المشروع الوطني للإمام السيد موسى الصدر
د. عدنان نجيب الدين
كانت شخصية الإمام السيد موسى الصدر غنية بالإيمان بالله ورسالات السماء، وكذلك بالأخلاق العالية والوطنية الصادقة البعيدة عن الأمراض النفسية التي ضربت شعبنا اللبناني، أعني بذلك الطائفية والمذهبية وما يرافقهما من فساد واستعلاء للبعض على البعض الآخر، ومن التعصّب الذي ذمّه نبيّنا الكريم سيدنا محمد عندما قال: ليس منا من يدعو الى عصبية، كما نهى عنها السيد المسيح عندما دعا الى المحبة وأن يحب بعضنا بعضاّ.
لقد أنشأ الإمام السيد موسى الصدر المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى كمرجعية دينية وطنية للشيعة في لبنان مطلقاً شعار أن “لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه” فأصبحت هذه العبارة جزءاً من الدستور اللبناني، وهكذا كان في دعوته وحدوياً في نظرته إلى كلّ شرائح الشعب اللبناني. وما أملى عليه مشروعه النهضوي هو التهميش الذي كانت تعاني منه ليس فقط الطائفة الشيعية التي كانت الوظائف من الفئة الأولى محظورة تقريباً على أبنائها، بل والحرمان الذي كان يلفّ كلّ مناطق البقاع والجنوب وعكار وطرابلس وضواحي العاصمة، إضافة الى ضياع الشباب في لبنان وتشرذمه بين ولاءات طائفية زعاماتية أو إقطاعية طاغية، وكذلك صراع بين أبناء الوطن الواحد على الهوية، فضلاً عن وجود عدو صهيوني متربّص على حدودنا الجنوبية، في ظلّ بطالة مستشرية وفقر مدقع وتمثيل سياسي ضعيف وغير فاعل وغير عادل، وكذلك حاجتهم إلى قيادات رشيدة تأخذ بيدهم نحو حياة أفضل وتخرجهم من قوقعات الطوائف إلى رحاب الوطن.
وكان في سلوكه، كما يشهد كلّ من عرفوه، يدعو إلى الوحدة الإسلامية القائمة على أساس أنّ الشيعة والسنة فرعان من الشجرة المحمدية الواحدة، وكذلك الوحدة المسيحية الإسلامية القائمة على قاعدة الاخوة الوطنية والتعاون البناء، معتبراً أنّ تعدد الطوائف نعمة بينما الطائفية نقمة. فدعا إلى نظرة مواطنية شاملة قائمة على المساواة والمحبة والاخوة والتلاقي الوطني مع احترام هذه التعددية إنما مع نبذ الفتن والتعصب الطائفي. فهو انطلق من طائفته إلى رحاب الوطن بعكس الذين ينطلقون من الوطن إلى التقوقع المذهبي للهيمنة على طوائفهم وتسخير مواردها وموارد الوطن لمصلحتهم. فهو لم يتملك قطعة أرض واحدة ولا حتى منزلاً ولم يمتلك مالاً وثروة، وفي هذا عبرة لمن يريد ان يمارس العمل في الشأن العام او أن يحمل إرث الإمام ويحفظ الأمانة ويسير بمشروعه التنموي والنهضوي، بل عمد إلى بناء المؤسسات التعليمية والصحية والمهنية ودعم الجمعيات الخيرية والنوادي الشبابية تعويضاً عن النقص الحادّ في هذه المجالات في المناطق المحرومة، كما رفض بشدة الحرب الأهلية في لبنان واعتصم في مسجد العاملية في بيروت داعياً الأطراف المتقاتلة إلى وقف الحرب والانخراط في مشروع السلم الأهلي وبناء الدولة على أسس سليمة.
كان مشروعه بناء وطن حر، سيد ومستقلّ، وعدالة اجتماعية وتكريس مبدأ التعليم المجاني للجميع، وتأمين الرعاية الصحية والاجتماعية، وإيجاد مشاريع اقتصادية إنتاجية وفرص عمل للشباب من دون تمييز او استثناء، هادفاً الى القضاء على الفقر والفروقات الطبقية والامتيازات الطائفية، وجعل لبنان قوياً للدفاع عن أرضه وشعبه في وجه الاحتلال الإسرائيلي.
