أخطار الإقامة في حجر الأفعى الأميركية
} د. حسن أحمد حسن*
صحيح أنّ محدّدات السياسة والعلاقات المتبادلة بين الأفراد تتمايز عن نظيرتها بين الجماعات، وتلك تختلف بدورها عما يحكم سياسات المنظمات والدول وفق الثقل النوعي والدور الذي يستطيع أن يضطلع به هذا الطرف أو ذاك، لكن الجميع يلتقون عند أهمية الاستفادة من التجارب السابقة للآخرين، ولكلّ شعب وأمة بعض الأقوال المأثورة والحكم والمواعظ التي أفرزتها الحضارة الإنسانية عبر تاريخها الطويل، والتي تراكمت عبر عقود وقرون، وتمّ صقلها وصياغتها بتراكيب لغوية يسهل حفظها وفهم دلالاتها ومضامينها الغنية المعبّرة عن تجارب وخبرات يمكن الاستفادة منها بدلاً من العناء وبذل الجهد وتحمّل التكلفة التي قد تكون باهظة، وهذا يذكرني بالحكمة التي تقول: (العاقل من اتعظ بغيره، والجاهل من اتعظ بنفسه)، وقريب من هذا المعنى المثل الشعبي السائر: «من يجرب المُجَرَّب عقله مُخَرَّب»، ولا أحسب أنّ عاقلاً يتابع بموضوعية سلوكيات الإدارات الأميركية جمهورية كانت أم ديمقراطية إلا ويدرك النزعة الفوقية التي تحكم أداء اليانكي الأميركي الذي لا يقيم وزناً لأصدقاء ولا لحلفاء ولا لغيرهم إلا بالقدر الذي يستطيع فيه أولئك أداء الأدوار الوظيفية التي يتمّ إسنادها لهم وفق الأولوية المحددة في الأجندة الأميركية، وبما يخدم مصالح واشنطن المتناقضة بالضرورة مع مصالح من يسبّحون بحمدها بكرة وعشياً.. ولعلّ الميزة الأهمّ لتخلي الأميركيين عمن يستخدمونهم ظرفياً، ويتخلون عنهم تكمن في المساواة، فلا فرق بين عملاء صغار، وبين كبار المسؤولين وحتى الزعماء، كما أنها لا تهتمّ بمن تتخلى عنهم سواء أكانوا جماعات وتنظيمات صغيرة أم دولاً ومجتمعات، وسيبقى العالم مرغماً على تذكر صورة الأفغانيين الذين خدموا واشنطن أكثر من عشرين عاماً وكانوا الأزلام الأوفياء لمستعمرهم ضدّ شعوبهم، ومع ذلك تمّ الاستمتاع بمنظرهم وهم يهرولون للحاق بعجلات الطائرات الأميركية التي تقلّ جنود الاحتلال عندما اتخذ القرار بالانسحاب المذلّ من أفغانستان، كما لا أحسب أنّ متابعاً مهتماً يستطيع أن يتناسى صور الطائرات العمودية الأميركية التي كانت تنقضّ بشكل مائل نحو أماكن تجمع المدنيين الفيتناميين لتقصّ أكبر عدد من رؤوس الأطفال والشيوخ والعجائز الهاربين من وحشية العدوانية الأميركية، والتاريخ الحديث بسنواته القريبة مليء بالصور والحوادث التي تؤكد تخلي الأميركيين عن كلّ من تنتهي صلاحية استخدامهم لأداء أدوار وظيفية تخدم المصالح الأميركية على حساب مصالح البشرية جمعاء.
