التطبيع معلوم لكن التوقيت غير معلوم
} سعادة مصطفى أرشيد*
تُبدي أوساط السلطة الفلسطينية في رام الله اهتماماً ملحوظاً بملف التطبيع مع (إسرائيل) متداركة تسرّعها عندما أخذت مواقف حادّة من التطبيع الإماراتي البحريني قبل عامين، ووصفته بأوصاف الخيانة وأنه طعنة في الظهر، الأمر الذي تعاملت معه الحكومتان الإماراتية والبحرينية باستخفاف ولسان حالهما يقول: إننا لم نفعل إلا ما فعله الفلسطيني الرسمي، أيّ منظمة التحرير الفلسطيني التي كانت سباقة في التطبيع وفي الاعتراف بـ (إسرائيل)، وليس هذا فقط إنما نسّقت مع «إسرائيل» في كافة مجالات العمل الإدارية والمدنية والسياسية والاقتصادية وحتى الأمنية، وقد فات الفلسطيني في حينه ملاحظة أن التطبيع الإماراتي البحريني قد حصل على تأييد السعودية الهادئ (الصامت) وأن السعودية لو لم تكن مع ذلك التطبيع لاستطاعت أن تحول دونه.
كان الشعور بالضيق لدى رام الله يعبّر عن الإحباط من تصوّر كان قد استقرّ في العقل الأوسلوي الذي كان قد تصوّر أنّ من المكاسب المهمة التي سيحصل عليها الفلسطيني هي أن يكون قادراً على احتكار دور العراب والوسيط لأيّ تطبيع آتٍ بين (إسرائيل) ودول عربيه وإسلامية.
لم تكن السعودية في يوم من الأيام في اشتباك صفريّ تناحريّ مع المشروع الصهيوني لا قبل قيام دولة (إسرائيل) ولا بعد قيامها، صحيح أنها التزمت بالإجماع العربي بعدم الاعتراف بـ (إسرائيل) ولكن ذلك الإجماع كانت له علاقاته غير المباشرة مع دولة الاحتلال، وكان يؤمن على الدوام بضرورة الوصول الى صيغة تفاوضية. ولعلّ السعودية كانت سباقة، فهنالك رسائل قديمة بين الملك المؤسس عبد العزيز وبين الانجليز، يبدي فيها الملك عطفه على اليهود المساكين، ثم هناك المبادرات السعودية العلنية وكان أوّلها مبادرة الأمير فهد (الملك لاحقاً) للسلام المعروفة باسم «مبادرة فاس».
أعلن الأمير فهد مبادرته في القمة العربية التي عُقدت في فاس (المغرب) عام 1981 والتي تضمّنت ثماني نقاط، أهمّها انسحاب «إسرائيل» من كامل الأرض التي احتلتها في حرب 1967، وتفكيك المستوطنات وحرية العبادة في القدس لمختلف الديانات وعودة من يرغب من اللاجئين إلى دياره وقيام دولة فلسطينية… ويمكن إجمال القول بأنّ المبادرة كانت بمثابة صياغة جديدة لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 242. اعترضت منظمة تحرير على المشروع وساندتها في اعتراضها دول عربية عديدة، ولكن بعد سنة ونيّف وفي قمة عربية لاحقاً تمّ إدراج نص يقول بأنّ منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وأنها الجهة التي ستتسلم الحكم في الضفة الغربية وقطاع غزة.
إثر ذلك تراجع الموقف الفلسطيني والعربي عن رفضه للمبادرة وتمّ القبول بها، لكن حكومة بيغن المتشدّدة جداً لم تكن لتقبل بالمبادرة أو حتى بمناقشتها، وتعود أهمية المبادرة إلى أنها أرست فكره التفاوض بشكل رسميّ ومن خلال قمة عربية وأنها أصبحت مقبولة بدل فكرة التحرير الشامل.
بعد عشرين عاماً وفي قمة بيروت عام 2002، أطلق الأمير عبد الله بن عبد العزيز (الملك لاحقاً) مبادرته للسلام والتي كان قد نسّقها مع الإدارة الأميركية، حملت هذه المبادرة اسم المبادرة العربية للسلام باعتبارها حازت على إجماع عربي (باستثناء تحفظ ليبي)، وجاءت على شكل صفقة: الانسحاب الإسرائيلي الشامل من الأراضي التي احتلتها عام 1967 مقابل الاعتراف الشامل من قبل الدول العربية. لم يرفضها شارون رئيس حكومة الاحتلال وإنما وضع عليها 14 تعديلاً لإفراغها من مضمونها.
