«حدث» و«حدت» والنزعة الشوفينية ثالثهما!
} د. علي أكرم زعيتر
لطالما عُرفت بلدةُ حدث بعبدا في الدوائر العقارية اللبنانية ومن قبلِها العثمانية باسم «الحدث»، فما عدا مما بدا حتى أبدلت البلديةُ الحالية اسمَها، وحوّلتها من «حدث» إلى «حدت»؟ هل في الأمر إنّ؟ أم أنّ الأمر لا يعدو أن يكون مجرد إعادة تصحيح لخطأ ما وقعت فيه دوائر السجل العقاري؟ وأيهما أصحّ «حدت» كما ذهبت البلدية أم «حدث» كما ورد في السجلات العقارية، أم «حدِد» كما يشيع على ألسنة بعض كبار السنّ في المنطقة؟
هناك ثلاث بلدات في لبنان تحمل هذا الاسم، وربما أكثر، هي: حدث بعلبك، حدث بعبدا، حدث الجبة. أهل البلدة الأولى، لا يجدون حرجاً في اسم بلدتهم، فهم راضون تماماً عن الاسم، وربما يعود ذلك إلى تركيبة السكان السياسية، فالحضور الأكبر هناك للمقاومة المعروفة بتصالحها مع نفسها ومع حاضرها ومع ماضيها.
المشكلة تكمن فقط عند أهل حدث بعبدا وحدث الجبة، وإنّ بنسبة أقل عند أهل البلدة الأخيرة. فما السبب يا ترى؟ وهل لميول السكان السياسية والإيديولوجية دور في ذلك؟
«الحدث»، كلمة عربية تعني الجديد، فالطفل الذي لم يبلغ الحُلم يُقال له «حدث»، وجَمْعُه أحداث، ومن هنا جاءت التسمية الشهيرة لسجن الأحداث في رومية، وفي سواه من سجون لبنان. حتى الأطفال الذين ولدوا للتوّ، أو لأشهر قليلة خَلَت، يُقال لهم حديثو الولادة، ولا يغيب عن بالنا الآلات المتطورة، فغالباً ما توصف بأنها آلات حديثة، وتدخل في عداد ذلك التحديثات التي توفرها الشركات الرقمية لتطبيقاتها المعروضة في المتاجر الإلكترونية. فالحدث والتحديث والحديث مسمّيات متعددة، لصفة واحدة هي الجديد.
وبالنسبة لحدث بلدة ما، فالأمر لا يكاد يخرج عن هذا السياق. فحدث بعبدا على سبيل المثال، هي البلدة التي نشأت حديثاً على أطراف البلدة القديمة، أو لعلها مجموع البيوت والمساكن والدور التي شيّدها أصحابها بعد خراب البلدة الأصلية.
ما من بلدة أو مدينة، إلا وهي عرضة للتوسع المستمر، وغالباً ما تنشأ عن هذا التوسع المستمر بلدات حديثة، إما أن يعمد أهلها إلى إطلاق اسم جديد عليها، منفصل كلياً عن اسم البلدة الأمّ التي نشأت على تخومها، أو أن يُبْقوا على الاسم القديم مع إضافة وصف «الحدث» أو «الجْدَيدة» على البلدة الجديدة، كما حصل في حالة البلدات الثلاث المشار إليها وبلدات أخرى.
وعلى أيّ حال، فإنّ هذا الأمر شائع جداً في لبنان وفلسطين وأنحاء أخرى من بلاد الشام، حيث تنتشر البلدات التي تحمل اسم «الجْدَيدة» بتسكين الجيم وفتح الدال الأولى، من قبيل «جْدَيْدة المتن»، «جْدَيْدة يابوس»، «جديدة عكار»، «جديدة زحلة» في لبنان، و«جديدة جنين»، «جديدة عكا» وسواها في فلسطين.
ولا يختلف الحال كثيراً في الجارة الشقيقة سورية، والتي نشترك معها في الكثير من الخصائص والمزايا، نظراً لكوننا امتداداً طبيعيّاً لها. حيث تشيع فيها البلدات التي تحمل اسم «الحدث» و«الجديدة» من قبيل بلدة «الحدث» الواقعة في ناحية «مهين»، من أعمال حمص. هناك، بين أهل تلك البلدة، لا تجد من يعترض على الاسم أو يحاول تبديله، أو إضفاء معانٍ غريبة عليه، لا يحتملها. الناس هناك، متصالحون مع أنفسهم، على ما يبدو، وذلك بخلاف ما هو الحال في الشطر الغربي من بلاد كنعان، أو سورية الطبيعية، أو بلاد الشام.
وحدهم شوفينيو لبنان، وعنصريوه يجترحون المستحيل في سبيل تزوير التاريخ والأسماء والحقائق، وكلّ ذلك بغرض إشباع نزعة الشوفينية التي تعتريهم.
ليس عبثاً، أن تصرّ بلدية حدث بعبدا على تحوير الاسم، وتمييع معناه الأساسي. لا بدّ أنّ هناك قطبةً مخفية، سنحاول اكتشافها سوياً.
مؤخراً، بدأنا نلاحظ، كأنّ هناك تسابقاً مع الزمن لتبديل الكثير من أسماء القرى والبلدات في لبنان. هل يخشى أولئك المبادرون إلى تزييف الأسماء وتحويرها من أمر ما حتى بدؤوا يتهافتون على تغيير أسماء بلداتهم؟
في أعلى جرود جبيل وكسروان، هناك عدة بلدات، تسنّى لنا التأكد من إقدام المجالس البلدية فيها على تغيير أسمائها في الدوائر العقارية. منها على سبيل المثال، بلدة «قمهز» التي بات اسمها مؤخراً «قهمز» بإرجاع الهاء إلى الخلف وتقديم الميم. وبلدة «بيت المهدي» التي تحوّلت بسحر ساحر إلى «ديك المحدي»!
قد يبدو الأمر عادياً، لمن لا يعرف الخلفيات التاريخية، والدلالات السياسية لهذا العبث الممنهج. فلنكن صريحين، بعض من يعيشون معنا على أرض الوطن، يحاولون بكلّ ما أوتوا من قوة طمس معالم التاريخ اللبناني الحقيقي، وإعادة كتابته بصيغة مزوّرة، لأسباب لا تخفى على أحد.
بهدف قطع صلات بلدة «حدث بعبدا» بهويتها العربية، عمد شوفينيو البلدة إلى تزوير اسمها الأصلي، واختلاق اسم جديد نسجوه على منوال أساطير بعض كتّابهم ومؤلفيهم العنصريين أمثال سعيد عقل، وسواه من المصابين بلوثة الشوفينية اللبنانية. فما قصة «الحدت» التي خرج علينا بها المجلس البلدي الحالي، ومن أين جاء بها؟
في كتاب «مجاهل تاريخ الفينيقيين» للدكتور يوسف حوراني، يذكر المؤلف أنّ هناك ثلاث بلدات في لبنان، تحمل اسم الإله الكنعاني «حدد» أو «هدد» كما أسماه، هي البلدات المُشار إليها أعلاه. ولم يقدم د. حوراني كما هو حال معظم المتصدّين للتاريخ الفينيقي الكنعاني أيّ دليل أو قرينة تثبت صحة ما ذهب إليه.
فالقاعدة التي يعمل على أساسها معظم من أرّخ للتاريخ الفينيقي الكنعاني من مستشرقين ومحليين تقوم على ما يلي: بمجرد أن يلحظ المؤرّخ وجود تقارب في اللفظ بين هذا الاسم و ذاك، يطلق العنان لمخيلته حتى تنسج استنتاجات وخلاصات لا قِبَل لمؤرخي الكواكب التسعة بها.
يبدأ الأمر من تقارب لفظي، ولا ينتهي عند فرضيات وتأويلات وتخمينات وتكهّنات ما أنزل الله بها من سلطان، علماً أنّ الباحث الحصيف، غالباً ما يتحاشى تحميل المسائل التاريخية العالقة ما لا تحتمل، ولكن في ما يتعلق بباحثي لبنان ومؤرّخيه، فما دامت الفكرة تخدم توجهه الإيديولوجي والسياسي فهي محقة بلا شك، ولا بأس من ليّ عنق الحقيقة وتحميل الأمر ما لا يحتمل في سبيل الانتصار للدين والإيديولوجيا.
ينطلق يوسف حوراني، من فرضية مفادها أن اسم البلدة الأصلي هو «هدد» نسبةً للإله «هدد»، ولكن مع مرور الزمن جرى تحريفه من «هدد» إلى «حدد» ولاحقاً إلى «حدت» ومن ثم إلى «حدث»، من دون أن يقدّم أي دلائل أو تعليلات تؤيد رأيه هذا. خلا استشهاده بما شاع على ألسنة كبار السن في البلدة من إطلاق مسمى «حَدِدْ» بكسر الدال الأولى وتسكين الثانية، على بلدتهم (يوسف حوراني، مجاهل تاريخ الفينيقيين، دار الثقافة، بيروت ــ لبنان ـ 1999، ص: 124).
ويدعم نظرية د. حوراني هذه، ناشط محلي من البلدة، اسمه مارون يوسف يزبك، يحمل لقب دكتوراه، حيث ينقل عن والده المؤرّخ والأديب يوسف يزبك، كما وصفه قوله: «إنّ اسم بلدتنا في الأصل هو حاداد وهي كلمة آرامية معناها الواحد، من أسماء بعل الذي عبده الأقدمون من سكان بلادنا… ثم حُرف الاسم فصار حدد». (النشرة البلدية لبلدية الحدت سبنيه ـ حارة البطم ـ 2019، ص: 5).
ويبدو أنّ هذا الرأي قد أثار إعجاب المجلس البلدي للبلدة، نظراً لكونه يخدم توجهاته الشوفينية، ويؤمّن له التمايز المطلوب عن المحيط، فشرع أولاً في تغيير الاسم في الدوائر العقارية، ثم عمد بعدها إلى استبدال اللافتات العامة القديمة التي تحمل اسم «حدث» بلافتات جديدة تحمل اسم «حدت».
إنّ ما يلفت انتباهنا في عملية التغيير الممنهج هذه:
1 ـ أنّ المجلس البلدي استند إلى رأي شاذ نادى به أحد المؤرّخين المحليين، دون أن يكلف نفسه عناء الاطلاع على الآراء الأخرى المناقضة، على وفرتها وأهميتها وثقل وزنها.
2 ـ أنه لم يكمل مشواره الذي بدأه، حيث كان يفترض به أن ينتقل تدريجياً من «حدث» إلى «حدت» إلى «حدد»، بيد أنه اكتفى بالمرحلة الثانية فحسب، حيث أبدل الثاء تاءً. فهل يُحتمل مستقبلاً أن ينتقل إلى «حدد»؟ أم سيكتفي بما وقف عليه حالياً؟
إنّ المنطق العلمي السليم يحتم علينا أن ننحو مناحيَ أخرى في عملية تحديد الاسم الصحيح من المغلوط. فالاسم كما هو مثبت في الدوائر العقارية العثمانية «حدث» ــ بمعنى البلدة الجديدة الناشئة على هامش البلدة القديمة ــ ولكن بما أنّ غالبية سكان الشطر الغربي من بلاد الشام «لبنان» لا يلفظون الأحرف اللثوية، فقد دأب أهل «الحدث» وسواهم من سكان البلدات المجاورة على لفظ ثاء «حدث» تاءً كما هو الحال، مع عبارات أخرى كثيرة، من قبيل: «مثل» التي تلفظ «متل»، و«ثور=تور»، و«إثم=إتم»، و«إرث، ميراث= ورتة»، «ثقيل=تقيل» وهلمَّ جرة.
إن لهجاتنا الشامية، لا سيما اللبنانية منها، تحفل بالكلمات التي تُستبدل فيها الثاء تاءً، نظراً لغياب الأحرف اللثوية عن منطوق هذه اللهجات، ما يفسّر برأينا ورأي كثيرين غيرنا سبب تحريف اسم «حدث» إلى «حدت» على ألسنة كبار السن.
أما بخصوص حدَد أو حدِد، فالواضح أنّ التطابق أو التقارب بين نطق التاء والدال، معطوفاً عليه وجود حرف دال محرَّك بالكسر، يسبق التاء في «حدِت»، جعلا من السهولة بمكان على كبار السن والأقدمين نطق التاء دالاً «حدِتْ=حدِدْ» للتيسير.
والجدير بالذكر، أنّ الكثير من الأسماء الثلاثية، مفتوحة الوسط، تُلفظ بكسر وسطها في العديد من المحكيات اللبنانية، مثال: «عمَل=عمِل» «بلَد=بلِد»، «جبَل=جبِل»، «سنَد=سنِد»، «أمَل=أمِل»، ما يفسّر لنا سبب شياع لفظ «حدِت/حدِد» بكسر الدال على ألسنة كبار السن في بلدة الحدث، بدلاً من «حدَت/حدَد» بفتح الدال.
إنّ فرضيتنا، تقوم على مبدأ «التصحيف» أيّ تحريف الاسم من «حدَث/حدِث» إلى «حدَت/حدِت» ومن ثم إلى «حدَد/حدِد»، وهي نظرية لغوية مقبولة جداً، يؤيدها:
1 ـ السجلات العقارية العثمانية.
2 ـ افتقار معظم المحكيات اللبنانية والشامية عموماً للحروف اللثوية «ث، ذ، ظ».
3 ـ التطابق أو التقارب بين لفظ «د» و «ت».
في المقابل، فإنّ الفرضية الموازية التي تتبناها بلدية «الحدث»، أقلّ ما يُقال فيها إنها عبثية، وتفتقد إلى أدنى مقومات المنطق، ناهيك عن افتقادها إلى أيّ دليل يدعمها، ما يجعلنا على قناعة تامة بأنّ موجة تغيير أسماء البلدات التي يشهدها لبنان، إنما تقف وراءها بالدرجة الأولى نزعة شوفينية مقيتة تحاول أن تؤمن التمايز عن المحيط، حتى ولو كان ذلك على حساب الحقيقة العلمية.