استناداً إلى ما سبق أليس من حقّ المتابع لتطور الأحداث وتداعياتها على الجغرافيا السورية أن يتساءل: هل يعقل أنّ قسد وما يسمّى الإدارة الذاتية لا تدرك حقيقة حتمية التخلي عنها عندما تنتهي صلاحية استخدامها، وواشنطن هي من يحدّد هذه الصلاحية، وليس هذا المسؤول في قسد أو غيرها. والأمر ذاته ينطبق على من يحشر نفسه من أبناء العشائر والقبائل ويسعى ليجد له متسعاً تحت العباءة الأميركية، ولا داعي للاستعجال، فتلك العباءة فضفاضة جداً، وتتسع لجميع من يبيعون أنفسهم بثمن بخس ويرتضون أن يكونوا حربة مسمومة في ظهر العشائر والقبائل العربية السورية الأصيلة التي ينتمون إليها. وفي الوقت ذاته ثقوب تلك العباءة الموبوءة كثيرة وواسعة، ويمكن التخلص من أيّ شخص أو مكوّن يستظلّ بها بيسر وسهولة ومن دون أن يدري المحشور بتصفية المحشور الآخر بجواره، وقد خبرت قسد هذا الأمر سابقاً، فما أن تمّ التلويح بإمكانية انسحاب القوات الأميركية من سورية أيام الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب حتى تزاحمت الصالونات الخلفية بمسؤولي قسد والإدارة الذاتية لاستجداء فتح الطريق نحو دمشق، وعندما تبيّن تأجيل موضوع الانسحاب لم يخجل أولئك من لعق بصاقهم وإعادة ابتلاع ما تقيؤوه قبل قليل، وكأن المطلوب أن يتلقى أيّ من أولئك الصفعات المؤلمة المتتالية وكلها تكون مفاجأة «مئة كف عن غفلة»، وهذا بحدّ ذاته كفيل لكي ينفضّ الناس من حول أولئك، وألا يثقوا بهم لأنهم لا يؤتمنون على شيء، وفيهم يصحّ قول الشاعر:
لا يُلام الذئب في عدوانه
إنْ يكُ الراعي عدو الغنم
من أراد أن يفهم حجم الأخطار والتهديدات التي تواجه الجميع فليتابع الإعلام المعادي وما ينشر من اعترافات بألسنة من يتشاركون في فتح الجرح السوري أكثر فأكثر ليكون النزف أكبر، وسأكتفي بالتوقف عند بعض الأقوال والتصريحات الإسرائيلية والتركية لعلّ بعض من لا تزال على عيونهم غشاوة يتحسّسون رقابهم قبل أن يُجَرُوا منها إلى مقصلة حتمية، وإن زيّن لهم الشيطان سوء أعمالهم، ومنها:
ـ ضابط المخابرات الإسرائيلية السابق» آفي ملامد» كتب في مقالة نُشرت على موقع «The Hill»: إذا أرادت الولايات المتحدة تعزيز موقعها في الشرق الأوسط، فالخطوة اللافتة تكون بإقامة منطقة عازلة بين العراق وسورية»، مدّعياً أنّ طهران تسعى لإقامة ممر بري من حدودها إلى البحر المتوسط، وكأنّ إيران دولة قارية وتحلم برؤية الشواطئ، متناسياً آلاف الكيلومترات من الحدود الإيرانية على البحار المفتوحة، وسرعان ما استدرك الرسالة التي يريد إرسالها وهي تقضّ مضجعه فأشار إلى أن ّ»الممر البري الإيراني» هو «الحجر الأساس» في خطة إيران لتدمير كيانه، وبالتالي كلّ مَنْ يتحدث عن السيطرة على المنطقة الحدودية بين سورية والعراق والعمل على إغلاقها إنْ أمكن هو يساهم في تأخير القضاء على ذاك الكيان، ويعمل على تقويته، وينفذ ما يطلبه حكام تل أبيب، ومن واجب كل مَن يعيش في الجزيرة السورية أن يسأل نفسه: ما هي مصلحته في خدمة كيان غاصب يحتلّ الأرض، ويحلم بتدمير جميع دول المنطقة ليبقى الحكم والمرجع وصاحب القول الفصل في كلّ شؤون المنطقة؟
ـ نقلت القناة 12 الإسرائيلية قلق الصحافي الإسرائيلي الشهير «ايهود يعاري» المتخصص بقضايا الشرق الأوسط والإسلام الذي عبّر بوضوح عن المخاوف التي أفرزها القتال بين قسد والعشائر العربية في الجزيرة السورية، مؤكداً أنّ «اختراق الحاجز على نهر الفرات يُعتبر مشكلة بالنسبة لـ»إسرائيل»». وتابع القول: «ما يحدث بعيداً عنا، على الحدود بين العراق وسورية، يسبّب صداعاً خطيراً لـ»إسرائيل»: المنطقة العازلة التي أقامتها الولايات المتحدة بـ 900 جندي فقط، وبمساعدة الأكراد على طول نهر الفرات، لمنع حرية حركة قوافل الأسلحة من إيران، عبر العراق، إلى سورية، فقدت كامل جناحها الجنوبي… لقد ضاعت هذه المنطقة الإستراتيجية، وهي حلقة رئيسية في نظام الاحتواء ضدّ إيران». ويخلص «يعاري» هذا إلى النتيجة والمهمة المطلوب تنفيذها بالقول: «هذه أخبار سيئة من نهر الفرات، ولا داعي لإطالة أمدها أكثر من ذلك في هذه المرحلة»، ويدرك المتابع لمجريات الأحداث كيف عملت واشنطن على احتواء الأمر، فبقدرة قادر ينخفض سقف العربدات القسديّة، ويضمن الأميركي عودتها للانتشار من المناطق التي طردتها منها العشائر والقبائل العربية من دون قتال، ويتمّ تطييب خاطر بعض المتنفّذين من «الوجهاء» والشيوخ الدائرين في الفلك الأميركيّ، ويعلن آخرون استمرارهم في مواجهة قسد، وهذا ما يجب العمل على دعمه وإعطائه الزخم الكافي والكفيل بالدفاع عن النفس أولاً، وتمكين أبناء العشائر الرافضين الانصياع لإرادة قوات التحالف من الاستمرار بموقفهم المهيّأ لأن يكون الرحم الحاضنة لمقاومة شعبية فاعلة وقادرة على تغيير اللوحة المتشكلة بمختلف معالمها الخاصة والعامة.
