلّ مشاكله وأزماته المتراكمة والمستعصية اقتصادياً ومالياً واجتماعياً ومعيشياً…
على أنّ الأهمّ يبقى في قوننة نتائج هذا العمل الكبير، بمعنى أن يُنهي مجلس النواب إقرار قانون إنشاء الصندوق السيادي لكي يتمّ تنظيم التصرف بالعائدات المرتقبة، وما يمكن صرفه في المراحل الأولى لتصحيح أوضاع لبنان الاقتصادية والمالية، وما يجب حفظه للأجيال المقبلة.
وهنا لا بدّ من توضيح المسألة أمام الرأي العام، حيث يُحكى الكثير عن عدم الثقة بهذا الصندوق وبمن يمكن أن يكونوا قائمين عليه، وذلك تبعاً لعدم الثقة بالإدارات العامة التي أوصلت البلد إلى ما نحن فيه اليوم… ولا شكّ أنّ الأمر له تبريراته إذ انّ الفساد المستشري في مفاصل الدولة لم يبقِ أملاً بإمكانية الإصلاح…
لكن الأمل هو بإصدار قانون إنشاء الصندوق السيادي عن مجلس النواب، لأنّ التعامل مع هذا الأمر يصبح شبيهاً بطريقة التعامل مع احتياطي الذهب، إذ لم يستطع أحد التصرف به رغم كلّ ما مرّ على لبنان من حروب داخلية وخارجية ورغم كلّ سنوات الفساد والإفساد التي لم تبقِ شيئاً… لكن الذهب بقيَ محمياً بقوّة القانون، وهذا ما نأمل أن ينطبق على عائدات النفط والغاز، لأنّها الأمل الوحيد للإنقاذ والخلاص…
*خبير مالي واقتصادي