قراءة في قمة بريكس في جوهانسبرغ
} زياد حافظ*
اعتبر الرئيس الصيني زي جينبينغ ان قمّة مجموعة دول بريكس التي عّقدت في جنوب أفريقيا على مدى ثلاثة أيّام قمّة «تاريخية». وربما هذا التوصيف يقلّل من أهمية ما حصل وما يرمز إليه، بل هو تصريح مكبوح يبخس بيقين الحدث. فالصينيون بطبيعتهم حذرون ولا يلجأون إلى المبالغات اللفظية، لكن واقع الحال هو أنّ الألفاظ لن تفي حقّ ما حصل. أما نحن، فنعتبر الحدث أكثر من تاريخي لما له من أبعاد متعددّة تحقّقت بضربة معلّم واحدة. فالحدث يكرّس أنّ العالم لم يتغيّر فحسب ولا لأنّ موازين القوّة انتقلت من الغرب إلى كتلة صاعدة تمثّل الأكثرية الساحقة من شعوب العالم الرافضة للتبعية بشكل عام والغربية بشكل خاص بعد قرون من الاستغلال والاذلال، بل القيمة المضافة للحدث هو شروق عالم يفتح المجالات لكافة الطاقات لدى الدول والشعوب على قواعد كانت قد رسّخها ميثاق الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية والذي تمّ تحريفه من قبل الولايات المتحدة. فبيان قمّة بريكس يعيد التأكيد لمبادئ الأمم المتحدة وستعمل المجموعة على قاعدة تلك المبادئ كما جاء في بيان مفصل من 94 بنداً في 9300 كلمة.
ما نريد إبرازه في هذه المقاربة هو أنّ قمّة بريكس شهدت على تحوّل مجموعة أقرب للنادي إلى منظومة سياسية واقتصادية وثقافية وبيئية تعيد الأمل للبشرية. وهذه المنظمة التي تتحوّل إلى منظمة بكلّ معنى الكلمة بل إلى نواة منظّمة تمثّل فعليا البشرية على الصعيد السكّاني والاقتصادي. فالمجموعة الأولى لدول بريكس التي تضمّ كلاً من البرازيل والصين والهند وروسيا وجنوب أفريقيا كانت تمثل قبل توسيعها ما يوازي 3،2 مليار إنسان أيّ 40 بالمائة من سكّان العالم وإجمالي اقتصادها يوازي 27،7 تريليون دولار، أي 26 بالمائة من الاقتصاد العالمي. أما على الصعيد الجغرافي فالمجموعة كانت تمثّل 29،5 بالمائة من مساحة العالم.
انضمام ستّ دول إلى مجموعة بريكس سيزيد حجم ووزن المنظومة حيث عدد السكّان يرتفع إلى 3،7 مليار إنسان ما يوازي 46 بالمائة من سكّان العالم. وعلى الصعيد الاقتصادي يصبح الحجم 30،7 تريليون دولار ما يوازي 29،3 بالمائة من الإنتاج الإجمالي العالمي. لكن القيمة المضافة هي أنّ المجموعة الموسعة التي تضمّ 4 دول من غرب آسيا أصبحت تمثّل 43،1 بالمائة من الإنتاج النفطي العالمي. مع التسليم بأنّ زيادة الحجم تشكّل قفزة نوعية لا يستهان بها، غير أنّ أهمية التوسّع تكمن في البعد الجيوستراتيجي والبعد الجيوسياسي والبعد الجيواقتصادي.
فعلى الصعيد الجيوستراتيجي فنظرة سريعة إلى خارطة العالم توضح ما نقصده. فانضمام 4 دول من غرب آسيا أيّ مصر وبلاد الحرمين ودولة الإمارات والجمهورية الإسلامية في إيران إضافة إلى انضمام اثيوبيا يعني أنّ البحر الأحمر والخليج والمحيط الهندي أصبحوا خارج سيطرة منظومة جي 7 التي تشكّل منظومة الغرب. هذا يعني أنّ نظرية السيطرة على البحار الخمسة (البحر الأسود، شرق البحر المتوسط، البحر الأحمر، بحر قزوين، والخليج) تصبح ركيزة الأمن المشترك للدول المعنية وهذه النظرية كان قد أطلقها الرئيس بشار الأسد. وأهمّ من كلّ ذلك فهذا يعني أنّ الممرّات البحرية من المحيط الهندي والخليج إلى أوروبا عبر مضيق هرمز وباب المندب أصبحت ضمن مجموعة سياسية اقتصادية متماسكة تملك من القوّة ما يمكّنها من التصدّي إلى الضغوط الغربية وخاصة الأميركية. ففقدان السيطرة على تلك الممرّات رغم وجود قواعد عسكرية يشكّل للولايات المتحدة ودول الغرب انتكاسة كبيرة للسيطرة الجغرافية على تلك الخطوط والممرّات.