لم يكن الإمام الصدر في سلوكه شيعياً بقدر ما كان مناضلاً وطنياً وإنساناً ربانياً، فانفتح على كافة الملل الدينية وانتقل إلى الكنائس يلقي فيها، وخلفه الصليب، المواعظ الدينية والأخلاقية مُجسّداً في خطبه تعاليم محمد والمسيح، ويبشر بالقيم الإنسانية التي تجمع كلّ بني البشر.
كان الإمام يعتبر “إسرائيل” كياناً توسعياً غاصباً لفلسطين والمقدسات الإسلامية والمسيحية، ولذلك هي عدو، ووصفها بأنها شر مطلق لا يجوز التعامل معها لأنه حرام شرعاً.
لم تكن حركة الإمام الصدر مجرد حركة مطلبية، بل كانت مشروعاً نهضوياً وطنياً. فهو عند تأسيسه حركة المحرومين، أشرك معه شخصيات لبنانية وقامات وطنية من مختلف الطوائف والمناطق اللبنانية، ولذلك لم تكن حركته طائفية ولا مذهبية ولا فئوية أو مناطقية. وعندما أسّس أفواج المقاومة اللبنانية أرادها ان تكون مقاومة وطنية لتقف سداً منيعاً في وجه أطماع العدو الإسرائيلي في أرضنا وثرواتنا، لا سيما أنه ما أنفكّ يقوم باعتداءاته على لبنان، فكان يخطف المواطنين العزل ويقصف القرى والمدن الجنوبية ويدمّر البيوت على رؤوس أصحابها ويحوّل حياة المدنيين إلى حالة من الرعب وعدم الاطمئنان على حياتهم وحياة أولادهم الذين كانوا يتعرّضون للقصف بحيث كان يرتكب المجزرة تلو الأخرى بحقهم فيما تقف الدولة عاجزة عن فعل أيّ شيء نظراً لأنّ سياستها كانت تقوم على أنّ قوة لبنان في ضعفه، وكانت تستجدي الدول الكبرى ومجلس الأمن من دون جدوى فلم يوفروا للبنان أمناً ولا منعوا عنه احتلالاً. ولا ننسى اعتداءات الجيش الصهيوني على مطار بيروت الدولي عام 1968 وتدميره للطائرات المدنية على أرضه من دون أيّ ذنب اقترفه لبنان بل فقط انتقاماً من المقاومة الفلسطينية.
وعند غزو الاحتلال الاسرائيلي للبنان في العام 1982، وبالرغم من تغييب الإمام الصدر واختطافه في ليبيا التي زارها بدعوة رسمية في أواخر شهر آب عام 1978 بدعوة من القيادة الحاكمة آنذاك، كان المقاومون من حركة أمل التي أسّسها الإمام يتصدّون للجيش الإسرائيلي ببسالة مع سائر الأحزاب والقوى المقاومة كالحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب الشيوعي والناصريين والبعثيين الى جانب المقاومة الفلسطينية التي تمّ إخراجها لاحقاً من لبنان بقرار إسرائيلي أميركي. ولكن المقاومة الوطنية اللبنانية استمرّت في عملياتها حتى استطاعت إخراج الاحتلال من العاصمة اللبنانية وقسم كبير من الأراضي التي احتلها العدو الصهيوني، لكنه بقيَ محتلاً ما سمّي بالشريط الحدودي وعهد بإدارته لما سمّاه “جيش لبنان الجنوبي” الذي كان جيشاً عميلاً أذاق الجنوبيين أشدّ أنواع العذاب.
