الغاز والنفط في لبنان: من نعمة إلى نقمة؟
} زياد حافظ*
فرح اللبنانيون بمباشرة أعمال التنقيب في المربّع رقم 9 آملين أن تمتدّ العمليات إلى سائر المربعات في المياه الإقليمية وفي المنطقة الاقتصادية اللبنانية. لكن هذه الخطوة المحمودة ترافقها هواجس ومخاوف من سوء استعمال تلك الموارد فتصبح نقمة على لبنان بدلاً من أن تكون نعمة. وتعود هذه الهواجس والمخاوف إلى التشريعات القائمة والمعروضة لقطاع النفط والغاز الناشئ والتي أعدّها أركان المنظومة الفاسدة التي تحكم لبنان والتي تتحمّل مسؤولية الانهيار الاقتصادي. لذلك أقام المنتدى الاقتصادي والاجتماعي ندوة نقاشية عنوانها “الصراع حول النفط في لبنان” قدّم فيها النقيب الأسبق لخبراء المحاسبين المجازين في لبنان الأستاذ أمين صالح مقاربة حول الإطار القانوني والإداري لقطاع النفط في لبنان. وعرض فيها بشكل مفصّل ملابسات الأطر القانونية والإدارية والتداخل الخارجي بالداخلي في القطاع الناشئ كما قدّم معلومات مرعبة حول ما تريده القوى السياسية التي تشكّل الطبقة السياسية في لبنان حول استغلال الموارد النفطية والغازية المرتقبة.
ومع تقديرنا الغالي لمقاربة النقيب الذي حدّد إطار مداخلته في تقديم ملامح القوانين القائمة والملاحظات التي أبداها والتي نوافق عليها إلاّ أننا نعتبر من واجبنا الإدلاء برأي حول مستقبل القطاع الغازي والنفطي انطلاقاً من المبادئ التي أعلنها المنتدى الاقتصادي والاجتماعي حول التغيير الجذري المطلوب في لبنان. والفكرة الأساسية في الورقة المؤسّسة لرؤية مستقبل لبنان التي أطلقها المنتدى هو اعتباره أنّ الهدف الاستراتيجي للتغيير هو نقل لبنان من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد إنتاجي. وتحت هذا العنوان نطرح السؤال التالي: هل القطاع النفطي والغازي سيساهم في تحقيق ذلك؟ الإجابة الأولية بناء على ما عرضه النقيب في مقاربته للقانون والأطر الناظمة للقطاع أنّ المجلس النيابي اللبناني الذي يعكس موازين القوّة السياسية في لبنان لا يريد قطعاً، ونشدّد على كلمة قطعاً، أن يكون القطاع النفطي أداة للتغيير للوصول إلى اقتصاد إنتاجي. ونقول ذلك للأسباب التالية:
أولاً: لا نفهم لماذا لم يقدم المجلس النيابي والقوى السياسية التي تتحكم به على إنشاء شركة وطنية للتنقيب واستخراج وتكريره وتوزيع المنتوج النفطي والغازي ومشتقاته؟ ولماذا أرادت القوى السياسية تكليف شركات أجنبية ومعظمها غربية بتلك المهمة؟ فإذا كانت الحجة أنّ لبنان لا يملك الكفاءة المهنية والتجربة في ذلك القطاع الجديد فهذا عذر أكبر من ذنب بل جريمة بحق الشعب اللبناني. فإذا كانت الخبرة المطلوبة غير موجودة اليوم فيمكن الاستعانة بشركات عربية كشركة سوناطراك الجزائرية أو شركة أرامكو المملوكة من حكومة بلاد الحرمين، أو من شركات لدول صديقة غير معادية للبنان كالشركات الروسية أو الإيرانية أو الهندية أو من أيّ دولة صديقة لغايات التدريب ونقل التكنولوجيا واكتساب الخبرة. فمع مرور الزمن تتكوّن الخبرة والقدرة على إدارة قطاعات التنقيب والاستخراج والتوزيع. للعلم فإنّ شركة سوناطراك الجزائرية قامت بتدريب الشركات الوطنية في أفريقيا.
من جهة أخرى، لا يمكن أن يكتسب لبنان التكنولوجيا والخبرة عبر توكيل الشركات الغربية التي ستحرص على عدم نقل التكنولوجيا لديها بل ستحرص فقط على استخراج النفط والغاز وهي خاضعة للقرار السياسي الغربي المعادي تاريخياً لنمو الشعوب. فعدم إنشاء شركة وطنية لاستخراج النفط والغاز هو تخلٍّ عن السيادة في لبنان في مرفق استراتيجي والتموضع تحت رحمة الشركات الأجنبية. من جهة أخرى، فإنّ قرار عدم إنشاء شركة وطنية يعكس تبعية المنظومة الحاكمة للإملاء الغربي. فالغرب يعاني من استقلالية الدول التي كانت خاضعة للاستعمار المباشر وبالتالي لن يسمح لتلك الدول للنمو المستقلّ بل للمزيد من التبعية للقرار الخارجي. ومن هنا نعتبر أنّ المنظومة الحاكمة غير راغبة (ولا نقول غير قادرة) في نقل الاقتصاد اللبنانية من الحالة الريعية إلى الحالة الإنتاجية. فالحالة الريعية مرتبطة بالتركيبة الطائفية والتركيبة الطائفية تفرض المحاصصة بين القوى السياسية وخاصة بين قيادتها، والمحاصصة السياسية هي العنوان الرسمي للفساد السياسي والاقتصادي والمالي في لبنان. هذا هو معنى عدم إنشاء شركة وطنية تدير القطاع النفطي والغازي في لبنان.