لكن هذا وجه واحد من البعد الجيوستراتيجي. فإذا اخذنا بعين الاعتبار الممر الشمالي الجنوبي الذي يربط روسيا بالمحيط الهندي عبر إيران وأفغانستان وباكستان، وإذا أضفنا الممر الشرقي الغربي الذي أوجدنه الصين عبر مبادرة الطريق الواحد وخاصة البعد في التواصل المفرط (hyperconnectivity) بعد أن يتمّ تنفيذ شبكة سكك الحديد التي توصل البحر الأصفر بالبحر المتوسط، نرى مدى الترابط والتماسك في الجغرافيا. وما يدعم تلك السيطرة الجغرافية هو الممر القطبي الشمالي التي تسيطر عليه روسيا وما يحتوي القطب الشمالي من احتياطات نفط وغاز ومعادن. لذلك يمكن القول إنّ السيطرة على الممرّات البرّية والبحرية لم تعد بيد الغرب كما كان الحال خلال القرنين الماضيين.
هذه هي الملاحظات الأوّلية على البعد الاستراتيجي. أما فيما يتعلّق بالبعد الاقتصادي فقد ذكرنا زيادة الوزن الاقتصادي لمجموعة بريكس. لكن الأهم من كل ذلك فإن تلك المجموعة الموسّعة تتحكّم بمصادر الطاقة التي دونها لا يوجد اقتصاد عيني، وتتحكّم بقسم كبير من المعادن الثمينة والنادرة والأساسية في الحقبة الجديدة من الصناعة المرتكزة على الذكاء الاصطناعي. كما أنها تتحكّم بمصادر الإنتاج الزراعي ما يفقد ورقة ابتزاز كبيرة للغرب في التهديد بالتجويع.
والأزمة الاقتصادية العالمية التي نتجت عن جائحة الكورونا أظهرت بشكل واضح أن الاقتصادات المنتجة فعليا وليس افتراضياً هي الاقتصادات التي تستطيع أن تصمد. كما أنّ العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا أظهرت متانة الاقتصاد الروسي الذي استطاع الصمود أمام العقوبات الاقتصادية الكاسرة. فالاقتصاد العيني، أيّ الاقتصاد المبني على الإنتاج وليس على أمولة الأصول يصمد أمام العقوبات بينما الاقتصاد الآخر منكشف تجاه العالم ولا يستطيع تأمين حاجاته الأساسية إلاّ عبر الاستيراد.
البعد الجيواقتصادي يحتاج ربما إلى مقاربة منفصلة لا نستطيع في المساحة المتاحة عرضها. لكن المهمّ هنا أن توسّع مجموعة بريكس إلى 11 هذه السنة وربما إلى أكثر من 40 في السنوات المقبلة يعني أن التجارة العالمية ستتحول من تجارة من الجنوب نحو الشمال إلى تجارة تتوجه لدول الجنوب. فالتبادل التجاري سيزداد وخارج هيمنة الدولار عبر الترتيبات المالية الجديدة التي تفضي إلى تجنّب الدولار وخاصة في السلع الاستراتيجية كالنفط والغاز والمعادن. لم تكن مهمة القمة إعلان عن عملة جديدة لأنّ ذلك يتطلب المزيد من الجهود لخلق الآليات والنظم الحاكمة والتفاهم على القواعد التي لا تهدّد أمن وسيادة الدول المشاركة. لذلك ستكون المرحلة الحالية والمقبلة مرحلة التبادل بالعملات الوطنية إلى أن يتمّم الاتفاق على وسيلة مدفوعات غير مرتبطة بعملة وطنية واحدة أو حتى بسلّة من العملات لأنّ ذلك يقوّض حرّية التحرّك النقدي في الدول المعنية. فوحدة المدفوعات الجديدة ستكون وسيلة لتسييل التبادل التجاري دون المسّ بسيادة العملة الوطنية.
