أولى

هل انتهت اسطورة «القرن الأميركي الجديد»؟

‭}‬ د. ميادة رزوق*
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي تمّ التخطيط لمشروع «القرن الأميركي الجديد»، فعاش العالم أحادية قطبية بحراك دولي طيلة ما يقارب ثلاثة عقود تصرفت خلالها الولايات المتحدة الأميركية كأنها ستبقى على عرش القوة العالمية إلى الأبد، فخاضت حروباً، ودمّرت دولاً وأفقرت شعوباً، وقدّمت نظاماً عالمياً على مقاسها، فبدأت أولى سيناريوات تنفيذه بتحريض الرئيس العراقي الراحل صدام حسين على غزو الكويت عام 1990، لتهيئة ذريعة تواجد القوات والقواعد الأميركية في منطقة غرب آسيا، متبوعاً بسيناريو هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر عام 2001 عندما نفذ تنظيم القاعدة وفقاً للرواية الأميركية هجماته بالطائرات المدنية على برجي التجارة العالمي في نيويورك ووزارة الدفاع الأميركية، تمهيداً لبدء الحرب الاستباقية، والانتقال لمرحلة الفوضى الخلاقة، وتأسيس «شرق أوسط جديد» بالمقاييس الصهيوأميركية، وفق اعترفات وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأميركية السابقة كوندليزا رايس عام 2005، بهدف إضعاف الجيوش العربية المناهضة للهيمنة الأميركية وكيان الاحتلال الصهيونيّ، وتقسيم هذه الدول على أساس طائفي وعرقي، وسرقة الثروات النفطية والغازية تحت شعارات رنانة، بدأت باحتلال الولايات المتحدة الأميركية لـ أفغانستان والعراق وصولاً إلى ما سمّي (الربيع العربي) وتداعياته من فوضى وصراعات وانقسامات وبروز هويات قومية وعرقية واثنية تحت وطنية وخراب الدول وتشريد الشعوب، نحو مخطط احتواء وتطويق إيران وروسيا والصين لتكريس الهيمنة العالمية نحو «قرن أميركي جديد».
نعت العديد من الصحف الغربية والأميركية بمقالات مختلفة أسطورة القرن الأميركي، وزادت وتيرتها بعد العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا التي بدأت في 24 شباط/ فبراير 2022، وقمة بريكس في جنوب أفريقيا في شهر آب/ أغسطس الماضي التي دعت للالتزام بتعزيز الحوكمة العالمية وتحسينها من خلال نظام عالمي أكثر مرونة وفعالية وكفاءة، ونظام دولي ديمقراطي، متعدّد الأوجه، خاضع للمساءلة، مع التشجيع على استخدام العملات الوطنية في التجارة الدولية والمعاملات المالية، سواء داخل دول بريكس أو مع الشركاء التجاريين، مع الموافقة على توسيع المجموعة وقبول انضمام ست دول مع بداية عام 2024 هي: السعودية، مصر، الإمارات، إيران، إثيوبيا والارجنتين، ما جعل صحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية تتنبّه إلى التحوّلات المقبلة وتنشر تقريراً تنذر فيه بأنّ توسيع حجم مجموعة دول «بريكس»، كان بمثابة اللحظة التي قلبت العالم رأساً على عقب، وسبق ذلك ما عنونت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية مقالها في 5 نيسان/ ابريل من هذا العام «عصر الهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط انتهى»، وذلك بعد قرار «أوبك بلس» خفض إنتاج النفط، معتبرة أنّ السعودية ترسل رسالة إلى الولايات المتحدة الأميركية، مفادها أنّ واشنطن لم تعد تتخذ قرارات في الخليج أو سوق النفط، أما صحيفة «فورين بوليس» الأميركية عنونت تقريرها الصادر في 14 أيلول/ سبتمبر الحالي «ركائز واشنطن في الشرق الأوسط هشّة وغير مجدية» مشيرة إلى أنّ حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط يحاولون رسم مساراتهم الخاصة، مُتجاهلين بشكلٍ صارخ المصالح الأساسية للولايات المتحدة، وأنّ نظام الحكم الديمقراطي في أميركا يتعرّض للتحدي والتآكل، بالإضافة إلى العديد من التقارير الأميركية التي تعتبر عودة العلاقات الإيرانية – السعودية برعاية صينية هي خسارة كبيرة مضاعفة للمصالح الأميركية، وهذا ما تحدثت عنه في 24 آب/ أغسطس الماضي وكالة «بلومبرغ» الأميركية، بأنّ بعض كبار حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط يقتربون من مدار الصين وروسيا، ما يزيد من تعقيد الجغرافيا السياسية التي «انقلبت رأساً على عقب» بسبب حرب أوكرانيا.