ثانياً: وفي ما يتعلّق بموضوع انشاء الصندوق السيادي لواردات النفط والغاز فإنّ المشاريع المقدّمة من قبل القوى السياسية فإنما تكرّس الطبيعة الريعية المطلوبة لذلك القطاع. فمن جهة تعتبر مشاريع تنظيم الصندوق مبدأ المحاصصة السياسية وهذا بحدّ ذاته مسيء للبنان لأنّ الكفاءات المطلوبة ليست الأولوية بل الولاء والانتماء للقوى السياسية. ومن جهة أخرى، وهنا الأخطر بل الجريمة الموصوفة وهي توظيف إما جميع ورادات القطاع النفطي والغازي خارج لبنان، أو (نظراً “لوطنية” بعض القوى) توظيف على الأقلّ 25 بالمائة في لبنان! هل هناك من حاجة للتعليق على ذلك!؟
وفي ما يتعلّق بحصة الدولة من الواردات التي توظّف في لبنان فليس من الواضح من يحدّد الأولويات والقطاعات: الحكومة أم مجلس إدارة الصندوق؟ صحيح أنّ للحكومة “صوتاً” في مجلس الإدارة ولكن تجربة مصرف لبنان أكّدت “غياب” صوت الحكومة فيها. فهل تتكرّر التجربة المأساوية؟ لكن بغضّ النظر عن تلك الاعتبارات فإنّ مبدأ توظيف واردات النفط والغاز خارج لبنان مبدأ يجب مناقشته على قاعدة اقتصادية وليس على قاعدة ريعية مالية. حفظ حقوق الأجيال القادمة يسبقه في رأينا تسوية الأوضاع الحالية وإعادة تأهيل البنى التحتية، وتوفير الخدمات الاجتماعية في الصحة والتربية والشيخوخة، وتنشيط القطاعات الإنتاجية. عند ذلك الحين يمكن التفكير في تأمين مستقبل الأجيال القادمة. وإذا استطاعت الدولة أن تضع برنامجاً يحاكي الحاجات الملحّة في إعادة تأهيل مقوّمات الاقتصاد فلا مانع أن تضع برنامجاً موازياً لضمان الأجيال القادمة، علما أنّ لبنان عاش طيلة حياته بمجهود أبنائه داخل الوطن وخارج الوطن ودون اللجوء إلى المحاولة المستجدة للاحتيال على واردات النفط عبر فكرة الصندوق السيادي. لم نر أيّ دراسة تستوجب حتمية ذلك الصندوق ما لا تستطيع أن تقوم به الدولة. ولكن هذا نقاش آخر.
أما فكرة تأمين مستقبل الأجيال القادمة أليس ذلك الأمر تكريساً لسياسة وثقافة الريع؟ مستقبل لبنان ليس في اقتصاد ريعي بل في اقتصاد إنتاجي وتشبيك مع بلاد الشام وبلاد الرافدين والجزيرة العربية ودول وادي النيل والقرن الأفريقي وبلاد المغرب الكبير. أما على الصعيد الدولي فقد يكون لبنان جزءاً من مبادرة الحزام الواحد والطريق الواحد أو من الكتلة الاقتصادية الأوراسية أو من منظومة بريكس. لكن ليس مستقبل لبنان مع استمرار علاقة التبعية للغرب. هذه هي رؤية المنتدى الاقتصادي والاجتماعي حيث النهوض الاقتصادي لا يرتكز إلى النفط والغاز بل على مجهود اللبنانيين. لكن كيف يمكن للبنانيين التخلص من الثلاثي الجهنمي الطائفية والفساد والريعية؟ هذا ما تتجنّب القوى السياسية في لبنان مقاربته ومسؤولية اللبنانيين وخاصة القوى الوطنية فيها الضغط المستمر على المنظومة الحاكمة لإجبارها إما على التغيير أو على الرحيل. فثقتنا بأن تقوم المنظومة الحاكمة بما يلزم لتصحيح جرائم الماضي وتغيير نهجها وسياساتها معدومة بالمطلق.
الخطورة في المشاريع المطروحة لصندوق السيادة هو تكريس ثقافة الريع. فخلال حقبة الطائف استطاعت المنظومة الحاكمة “شفط” أكثر من 300 مليار دولار من الاقتصاد الوطني عبر عمليات الاحتيال والنصب الكبرى التي كانت أداتها الأساسية إصدار سندات الخزينة بفوائد مرتفعة دون أيّ مبرّر اقتصادي. كما أنّ الهندسات المالية المتعدّدة الأوجه التي فضحها الوزير السابق الأستاذ بشارة مرهج كانت بتغطية من تلك المنظومة الفاسدة الحاكمة. ومع استخراج النفط والغاز وبوجود نفس المنظومة الحاكمة سيعمل إلى المزيد من “شفط” الأموال لأن لا مساءلة ولا محاسبة عن الماضي. فمن لم يحاسب عن جرائم الحرب بل يطلق العفو العام وكأنه يشجّع على الجرائم مجدّداً سواء في عمليات شغب وفتنة أو في النصب على الدولة واللبنانيين. ومن لا يحاسب المنظومة الحاكمة عن الهدر والنصب ويعيد تكليفها في إعداد المشاريع لتنظيم الصندوق السيادي وكأنه يعطي رخصة لمرحلة احتيال ونصب جديدة. في هذه الحال يتحوّل النفط والغاز من نعمة إلى نقمة على الشعب اللبناني وأشدّ دعائم الفساد المالي والاقتصادي. لذلك فلا جدوى من استخراج النفط والغاز مع تلك المنظومة ومشاريعها المقدّمة لاستغلال تلك الثروات. فاستمرار وجود النفط والغاز والسمك في البحر أكثر ضمانة للأجيال القادمة!
*باحث وكاتب اقتصادي سياسي وعضو الهيئة التأسيسية للمنتدى الاقتصادي والاجتماعي