أما البعد الثالث، وهو البعد الجيوسياسي، فمنظومة بريكس القديمة والموسّعة تسعى لإعادة تأهيل ميثاق الأمم المتحدة بعيداً عن السيطرة الأميركية المهيمنة على المؤسسات التابعة لهيئة الأمم المتحدة. فالمنظومة ليست جبهة سياسية مناهضة للولايات المتحدة أو الغرب بل منظومة ترفض تحريف الميثاق ونسف قواعد القانون الدولي. من هذه الزاوية ترفض هيمنة أيّ دولة على مقدّرات الدول الأخرى كما تفعل الولايات المتحدة. لذلك ندعو إلى قراءة متأنّية لإعلان قمة جوهانسبرغ الذي يسطّر مبادئ العلاقات بين الدول ومضمون التعامل بينها. فاحترام السيادة والخصوصيات واحترام القانون الدولي والابتعاد عن القاعدة الصفرية حيث العلاقات بين الدول يجب أن تكون على قاعدة رابح – رابح تخالف الرواية التي يروّجها الغرب وخاصة الولايات المتحدة أي علاقات دولية مبنية على الاحكام والنظام دون تحديد ما هي الاحكام ومن يحدّدها ولا النظام المطلوب إلاّ رغبات واملاءات الولايات المتحدة دون الاكتراث إلى حقوق الدول. هنا يكمن المشروع السياسي الذي يستهوي عددا متزايدا من الدول. فعشية انعقاد القمة كان عدد الدول الطالبة للانتساب إلى المجموعة يفوق 40 دولة.
وفي ما يتعلّق بمخرجات القمة فيمكن القول إنّ مجرّد انعقاد تلك القمة إنجاز بحدّ ذاته نظراً للضغوط الكبيرة التي مورست على كلّ من الهند وأفريقيا الجنوبية لإفشال القمة. لكن بعيداً عن ذلك الاعتبار غير الشكلي في الأساس فإنّ الوثيقة التي صدرت عن القمة هي مانفستو يرسم خطّة العمل على الصعيد السياس والاقتصادي والمبادئ التي يرتكز إليها. ومن القرارات التي اتخذت هي تعميق النقاشات حول إنشاء وحدة تبادل ومدفوعات تحلّ مكان الدولار في التبادل التجاري بين الدول. إلى أن توجد تلك الوحدة فالتبادل بين دول مجموعة بريكس سيكون بالعملات الوطنية ما يشكّل ضربة قاسية لهيمنة الدولار كعملة احتياط ووسيلة مدفوعات. لذلك يمكن القول إننا في مرحلة انتقالية قد تطول أو تقصر وفقاً للجهود التي ستبذل لتذليل العقبات التي تواجه إنشاء وحدة مدفوعات رقمية لا تشكّل بديلاً عن العملات الوطنية وتكون محصورة في التبادل التجاري والمالي بين الدول المعنية. وكذلك الأمر بالنسبة للمؤسسات المالية التي ستقوم بمهام مصارف تنموية لتكوّن شبكة من شرايين مال خارجة عن سيطرة الغرب. ليس المطلوب أن تكون بديلاً عنها بل إيجاد خيارات أخرى للدول التي لا تريد أن تخضع لإملاءات المؤسسات الدولية كصندوق النقد الدولي أو مجموعة مؤسسات البنك الدولي أو البنك الأوروبي للاستثمار ناهيك عن شبكة المؤسسات المالية العملاقة الخاصة.
مخرجات القمة تستحق مقاربة منفصلة قد نقوم بها في وقت لاحق لكن مهمة المقاربة الحالية هي ابراز الابعاد الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية التي تعكس التحوّلات في موازين القوة. فتوسيع مجموعة بريكس تؤكّد أن عناصر موازين القوّة التي كانت متوفّرة في الدول الغربية لأسباب تاريخية لا داعي ذكرها الآن إلاّ التأكيد أنّ الاستعمار ونهب الثروات للدول الناشئة كان أحد الأسباب الرئيسية لنهضة الغرب. فالتحوّلات في البنى السكاّنية هو لصالح الدول الجنوب الإجمالي وتردّي نوعية القيادات في الغرب قابله قيادات فريدة في الرؤية والتخطيط والأداء في دول عالم الجنوب الإجمالي وخاصة في روسيا والصين والهند والجمهورية الإسلامية في إيران. ومستوى التعليم وخاصة في العلوم أصبح متقدّماً في دول كروسيا والصين على الدول الغربية. والجهوزية العسكرية في التسليح والعتاد والتخطيط مفقودة في الغرب وخاصة في الولايات المتحدة بينما متوفرّة بكثرة في المنظومة الرافضة للهيمنة الأميركية. لذلك هذه القمة قد تكون فاتحة علاقات جديدة بين الدول التي ستضغط على الأمم المتحدة لإعادة تأهيل ميثاقها ومؤسساتها وإلا فهي إلى زوال. هذا ما لمّح به رئيس وزراء الهند نارندا مودي في القمة الأخيرة لمنظمة شنغهاي التي انعقدت قبل أسابيع قليلة من عقد قمة جوهانسبرغ.