مما تقدّم يتضح أنّ الأميركي غير معني إلا بتنفيذ أجندته الخاصة، فعربدات قسد وتجاوزاتها وتحكمها بالجميع يتمّ بقرار أميركي، ولا حقّ لأبناء العشائر في العيش بكرامة ومشاركتهم في إدارة شؤون المنطقة، بل المهمّ والأهمّ احتواء إيران، ومنع الدولة السورية من التعافي والعودة لممارسة دورها الريادي الرافض لكلّ مفردات الأجندة الصهيو ـ أميركية.
ـ وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان صرّح منذ قرابة أسبوع (7/9/2023) «إنّ النزاعات في شرقي سورية هي البداية فقط»، أيّ أنّ التصعيد الميداني والاقتتال لن يتوقف داخل حدود الجزيرة السورية، بل سيمتدّ ويتّسع، ومن غير المعقول أن يتحدث وزير الخارجية التركية ومسؤولها الأمني السابق بمثل هذا الكلام جزافاً، بل بناء على معطيات ومعلومات ونقاط متفق عليها بعلمه ومعرفته، وهذا بحدّ ذاته يطرح عشرات التساؤلات التي يجب على قسد وكلّ من يسيرون في الفلك الأميركي والتركي والإسرائيلي الإجابة عليها.
ـ من المهمّ التوقف عند ما قاله أردوغان بعد عودته من قمته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سوتشي وتأكيده على «أنّ تركيا تسعى جاهدة للتوصل إلى حلّ للأزمة السورية يعتمد على الحقائق الديموغرافية لسلامة الأراضي السورية»، فما هي الحقائق الديموغرافية التي يقصدها أردوغان؟ ألا يعني ذلك الدعوة لإقامة كانتون خاص بمن لهم أصول تركية في أكثر من منطقة من الجغرافيا السورية، وبطبيعة الحال هذا يشمل تشظية سورية إلى أجزاء مشتتة ومبعثرة تقام على أسس إثنية ومذهبية وطائفية وعرقية وإلخ…
ـ كلّ ما ذكرته سابقاً ينسجم ومنطق جنون العظمة الذي يبيح لمسؤولين أميركيين يتقدّمهم نائب وزير الخارجية إيثان غولدريتش وقائد قوة المهام المشتركة (العزم الصلب) اللواء جويل فويل الذين اجتمعوا في شمال شرقي سورية مع قادة من «قسد» ومجلسها الديمقراطي (مسد) وزعماء من العشائر العربية، وبسهولة ويسر تمّت لفلفة الموضوع و»تبويس» الشوارب، وكأنّ شيئاً لم يكن، فهؤلاء جميعاً حطب يطحن في الرحى الأميركية التي يستميت المتحكمون بدورانها لاستعادة شيء من نفوذهم وهيبتهم المتآكلة، ورحاهم تلك تستهدف كلّ من يقول لهم: «لا»، وهيهات لهم بلوغ ذلك.
خلاصة…
الخطر من سموم الأفعى الأميركية المتربصة والمستنفرة للانقضاض واللدغ لا يتوقف عند حدود الجزيرة السورية، بل يشمل كلّ المنطقة وما بعد المنطقة، ومن يقبل لنفسه الإقامة في جحر تلك الأفعى السامة أو حجرها عليه أن يخبر أهله ألا تصيبهم المفاجأة عندما يصلهم خبر موته جراء لدغة قاتلة، أو جراء العصر وتمزيق أنسجته بضغط عضلات الأفعى التي تحتضر فتصبح أكثر عدوانية وخطورة، وعندها يصبح غير ذي جدوى القول: «أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض».
*باحث سوري متخصص بالجيوبولتيك والدراسات الإستراتيجية.