«الاعتداء» على السفارة الأميركية: هل هو مؤشر لإبقاء لبنان ساحةً لتأجيج الصراعات؟
} د. عصام نعمان*
الولايات المتحدة وأصدقاؤها يتلاقون في تزامنٍ مريب مع أعدائهم في مناسبة إحياء الذكرى الـ 39 لتفجير السفارة الأميركية في بيروت، ولتفجيرها مجدّداً بعد انتقالها بسنة فقط الى عوكر سنة 1984. وفق المعلومات الأمنية المسرّبة، قام “مجهول” مسلح برشاش كلاشينكوف بإطلاق 15 طلقة باتجاه المدخل الرئيسي للسفارة، وأنه وصل الى المكان على متن دراجة نارية وغادر كما وصل. كاميرات المراقبة أظهرت أنّ المسلح كان يرتدي لباساً أسود، كما تمّ العثور عند مدخل مبنى مواجه لمكان إطلاق النار على خزانيْ رصاص فارغين يُعتقد أنهما للتمويه.
اللافت انّ المعلومات الأمنية المُشار اليها كما البيان الصادر عن المتحدث بإسم السفارة جيك نيلسون لم يشيرا الى وجود حراسٍ على مدخلها.
مَن تراه يكون الفاعل أو الجهة التي دفعته؟
ثمة غموض يكتنف الحادث وملابساته. بعض المعلّقين أشار مداورةً الى حزب الله. بعضهم الآخر استبعد ذلك كلياً، مشيراً الى أن لا مصلحة للحزب بصبّ الزيت على النار في هذه الفترة العصيبة. وزير الداخلية السابق مروان شربل استبعد أن يكون أيّ من اللبنانيين وراء الحادث، لكنه أشار إلى أنه من الممكن ان تكون الدوافع فردية.
ترى هل تكون السفارة هي التي أوعزت الى “مجهول” بإطلاق النار عليها؟
السؤال محيّر بل مريب. مع ذلك، ثمّة مؤشرات لافتة تستوجب البحث والتدقيق:
ـ هل يعقل ألاّ تضع السفارة حرساً حول مدخلها وسائر مرافقها، خصوصاً في أثناء الليل؟
ـ هل يُعقل أن يقوم الفاعل “المجهول” وحده في الليل بعملية شبه فدائية ضدّ سفارة دولة عظمى من المفترض أن تكون محمية بحراسٍ كثر مدجّجين بأسلحة متطورة؟
ـ هل يُعقل ألاّ يكون حرس السفارة ومسؤولو الاستخبارات فيها قد أخفقوا حتى الآن في فكّ لغز هذه العملية الغامضة؟
ألا تقود هذه التساؤلات الى إمكانية ان يكون الفاعل أحد أعضاء التنظيمات السياسية الصديقة لأميركا ممن له دراية بموقع السفارة ومحيطها وبالوقت المناسب للقيام بفعلته؟
ألا يمكن أيضاً أن تكون “إسرائيل” وراء هذه العملية، خصوصاً انّ لها وجوداً استخبارياً فاعلاً في الأراضي اللبنانية، كما لها مصلحة في إبقاء لبنان مضطرباً أمنياً وسياسياً ما يساعدها كثيراً على تمرير مخططاتها التوسعية على حسابه من جهة، ومن جهة أخرى ضدّ عدوها اللدود حزب الله وحلفائه من فصائل المقاومة الفلسطينية التي لها أذرع في لبنان؟
إلى ذلك، ثمة واقعات وتطورات تؤشر بل تدلّ الى انّ الولايات المتحدة والكيان الصهيوني لهما مصلحة في إبقاء لبنان، ولمدة مديدة، ساحةً لتأجيج الصراعات الإقليمية والدولية بما يخدم مخططاتهما ليس في نطاقه فحسب، بل في مختلف دول الإقليم أيضاً.
أجل، واشنطن لها مصلحة أكيدة في توليف تسويةٍ لأزمة لبنان المستفحلة تخدم مصالحها ومصالح حلفائها المحليين. فهي كما هم يريدون إيصال مرشحٍ لرئاسة الجمهورية، الشاغرة منذ 11 شهراً، يكون مستعداً للتعاون معهما في خمس قضايا أساسية:
أولاً، مواجهة حزب الله، واحتواؤه في الأقلّ، ومحاصرة نفوذه السياسي، وعرقلة تحالفاته مع بعض الأحزاب لا سيما المسيحية منها.
ثانياً، إبعاد حزب الله عن السلطة ومكاسبها المعنوية والمادية.
ثالثاً، منعه وفي الأقلّ تعطيل تعاونه مع فصائل المقاومة الفلسطينية المنتشرة في لبنان والساعية الى محاربة “إسرائيل” بالتزامن مع المقاومة المقاتلة، أفراداً وجماعات، في الداخل المحتلّ.
رابعاً، ضمان مشاركة لبنان مباشرةً او مداورةً في الحصار الاقتصادي المضروب على سورية والموافقة تالياً على إبقاء أكبر عدد من النازحين السوريين في ربوعه وإغراؤهم بالمزيد من الدعم المالي الذي تقدمه وكالة الأمم المتحدة للاجئين كما دول الاتحاد الاوروبي المتخوّفة من هجرتهم اليها.
خامساً، رضوخ أهل السلطة في لبنان لشروط أميركا بشأن مستلزمات استخراج الغاز والنفط من مختلف الرقع blocks على طول الساحل اللبناني، وتأمين نقل إنتاجها الى دول أوروبا تعويضاً لها عن قطع الغاز الروسي عنها بسبب وقوفها ضدّ موسكو في الحرب الأوكرانية.
لعلّ أخطر مخططات كلٍّ من الولايات المتحدة و”إسرائيل” هو المتعلّق بالنازحين السوريين. ذلك أنّ حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية منهمكة في عمليات عسكرية متواصلة لمحاولة تصفية المقاومة المتصاعدة في الضفة الغربية، وذلك تمهيداً لضمّها الى الكيان الصهيوني ومن ثم تهجير شعبها الى الأردن والى دول أخرى في الإقليم.
الملك الأردني عبد الله الثاني استشعر خطورة التوسع الصهيوني وتداعيات تهجير الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية الى الأردن، فكان أن ركّز في خطبته الأخيرة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة على مخاطر عمليات “إسرائيل” التوسعية في فلسطين المحتلة وتداعيات تهجير الفلسطينيين مجدّداً الى بلاده التي تنوء حالياً بمئات آلاف النازحين السوريين اليها.
تركيا بادرت مبكرةً الى التحسّب لمخاطر وتداعيات ما ينجم عن سياسة “إسرائيل” التوسعية من تهجيرٍ ونزوحٍ فقامت أخيراً بتشجيع وتسهيل هجرة السوريين المقيمين في المناطق السورية التي تحتلها في غرب البلاد وشمالها الى لبنان الذي ينوء تحت ثقل مليونين وخمسمئة ألف نازح سوري منذ سنوات.
في غمرة هذه التحديات والمصاعب يجد لبنان نفسه مع شعبه وحيداً في وجه كلّ متاعب الضائقة المعيشية، وانقطاع الكهرباء، وتعطيل المرافق العامة ناهيك عن استفحال الانسداد السياسي والانهيار الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي وتمادي أركان منظومته الحاكمة، بأنصارها ومعارضيها، في تجاذباتٍ ومناحراتٍ حالت وتحول دون انتخاب رئيس جديد للجمهورية وذلك كإجراء دستوري لا بدّ منه لتأليف حكومة جديدة تحلّ محلّ حكومة نجيب ميقاتي المستقيلة منذ منتصف شهر أيار/ مايو سنة 2022 نتيجةَ انتخاب مجلس نيابي جديد، واضطرارها للقيام متثاقلةً بمهام تصريف الأعمال لغاية انتظام عمل مؤسسات الدولة، بحسب أحكام الدستور.
هكذا يبقى لبنان، كما كان لسنوات عدّة، ساحةً مفتوحة لصراعات دول كبرى وأخرى إقليمية، كلّ منها منشغلٌ بمصالحه ومطامعه ومطامحه حتى لو جاءت على حساب دول أخرى.
*نائب ووزير سابق
[email protected]