«استعصاء الاستمرارية»… مستقبل أميركا الوجودي
} نمر أبي ديب
ألغت الولايات المتحدة الأميركية بـ تحولاتها الداخلية وصدام المؤسسات الأمنية والسياسية مراحل متقدمة من عقلانية سياسية سمحت مع انتخاب الرئيس السابق باراك أوباما بتخطي الحواجز العرفية، ودخوله (أيّ أوباما) البيت الأبيض على بساط من العظمة الأميركية، والقوة الاستثنائية الكامنة في خلفيات الحدث التاريخي، أيضاً في استراتيجيات التكيّف الشعبي مع «الجديد العُرفي»، الذي عَبَرَ من خلاله الأميركي بكامل مكوناته السياسية وحتى الأمنية متدرجات التحوُّل الفكري و»الجيونمطي» القادر على توفير حدّ أدنى من سبل التكيُّف المُجتمعي مع واقع سياسي جديد فرضته قابلية الخروج الأميركي من دوامة المسلمات العرفية، التي أرست على المستوى الاستراتيجي واقعية اختيار رئاسي مرفق برهان شعبي سقطت مفاعيله العملية على مسار «الإنجازات المُعلَّبة» التي حققتها إدارة الرئيس أوباما، بالتزامن مع سياسات التهدئة الإلزامية والانفتاح السياسي على دول «التصادم التاريخي» في مقدمتها الجمهورية الإسلامية في إيران، كوبا وغيرها من الدول والعناوين الخارجية التي شكلت بالمفهوم الأميركي مراحل انتقالية على أكثر من مستوى من بينها الرهان الرئاسي كما الانتقال السياسي والشعبي من «واقعية الطرح الرئاسي» الجزء النافر على المستوى الأميركي في مراحل ما قبل الرئيس باراك أوباما، إلى الدمج الاستراتيجي ما بين العقلانية الأميركية المواكبة عملية اختيار الرئيس والغموض الاستثنائي المُسجل في شخصية دونالد ترامب الرئاسية، ما يؤكد على رهانات استثنائية وتحوّلات استراتيجية أصابت بمفاعيلها العمق الأميركي كما الرهان الشعبي، يؤكد على مرحلة انتقالية «غير إيجابية»، خاضعة في الشكل السياسي والسلوك الاستراتيجي لموازين أميركية، لرهانات شعبية تخللتها انقسامات داخلية أفقدت الولايات المتحدة الأميركية امتيازات عديدة، في مراحل متقدمة وأساسية من بناء وتثبيت «النظام العالمي الجديد»، ما ساهم في تظهير الخلل العالمي الذي كرّسته بشكل أو بآخر سياسة أميركا الخارجية المرفقة بأطماع «الاستثمار الأحادي» بـ مجمل مقدرات الثروة العالمية، الجزء الواضح والمكشوف من تراكمات الفوضى السياسية التي أسدلت عليها التعددية القطبية في بعديها السياسي والاقتصادي ستائر التحوُّل الاستراتيجي، والخروج التدريجي من مراحل الهيمنة الأميركية التي أظهرت بفعل الفضائح المتتالية للرئيس السابق بيل كلنتون مع أحلام اليقظة التي حدّدت المسار السياسي للرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن، مروراً بزمن «الاسترخاء الأميركي» والمراوحة السياسية التي كرَّستها استراتيجية الرئيس باراك أوباما، وصولاً إلى انتخاب دونالد ترامب، وما رافقه من خروج أميركي واضح لا بل فاضح عن مسار «الواقعية السياسية» التي اتسم فيها الشعب الأميركي، مع ما استتبعها من مواقف هزلية للرئيس الحالي جو بايدن)،
المسافات الفاصلة في السياسة العالمية والجهوزية بين سقف الإنتاج الأميركي ومتطلبات العالم الجديد، التي باتت تفوق سقف القدرة الأميركية بأضعاف، وهنا بيت القصيد وأحد أبرز مسبّبات التراجع في زمن التفوق الصيني وأوراق القوة تحديداً «العسكرية» التي تدير من خلالها روسيا الاتحادية مسار التوازن العالمي الجديد، في كلّ من «أوروبا» وقريباً جداً أفريقيا وغيرها من مساحات الاشتباك العالمي السياسي الأمني وحتى العسكري في المنطقة والعالم.
يُظهِر «سقف الإنتاج الأميركي» في هذه المرحلة، حجم الفراغ الاستثنائي كما الحاجة العالمية إلى إدارة جديدة، إلى نظام عالمي متطور يحاكي في أبعاده الاستراتيجية فرضية «الاحتواء السياسي وسدّ الثغرات»، في مراحل تدحرج السقوط وتلمّس الجانب الأميركي حجم التحوُّل السياسي والانحسار الأمني والعسكري في مجمل نقاط التموضع ومساحات النفوذ.
لعلّ التعددية القطبية الموجودة اليوم أحد أبرز الصِيَغْ القادرة على احتواء «المخلفات السلبية» ومجمل الدوافع العبثية التي أفرزها النظام العالمي السابق، وساهمت في سلوك الولايات المتحدة الأميركية مسار الانهيار الضمني الذي تلمّس مفاعيله السلبية المحور الأميركي برمّته في أكثر من محطة عالمية وموقع استراتيجي أبرزها القارة السمراء (افريقيا) وحرب أوكرانيا التي فقدت من خلالها «أميركا» على مسرح التعاطي الداخلي وحتى الخارجي، مصداقية سياسية وأخرى عسكرية أظهرت بشكل واضح غياب الجهوزية، مع قدرات التحرر السياسي والعسكري من الطوق الاستراتيجي الذي فرضه الروس في أوكرانيا نتيجة حرب الطاقة، والعودة بـ «أوروبا مجتمعة» وأيضاً حلف شمال الأطلسي «الناتو»( الذي يحاول اليوم فرض سياسات توسعية على الحدود الروسية) خطوات إلى الوراء في سياق مشهد عالمي استثنائي بلغ فيه التحوّل حدود «النهضة الوجودية داخل القارة الأفريقية»، وأيضاً مراحل الخروج المبدئي والتحرر السياسي والاقتصادي من بقايا الهيمنة التاريخية التي فرضتها سابقاً الولايات المتحدة الأميركية.
أميركا اليوم كما «إسرائيل» تلفحها رياح التفكك الكياني والاضمحلال نتيجة غياب الملوك في «إسرائيل» والصقور في الولايات المتحدة الأميركية، وهذا يضمن على مسار الزمن القريب تلاشياً شبه كامل للعظمة الأميركية، إضافة إلى الدور السياسي والاقتصادي النابض الأول بمفاعيل الاستثمار العالمي و»الدولار»، عصب المراحل النقدية السابقة ونبض البقاء الأميركي.
انطلاقاً مما تقدّم تعيش الولايات المتحدة الأميركية اليوم استعصاء الاستمرارية وسط متطلبات عالمية لم تعد تملك الولايات المتحدة الأميركي قدرة إنتاجها على الساحتين الداخلية والخارجية.
ما يحدث اليوم على الساحة الدولية والاقليمية، يحاكي في أبعاده الاستراتيجية المسافات الزمنية الفاصلة ما بين الثلاثية القطبية المتمثلة بكلّ من (الصين الشعبية، روسيا الاتحادية، والولايات المتحدة الأميركية)، التي حققت فيها أميركا أكثر من انطلاقة متعثرة، وخطوة ناقصة على مسار السبق العالمي الجديد.