ثم أتت قمة مجموعة العشرين في نيودلهي في 9 أيلول/ سبتمبر الحالي بعنوان» مستقبل واحد» لتؤكد ما سبق من خلال بروز خلافات حادة بين قادة دول المجموعة وخاصة في ما يتعلق بصياغة المواقف المتعلقة بـ الحرب الأوكرانية، وكلمة رئيس الوزراء الهندي ناريندا مودي التي أكد فيها «أنّ القرن الحادي والعشرين هو الوقت المناسب لإظهار اتجاه جديد للعالم، إذ تتطلب التحديات العالمية القديمة حلولاً جديدة، وهو ما يحتم علينا اتباع نهج جديد يركز على الإنسان لحلّ هذه التحديات»، ولحفظ ماء الوجه وإنقاذ الولايات المتحدة الأميركية لنفوذها المتراجع في الإقليم والعالم، وقدرتها الآخذة في التقلص بالتأثير على حلفائها في منطقة غرب آسيا أعلنت على هامش القمة عن اتفاق وخطة لبناء ممر للسكك الحديدية تربط فلسطين المحتلة والهند عبر السعودية والإمارات والأردن إلى دول الاتحاد الأوروبي (الممر العظيم)، بمحاولة منها لترتيب جديد للتجارة الشرق أوسطية، وعزل الصين في (الشرق الأوسط) وفق صحيفة غلوبال تايمز الصينية.
في ظلّ هذه القترة المحورية من السياسة العالمية، التي يسيطر فيها الكباش بين أقطاب القوة العالمية، والذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية وتتبعها أوروبا وحلفاؤها في وجه الاتحاد الروسي عسكرياً، والصين اقتصادياً وسياسياً، ودول كإيران وكوريا الشمالية في مختلف المستويات، تلت قمة مجموعة العشرين الفاشلة قمة لمجموعة «77 دولة + الصين» في العاصمة الكوبية هافانا في 15 أيلول/ سبتمبر الحالي للترويج لـ «نظام اقتصادي عالمي جديد» بإعادة هيكلة النظام المالي المفروض، وإنهاء الإجراءات القسرية ضدّ الدول النامية، مكملة بذلك لقمة مجموعة دول بريكس الأخيرة، بالإضافة إلى التكتلات الدولية والتحالفات المتعددة التي تسعى للتخلص من هذا النظام الدولي الذي يعتمد مبدأ المركزية الأميركية والغربية في السياسة الدولية، والذي وصفه الرئيس الكوبي ميغيل دياز كانيل في كلمته في قمة مجموعة بريكس الأخيرة بأنه «يتسم بالظلم الشديد، وقد عفا عليه الزمن، ويعاني من خللٍ وظيفي».
وبالتالي وبناء على ما سبق شكلت العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا نقطة تحوّل تاريخية هامة للعلاقات الدولية، ومؤشراً لنهاية مرحلة بدأت منذ نهاية الحرب الباردة، عندما حاولت الولايات المتحدة الأميركية إدماج روسيا في نظام قائم على قواعد دولية من ترتيبها، إلا أنها فشلت هي بحدّ ذاتها بالحفاظ على سطوتها على النظام الدولي، وبناء جبهة عالمية ضدّ روسيا، خارج إطارها الغربي (حلف الناتو) ليظهر واضحاً انحسار الهيمنة التي كانت تفرضها بأدواتها الصلبة والناعمة كافة، على مختلف دول الجنوب وفي طليعتها الدول الصاعدة، التي هي في طور مراجعة النظام الدولي القائم، بما يؤمّن لها مكانة دولية أوسع، وتحقيقاً أكبر لمصالحها، كالهند وباكستان والسعودية وبلدان في أفريقيا وأميركا اللاتينية.
ونذكر بعض التفاصيل في الآونة الأخيرة على سبيل المثال لا الحصر:
ـ اتفاقية الشراكة الشاملة أواخر العام 2022 بين بكين والرياض متضمّنة ملف التسليح الصاروخي البالستي الذي تمّ التعاقد عليه منذ عام 2007، وهو الملف الأخطر والأكثر سرية، بالإضافة إلى تطوير وتعزيز التعاون الدفاعي نحو اقتناء طائرات هجومية مُسيّرة بدون طيار وعدد كبير من المدمرات الجديدة، وتعزيز العلاقات الدفاعية السعودية مع دول أفريقية وآسيوية خاصة في قطاع التصنيع الدفاعي المشترك.