وقد شهد قيام الثورة الإسلامية في إيران تغييراً جذرياً في سياسة إيران التي وقفت إلى جانب الحق الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية بعد أن طردت السفير الإسرائيلي من طهران واستبدلت السفارة الإسرائيلية بسفارة فلسطينة. وهنا وجد بعض الشباب الشيعي المتديّن ضرورة البحث عن حليف له يدعمه في تأسيس حركة مقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي لأنه يعتبر مقاومة الاحتلال واجباً شرعياً ولا يجوز التقاعس فيه، فكانت الثورة الإسلامية في إيران هذا الداعم الجدي والحليف الموثوق، ووجدوا في مرجعيتها الدينية قائداً لهم ومرشداً، فراح أفراد من الشيعة يتدرّبون على السلاح بهدف مقاومة العدو الصهيوني المحتل، وذلك على أيدي الحرس الثوري الذي أمدّهم بالسلاح والخبرات والتمويل، وازداد عددهم وقويت شوكتهم، وهكذا كان تأسيس حزب الله كحركة مقاومة أثبتت جدواها وفعاليتها عندما انخرطت في عملها الجهادي إلى جانب حركة أمل وسائر القوى الوطنية اللبنانية ضدّ الاحتلال إلى أن كان تحرير الجنوب عام 2000 فكان هذا التحرير تطوراً كبيراً وانعطافة نوعية في تاريخ الصراع مع العدو، لأنّ تحرير الجنوب ضرب أساس المشروع الصهيوني القائم على التوسع واحتلال مزيد من الأراضي العربية لتحقيق حلم إنشاء “إسرائيل الكبرى” في المنطقة، وجاء هذا الاندحار لجيش الاحتلال الصهيوني عن لبنان كانتصار عربي مبين على هذا العدو، وكهزيمة نكراء تكبّدها الكيان الغاصب عندما انسحب يجرّ أذيال الخيبة من دون قيد ولا شرط ومن دون أيّ اتفاق سلام كما كان يمنّي نفسه به. أعقب ذلك ضربة أخرى تلقاها العدو في اساس مشروعه الصهيوني التوسعي في العام 2006 عندما عجز جيشه عن احتلال أيّ بقعة من لبنان بالرغم من الدعم الأميركي والغربي له، ومن وقتها لم يعد العدو يجرؤ على شنّ أيّ حرب على لبنان بعد تصاعد قوة المقاومة وتعاظم قدراتها بحيث أصبح وجود الكيان الصهيوني نفسه مهدّداً في فلسطين.
وبالعودة الى قضية خطف الإمام موسى الصدر في ليبيا نقول انّ اختطافه كان محاولة لاختطاف مشروعه الوطني، فبتنا نرى لبنان ممزقاً بين ما يسمّى زعماء الطوائف، كل ينهش ما استطاع من ثروته ويكدّسها مالاً حراماً، فصدقت بهم الآية الكريمة: ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر… لكن مشروعه المقاوم للاحتلال ظلّ قائماً وما زال يزداد قوة بعد تحرير الجنوب وأصبحت هذه المقاومة قوة ردعية بامتياز، وهي التي ساهمت بشكل أساسي في تحرير الجزء الأكبر من ثرواتنا النفطية والغازية.
المهم اليوم، أن يعمل كلّ من هو مخلص للمشروع الوطني للإمام الصدر، وكلّ من يجد نفسه حريصاً على وطنه، وجزءاً من نسيج هذا الشعب اللبناني الواحد الذي يحمل في قلبه حب الوطن ويهمّه استقلاله وحريته وسيادته، ويجد نفسه أيضاً خارج الطبقة السياسية الفاسدة وخارج الاصطفافات الطائفية والمذهبية، فيعمل بسلوكه وخطابه على توعية أبنائنا وأجيالنا الصاعدة لإنقاذ وطننا من الطغمة الفاسدة الحاكمة وأن يقف بالمرصاد للمشاريع الصهيونية وهيمنتها على لبنان والمنطقة، كي يعود لبنان معافى وقوياً، فنبني معاً نظاماً ديموقراطياً حقيقياً بعيداً عن النفاق السياسي والخطاب الطائفي والعنصرية البغيضة، والعمل معاً ايضاً على وضع حدّ للسياسات الاقتصادية الفاشلة ووقف النهب وسرقة أموال الشعب. فلا بقاء للبنان إلا في ظلّ دولة وطنية تتساوى فيها الفرص أمام المواطنين، فلا يكون في نظامنا السياسي أيّ مكان للامتيازات الطائفية والاحتكارات الاقتصادية والمخالفات الدستورية، والعمل فوراً على سنّ قانون انتخابي خارج القيد الطائفي والدعوة الى انتخابات مجلس نيابي جديد بناء على هذا القانون، وان تكون المحاسبة للحكومات صارمة، وأن يحاسب كلّ فاسد أو مرتكب أمام قضاء نزيه ومستقبل.
وهكذا تتحقق العدالة وتسود المحبة ويعمّ الرفاه، وهكذا أيضاً يعود لبنان وجهاً مشرقاً يتألق في هذا الشرق العربي فيتكامل معه على كلّ الأصعدة لما فيه خير أبنائه وتقدّمهم وازدهارهم…