(الإسرائيلي) يريد التطبيع بشدّة فهو يعرف مكانة السعودية، وبأنها قد أصبحت أو تكاد زعيمة للعرب والمسلمين، ويعرف موقعها الاستراتيجي وثرواتها الاقتصادية، ويحتاج رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو إلى أن يحقق نجاحات بهذا الحجم لدعم موقفه الداخلي وإنْ فعل ذلك سيكون قد حقق اختراقاً يعادل نصراً عسكرياً.
والسعوديّ له مطالب… فهو يريد الحصول على مفاعلات نووية للأغراض السلمية، ويريد أن يصبح حليفاً اساسياً للناتو من خارج الناتو بحصوله على أسلحة متطورة تمثل أفضل ما لدى حلفاء الناتو الأقوياء و(إسرائيل)، وتريد السعودية أن تعطي شيئاً الى الفلسطينيين كجائزه ترضية وتبرير لتطبيعها ورفعاً للعتب.
الأميركي ساكن البيت الأبيض يريد هذا التطبيع باعتباره إنجازاً خارجياً له خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات الأميركية، وهو يخشى أن يكون الثنائي ابن سلمان ونتنياهو يفضلان إعطاء هذا الصوت الذهبي للمرشح الجمهوري.
يعرف السعودي جيداً تجارب التطبيع مع (إسرائيل)، فكلّ من طبّع معها حصد نتائج مخيّبة لآماله ولتقديراته، الأردن افترض أنّ التطبيع قد شطب مسألة «الوطن البديل»، وانّ (الإسرائيلي) قد اعترف بالأردن كـ «وطن نهائي»، لكن الأيام أثبتت انّ هذا الموضوع كان في ذهن الأردن فقط ولم يكن وارداً لدى «الإسرائيلي»، والتطبيع جعل من الأردن رهينة في أموره الحياتية من ماء وطاقة وغيرها…
الفلسطيني بعد ثلاثة عقود يتمّ قضم كلّ ما كان يدّعي أن اتفاقه قد حققه، وهو مُطالب بالمزيد من العمل والتنازل .
قبل أقل من شهر اجتمعت وزيرة خارجية ليبيا مع وزير الخارجية (الإسرائيلي)، وافترضت ليبيا أنها تقدّم تضحية ستنال ثمنها من «إسرائيل»، ولكن كان أهمّ ما طرحه الوزير (الإسرائيلي) على نظيرته الليبية المطالبة بالتعويض عن أملاك 40 ألف يهودي ليبي مهاجر بمبلغ 40 مليار دولار، فـ بكم سيطالب الإسرائيلي تعويضاً عن أملاك اليهود في خيبر من بني قريظة وقينقاع والنضير منذ 14 قرناً؟
منذ أيام زار وفد فلسطيني رفيع يضمّ أهمّ أركان دائرة صنع القرار الفلسطيني الرسمي الرياض، وإضافة الى اجتماعه مع الجهات الرسمية السعودية كانت هناك اجتماعات ثلاثيّة ضمّت إليهما وفداً أميركياً رفيعاً… قدّم الوفد الفلسطيني مطالب عُرف منها ما يتعلق بعضوية فلسطين بالأمم المتحدة، ومطالب إدارية وحياتية من شأنها أن تعالج شعبية السلطة الفلسطينية المتآكلة.
لكن التطبيع الذي لا ريب بحصوله لن يكون سريعاً، فهو يتطلب حكومة إسرائيلية جديدة لا يكون فيها وزراء من نوع سموتريتش وبن غفير، وحكومة ستكون مضطرة للموافقة على مشاريع السعودية في بناء مفاعلات نووية قد تتدخل في مواصفاتها وقدراتها، ولا مانع لديها إذا حصلت على ضمانات من امتلاك السعودية لبعض السلاح الذي تطالب به، حكومة مستعدة لمقايضة السعودية على صيغة مقبولة تتعلق بالقدس وبالمسجد الأقصى.
*سياسي فلسطيني مقيم في الكفير – جنين – فلسطين المحتلة.