من بين الحاضرين لقمة بريكس في جوهانسبرغ وجود امين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتييرز. من راقب لغة الجسد للأمين العام أدرك مدى الأسى الذي انتابه وهو يصغي لخطاب بوتين عبر الشاشة وخطاب الرئيس الصيني وسائر رؤساء المجموعة. فهذا ما يجب أن تكون الأمم المتحدة والآن أصبحت خارجها. أيضا من ضمن الحاضرين الرئيس الكوبي ميغل كانل دياز الذي يترأس مجموعة دول الـ 77 أيّ دول عدم الانحياز. ولا نستبعد في مستقبل قريب أن تصبح مجموعة دول عدم الانحياز «منحازة» إلى بريكس سواء كجزء منها أو مؤسسة «شقيقة». فمنظومة بريكس وما يمكن أن تضمّه في المستقبل أو تتكامل معه كمنظمة شنغهاي أو الوحدة الاقتصادية الأوراسية أو مبادرة الحزام الواحد الطريق الواحد، قد تضمّ أيضاً دول عدم الانحياز إذا ما استمرّ الغرب في غطرسته وانكاره للواقع الجديد.
وفي ظلّ تلك التحوّلات التي يشهدها العالم يُطرح السؤال أين العرب من كلّ ذلك؟ نعم، هناك ثلاث دول عربية التحقت بمنظومة بريكس وقد يلحقها عدد آخر في السنوات المقبلة. وهذه نقلة نوعية مفيدة وضرورية ولكنها في رأينا غير كافية. فمع تأييدنا للالتحاق الدول العربية بالمنظومة لأنّ المستقبل هو في دول عالم الجنوب الإجمالي وليس في الغرب غير أنّ الدخول الفردي للدول العربية قد يضعف الدور العربي في المجموعة المتوسّعة. من حيث المبدأ ومن حيث الواقع ومن حيث المستقبل لن تستطيع الدول العربية منفردة أن يكون لها دور في التجمعّات العملاقة التي تتكوّن أمام أعيننا. كما لن تحلّ الدولة العربية مشاكلها الاقتصادية ضمن الحدود الموروثة من الحقبة الاستعمارية. الحلّ الوحيد هو عبر الوحدة الاقتصادية أو في الحد الأدنى في التشبيك الاقتصادي تمهيداً لوحدة اقتصادية عربية. فأيهم أفضل كتلة عربية بأكثر من 500 مليون أو دول منفردة؟ كتلة اقتصادية عربية توازي سادس اقتصادات العالم أفضل أم شرذمة اقتصادات تصل بالكيد إلى نصف تريليون دولار منفردة؟ وماذا عن موارد الطاقة والمعادن الموجّهة للخارج بدلاً من استثمارها في بناء قدرات إنتاجية في الوطن العربي؟ الوحدة الاقتصادية تفتح الأسواق العربية للاستثمارات العربية. ففائض السيولة التي تتمتع بها بعض الدول النفطية موظّف في الأسواق المالية الغربية وهي تحت سيطرة مزاج حكومات الدول الغربية التي بشحطة قلم قد تسطو على تلك الأموال. فالغرب صادر أموال أكبر دولة نووية في العالم كما صادر أموال إيران وليبيا وأفغانستان وذهب فنزويلا دون الاكتراث إلى القانون الدولي واحترام سيادة الدول. فهل سيتردّد عن مصادرة أموال العرب إذا أصبحت سياسات العرب متناقضة مع سياسات الغرب؟ فائض السيولة لن يكون في الأسواق الآسيوية لكن في الفضاء الاقتصادي العربي. فمشاريع البنى التحتية من شبكات سكك حديد ونفط وغاز وشبكات طاقة كفيلة لاستيعاب تلك الفوائض. كما أنّ الفرص الصناعية والزراعية أيضاً تستوعب تلك الفوائض. والصناعات الحديثة صاحبة التكنولوجيات المتقدمة يمكن توطينها في الوطن العربي بمشاركة الدول الآسيوية والأفريقية وأميركا اللاتينية لكن المركز يكون في الوطن العربي. وللحديث صلة…
*باحث وكاتب اقتصادي سياسي
وعضو الهيئة التأسيسية للمنتدى الاقتصادي والاجتماعي