ثلاث إشارات مهمة في المناخ الإقليمي
ناصر قنديل
– خلال ثلاثة شهور مضت سادت المناخ الإقليمي عناوين تجسّدت بمواقف علنية واضحة، تشير الى مراوحة طويلة بعيداً عن التسويات، وتقول بأن القوى التي تملك تأثيراً وازناً على قضايا المنطقة العالقة، تتموضع عن مواقف لا توحي بوجود فرص للتقدم. وكانت هذه العناوين، أولاً ابتعاد تركيا عن الثنائي الروسي الإيراني لمسافة أعادت وصل العلاقة التركية الغربية، وكانت قمة حلف الناتو منصة التعبير عن هذا التحول، سواء بإزالة التحفظ التركي على انضمام السويد إلى الناتو، أو بالإعلان عن المضي بصفقة الحبوب مع أوكرانيا دون روسيا، أو بصرف النظر عن مسار التسوية بين تركيا وسورية التي كانت ترعاها كل روسيا وإيران. ثانياً انكفاء السعودية عن الملف الرئاسي اللبناني بدا بوضوح مع عدم ظهور أي تحرك سعودي في هذا الملف، وصعود الدور القطري عبر اللجنة الخماسية. وحدث هذا بالتوازي مع تراجع الخطوات الإيجابية في مسار التسوية اليمنية، وارتبط ذلك كله بكلام رسمي وشبه رسمي عن ضغوط أميركية على السعودية لفرملة الاندفاعة التي بدأت مع الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية، وحضور سورية للقمة العربية.
– خلال الأسابيع القليلة الماضية، وخصوصاً بعد تبادل السفراء بين طهران والرياض، وتلقي الرئيس التركي رجب أردوغان صفعة قوية في القمة التي جمعته بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتبعت هاتين المحطتين تطورات متسارعة، وكان أن شهدنا في لبنان للمرة الأولى دعوة للنواب عن المقاعد السنية الى لقاء في السفارة السعودية للاجتماع مع المبعوث الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان وحضور مفتي الجمهورية عبد اللطيف دريان، وإعلان السفير السعودي عن تبني مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري بالتعاون والتنسيق بين السعودية وفرنسا، بالتوازي مع إعلان المبعوث الفرنسي عن مواصلة مهامه. وهذا يعني أن السعودية أنهت الاعتكاف وفقاً لتفاهم ظاهره اتفاق مع فرنسا ومضمونه مبادرة الرئيس بري، ما يسقط كل الكلام عن تولي قطر باسم اللجنة الخماسية إدارة هذا الملف. ويعني أن الثنائي السعودي الفرنسي أنجز اتفاقاً سوف يقوم بمواكبته، ومضمونه هو مبادرة الرئيس بري، وهذا إذا لم يكن طريقاً سريعاً لانتخاب رئيس للجمهورية، فهو تأكيد على أن تحولاً مهماً يتم دولياً وإقليمياً يبرر هذا التبدل في السلوك السعودي والفرنسي.
– العنوان الثاني هو عودة الحيوية إلى المفاوضات اليمنية السعودية، وظهور مبادرة سعودية بدعوة وفد قيادي من أنصار الله لزيارة السعودية، مع تأكيدات متعددة المصادر على حدوث تقدم في ملفات التفاوض، خصوصاً ما يتصل منها بالقضايا التي دفعت أنصار الله بالعودة الى الميدان العسكري، مع تحديد مهلة لنهاية الهدنة في آخر الشهر الحالي. وهذه القضايا تطال دفع الرواتب وملف الأسرى وفي المقدمة فك الحصار، بما يعني فتح مطار صنعاء وميناء الحديدة، وترافق ذلك مع صدور موقف أميركي يبارك التفاوض وما يصل إليه من تفاهمات، بعد ظهور مواقف يمنية وسعودية تنسب التعطيل لمسارات التفاهم إلى الضغوط الأميركية، وبقياس مكانة الملف اليمني في حسابات السعودية، وعلاقته بأمن التجارة العالمية وأمن مسارات تدفق الطاقة بين الخليج وأوروبا، نظراً لتهديد أنصار الله باستهداف الممرات المائية إذا لم تتقدّم التسوية، فإن الانفراج اليمني ليس حدثاً إقليمياً عادياً، خصوصاً أنه وصف كملف أول في التعاون الإيراني السعودي، وموضوع اهتمام صينيّ في متابعة الاتفاق.
– جاء إعلان وزير الخارجية الإيرانية حسين أمير عبد اللهيان، عن مبادرة إيرانية لتسوية بين النظرتين السورية والتركية لمفهوم تطبيع العلاقات، حيث تتمسك سورية بربط التطبيع بالانسحاب التركي من الأراضي السورية، وربط تركيا لانسحابها بنهاية ما تسميه التهديد لأمنها القومي عبر الأراضي السورية، وتقوم المبادرة، كما قال عبد اللهيان، على تعهد تركي بالانسحاب من سورية بضمانة روسية إيرانية للتنفيذ، وتعهّد سوري بضمان أمن الحدود التركية عبر الأراضي السورية بضمانة موازية، والإعلان عن المبادرة جاء بعد اتصالات إيرانية سورية وإيرانية تركية مكثفة خلال الأيام الماضية، ما يعني أن تسويق المبادرة لدى دمشق وانقرة سبق الإعلان عنها، وأنها تحظى بمباركة موسكو. وهذا حدث إقليمي كبير يمثل تحولاً وتغييراً في المسارات والتوازنات والمعادلات.
هذه المناخات الجديدة تقول إن الجمود الذي نتج عن انكفاء سعودي وتركي عن خيارات فتحت مسار التسويات، تحت تأثير إغراءات أو ضغوط أميركية، بدأ يتراجع لصالح العودة الى المواقع الأصلية وإعادة فتح الباب أمام التسويات، وثمّة احتمال غير قليل بأن يكون ذلك متزامناً مع تحول في المقاربة الأميركية، بحصيلة محدودية النتائج المحققة في ملفات لبنان وسورية واليمن، بفعل التصعيد، مقابل ظهور فرص التسويات التي شكل التفاهم حول إطلاق السجناء والإفراج عن الأموال مع إيران نموذجاً له.