ـ تدشين بدء العمل بتنفيذ مشروع الربط السككي «شلمجة – البصرة» في بداية شهر أيلول/ سبتمبر الجاري، والذي هو عبارة عن ممر استراتيجي يربط الأراضي الإيرانية بالبحر المتوسط عبر سورية، لينتهي في ميناء اللاذقية لنقل البضائع من باكستان أو ميناء شابهار جنوب شرقي إيران والبضائع التي تصل من الصين وآسيا الوسطى عبر القطار إلى منطقة سرخس في شمال شرقي إيران ومنها إلى الموانئ السورية عبر شبكة سكك الحديد العراقية، فضلاً عن نقل السلع من روسيا وأوروبا إلى العراق في إطار ممر الشمال – الجنوب الدولي، ليكون خط شلمجة – البصرة جزءاً من مشروع الحزام والطريق الصيني.
ـ النتائج الإيجابية للمفاوضات بين حكومة صنعاء والسعودية في الرياض بوساطة عُمانية نحو إنهاء حرب اليمن.
ـ زيارة رئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون إلى روسيا، وإعلان رفع مستوى التعاون الاقتصادي بين روسيا وكوريا الشمالية من خارج قرارات مجلس الأمن التي تفرض عقوبات على كوريا الشمالية.
ـ مبادرة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان لخطوات تفاصيل عودة العلاقات السورية التركية بانسحاب القوات التركية من سورية، بعد تعهّد الأخيرة بوضع قواتها على الحدود لمنع أيّ تعرّض للأراضي التركية، وذلك بضمانة روسية إيرانية للطرفين.
وبرأينا حتى تصدر هذه المبادرة هناك اتفاق أوّلي على التفاصيل بعد الزيارات المكوكية التي قام بها عبد اللهيان إلى تركيا وسورية والسعودية.
ـ ارتفاع وتيرة التصريحات في الإعلام السعودي وخاصة موقع إيلاف السعودي ونقلاً عن مسؤولين (اسرائيلين) عن توقف التطبيع بين السعودية وكيان الاحتلال الصهيونيّ، ما يدحض إمكانية تنفيذ (الممرّ العظيم) دون علاقات دبلوماسبة علنية بين السعودية وكيان الاحتلال.
ـ زيارة الرئيس السوري بشار الأسد على رأس وفد سياسي اقتصادي إعلامي إلى الصين بدعوة من الرئيس الصيني شي جين بينغ بدءاً من يوم الخميس 21 أيلول الحالي، وحضور حفل إطلاق النسخة التاسعة عشرة من دورة الألعاب الآسيوية التي سيتمّ افتتاحها اليوم الجمعة 23 الشهر الحالي في مدينة هانغتشو (خانجو) الصينية، وعقد مجموعة من اللقاءات، قمة بين الرئيسين في بكين، واجتماعات إضافية في هانغتشو شرقاً، مع ارتفاع سقف التوقعات بتعاون اقتصادي نحو شراكة حقيقية بين البلدين من خلال الربط الطرقي والسككي، وربط خطوط الطاقة بين كلّ من إيران والصين والعراق وسورية، وما يترتب قبل وبعد ذلك من توزيع أدوار وعلاقات استراتيحية بينية بين روسيا والصين وإيران لاستقرار أمن الإقليم، لتكون زيارة تاريخية، ونقطة فارقة في صياغة توازنات القوى الدولية في منطقة غرب آسيا خاصة، والعالم عموماً، باتخاذ الصين نهجاً دبلوماسياً جديداً قائماً على المزيد من الإصرار في تحدي الاملاءات الأميركية، والمضي قدُماً في تطوير علاقات بكين مع الدول التي أرادت لها الولايات المتحدة أن تكون معزولة عن العالم.
في الختام فإن هذا الحراك الذي نشاهده على مستويات القمم الثنائية أو الجماعية، والصراخ الذي نسمعه من الغرب تجاه ما يجري يعبّر عن استعصاء استراتيجي، يعمل الغرب فيه على منع تظهير موازين القوى التي فرضتها ساحات المواجهة في أوكرانيا وسورية وإيران وفلسطين ولبنان، عسى أن يجدوا مخارج تضمن أمن كيان الاحتلال الصهيوني، وتحفظ لهم ما بقي من ماء الوجه، ليحافظوا على مكانتهم ودورهم الاستراتيجي في مرحلة ما بعد التفاهمات والاتفاقيات الدولية المقبلة في النظام العالمي الجديد.

*باحثة واكاديمية سورية
[email protected]

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى