سورية عبر «طريق الحرير»… اندماج وحوار وتفاعل وروابط ثقافية وحضارية
دمشق ـ سانا
شكّلت طرق الحرير بحسب منظمة “اليونيسكو” جسراً للترابط بين الحضارات وساهمت على مدى آلاف السنين في تلاقي الشعوب والثقافات الآتية من شتى مناطق العالم، ما أتاح تبادل البضائع وحدوث التفاعل بين الأفكار والثقافات، والتي أسهمت في رسم معالم عالم اليوم.
وقد شكلت سورية منذ أقدم العصور نقطة اتصال مركزية بين حضارات العالم، كما قدمت حضارات آسيا بشكل عام وحضارة غرب آسيا القديمة بشكل خاص الأسس لجميع الحضارات الحديثة، ابتداء من المواد الغذائية الأساسية، والابتكار التقني إلى الأنظمة الاجتماعية بما في ذلك الحياة الروحية.
وقد تناول الباحث الدكتور همام سعد معاون مدير المديرية العامة للآثار والمتاحف هذه الأسس، وقال في تصريح لوكالة سانا: “الأسس المشار اليها تتمثل بالثورة الزراعية، والتحضر، أي الانتقال من القرى إلى المدن، والابتكارات مثل اختراع الكتابة وأعمال التعدين، وصناعة الفخار والزجاج وغير ذلك، كل هذه الأمور نشأت بشكل خاص في سورية، فقد كانت مركز حضارة غرب آسيا القديمة، ويمكن القول: إن عالمنا الحالي اعتمد على هذه الابتكارات التي تطورت على أرض سورية”.
وتابع سعد: «الجميع يعلم الدور الذي لعبته سورية منذ أقدم العصور كنقطة اتصال مركزية بين جميع حضارات العالم، فهي أرض انفتاح وتلاقٍ وتفاهم ووفاق وتبادل، فقد شكل موقعها أهم الممرات للهجرة، والتفاعلات الثقافية، وكذلك التجارة الاقتصادية، والتقدم العسكري، فعلى أرضها ظهرت الثقافات الأولى، موضحاً أنه في الألف الثاني عشر قبل الميلاد اخترع الإنسان السوري مساكن جديدة غائرة في الأرض ذات شكل دائري على شكل مجموعة، بدلاً من الكهوف، وبذلك نشأت القرية للمرة الأولى في تاريخ البشرية، هذا الاستقرار قاده إلى إحداث ثورة أخرى تمثلت باكتشاف الزراعة وتدجين الحيوانات منذ الألف العاشر قبل الميلاد، كما في موقع المريبط وأبو هريرة والجرف الأحمر وتل حالولة، وبحكم موقعها الجغرافي في قلب العالم القديم انتشرت المعرفة حول الزراعة من شمال سورية إلى جميع أنحاء بلاد الشام والأناضول، ومنها إلى بقية مناطق العالم، وذلك من خلال الروابط الثقافية والطرق التجارية.
ولفت سعد إلى ربط طرق الحرير بين الإمبراطورية الصينية في الشرق والإمبراطورية الرومانية في الغرب، وبينهما توجد المئات من المجتمعات والعديد من الحضارات، وبالتالي كانت التجارة الاتصال الرئيسي بين الحضارات، وكانت تدمر إحدى أهم المحطات على هذا الطريق، وضمن هذه المدينة يمكن للمرء أن يشاهد التنوع الثقافي والفني والفكري والعادات والتقاليد وغيرها من الأمور المرتبطة بكل نواحي الحياة، التي تشهد على عملية التعليم المتبادل بين الشعوب.
وشدد سعد على أن سورية كانت ولا تزال بلد الانفتاح على العالم أجمع، مشيراً إلى تأثير الحرب الإرهابية ضد سورية والإجراءات الغربية الجائرة بحقها على نواحي الحياة، بما فيها الحياة الثقافية والفكرية ومن الضروري في هذا الوقت بالذات التركيز على الفهم الصحيح لكل الحضارات، وإعطاء أولوية للتراث الثقافي ليأخذ دوره في عملية التعليم المتبادل للأجيال الشابة، وفتح الطريق للزيارات الميدانية أمامهم والاحتكاك المباشر، وضرورة تضافر الجهود الدولية لتقديم الدعم للبلدان التي تعرّض تراثها للتعدي والتخريب في السنوات السابقة”.
أبرز محطات العلاقات
الثقافية السورية الصينية
عام 1965 تم التوقيع على الاتفاق الثقافي بين سورية والصين، وفي عام 2016 شاركت وزارة الثقافة في مهرجان الأفلام الشبابية الآسيوية القصيرة الدولي في بكين بمجموعة من الأفلام إنتاج المؤسسة العامة للسينما، وفي عام 2021 أقيم معرض جوال للقطع السورية الأثرية في عدة مدن في الصين. وهذه القطع معارة للصين منذ عام 2019 وقد تمّ تمديد المعرض لغاية عام 2024.
وفي عام 2023 وبمشاركة سورية تم إطلاق مبادرة (التحالف الآسيوي لحماية التراث الثقافي) ضمن أعمال مؤتمر مجلس حماية التراث الثقافي الآسيوي الذي عقد في مدينة شيآن في الصين.
كما افتتح معرض للآثار السورية بعنوان “سورية المدهشة” بتاريخ 4-8-2021 بمتحف نانشان في مدينة شنجن الصينية، وكان المحطة الأولى لجولة تستمرّ لعام لقطع أثرية تمّت إعارتها للجانب الصيني، وخصوصاً لهذا الغرض بناء على اتفاق مبرم بين المديرية العامة للآثار والمتاحف ومؤسسة المعارض الفنية في الصين وبدعم من السفارة السورية في بكين وإدارة التراث الثقافي الوطني الصينية، حيث تنقل المعرض في أكثر من مدينة صينية.
وفي عام 2019 كان مغني الأوبرا السوري “عون معروف” الصوت العربي الوحيد الذي صدح إلى جانب أربعة من نخبة مغني الأوبرا في العالم، خلال افتتاح مؤتمر “حوار الحضارات الآسيوية” على أحد أهم المسارح في العاصمة الصينية بكين، وأدى حينها ابن المعهد العالي للموسيقا مجموعة من روائع الأغاني الأوبرالية برفقة سوبرانو من البيرو ومغني تينور من الصين، والهند إلى جانب مغني الأوبرا الإيطالي الشهير آندريا بوتشيلي.
أما موسيقيات سورية اللواتي قدمن من وطن أقدم نوتة موسيقية، فكانت لهن بصمة أنثوية رقيقة في العاصمة الصينية بكين، عبر مشاركتهن بمؤتمر حوار الحضارات الآسيوية، حيث سعت موسيقيات التخت الشرقي النسائي الذي تأسس عام 2003 بإدارة ديمة موازيني إلى إظهار الصورة الحضارية للمرأة السورية، وقدمن مجموعة من المقطوعات الموسيقية السورية التراثية بلغة الموسيقا العالمية، خلال تقديم جلسة استماع للموسيقا الآلية بحضور فرق موسيقية من 48 دولة.
طريق الحرير والارتباطات الثقافية
لم يكن طريق الحرير مجرد طريقٍ عابر للقارات والبلدان، بل كان مساراً عابراً للثقافات والانتماءات، ومثالاً للتفاعل والاندماج الحضاري والثقافي، وعلى طول هذا الطريق ظهرت مجموعة من الحضارات الثقافية التي أثرت وتأثرت بهذا المزيج، وشكلت علامة فارقة على امتداده ليس فقط في الأدوات والمنتجات والسلع، وإنما شهدت المجتمعات القاطنة على امتداد هذه الطرق تبادلاً وانتشاراً للعلوم والفنون والأدب، ناهيك عن الحرف اليدوية والمهارات الزراعية، فما لبثت أن ازدهرت فيها اللغات والأديان والثقافات وتمازجت. وهذا ما أكدته الدكتورة يارا معلا الخبيرة في التراث والدبلوماسيات الثقافية.
وقالت معلا: “صحيح أن الاسم العالمي للطريق هو طريق الحرير، لكن هذا الطريق حمل معه العديد والعديد من الحرف التراثية والصناعات الثقافية التي شكلت مع تعاقب العصور جزءاً مهماً من ثقافة هذا المجتمع أو ذاك، وتراوحت قيمة الأثر الذي شكله هذا التمازج حسب مكان وطبيعة المدينة التي وجدت على امتداد الطريق، وهذا ما منح سورية بمدنها الواقعة على طريق الحرير أهمية استثنائية، وقيماً حضارية فكانت نقطة الارتكاز الأخيرة في آسيا، ومنها تتوزع الطرق بمحاور رئيسية إلى اتجاهات متعددة تتفرّع إلى أوروبا وأفريقيا والخليج العربي”.
وأضافت معلا: “لم تحمل البضائع فقط بل حملت التأثيرات السورية، ما حرك التجارة في سورية على مستوى التصدير والاستيراد، وساهم بتشكيل قنصلية جنوى في حلب، ما أثر في الموروث المادي واللامادي السوري، وفي الدبلوماسية الثقافية التي كانت سورية بمنظومة قيمها الثقافية لاعباً أساسياً في التأثير والتأثر”.
ففي سورية بحسب معلا تشهد الآثار السورية المتعددة مدى الانفتاح منذ القدم على كل الحضارات والجنسيات العابرة لأراضيها، فخلقت فضاءً ثقافياً جامعاً ومتفاعلاً ومستداماً، ونخص بالذكر تدمر وحلب كمركزي إشعاع حضاري وثقافي على امتداد خط الطريق، فبرزتا بالفنون الحرفية، فلا منازع لمهارات وفنون المطبخ السوري الذي أثرى بعاداته وأغنى بممارساته وخلق نكهة جديدة في العالم الحسي والإبداعي.
وتابعت: “وهذا حال الموسيقى وما تحمله من تجليات الروح، وهناك الفلسفات المعمارية التي ما زالت شاهدة على مرونة العلاقة وقوة الجذب التي تمتعت بها سورية فكانت حلب حاضنةً لخاناتٍ تخصصية كخان البنادقة، والقنصلية الإيطالية والتي شكلت الملامح الأولى لما يسمى اليوم بالسفارات”.
وقالت معلا: «وهنا تطوير فنون التصوير من لوحات وخزفٍ ورسمٍ وفسيفساء، انعكست على الفنون النسيجية والأنماط المعمارية بحركة تبادلٍ ارتقت إلى أعلى المستويات الإنسانية، فشكل طريق الحرير بمحطاته البارزة مسرحاً للدبلوماسية الثقافية التي ساهمت في تشكيل هوية كل شعب، وإثراء لتاريخ كل حاضرة، وتفاعلاً ملهماً في الحضارة الإنسانية».
وختمت معلا: «إن إعادة تفعيل طريق الحرير تعد خطوة نوعية رائدة، ونرى آفاق المستقبل الواعد في نقل وتبادل القيم والأفكار والعودة إلى الطبيعة الإنسانية المبدعة المتحاورة والمنفتحة، بما يسهم في خلق عالمٍ مستدام بممتلكاته الثقافية المادية واللامادية، وقادر على توفير اقتصاد معيشي ووطني مبني على الثقافة، عالمٍ يواجه التحديات والكوارث عبر الحوار الفعال، والصناعات الإبداعية، والعلاقات الإنسانية المبنية على التقبل والثقة».