أولى

التحدي المصيري الأكبر: النزوح ومخاطر التهجير والتوطين

‭}‬ د. عصام نعمان*
لعلّ نزوح الشعوب من داخل أوطانها الى بلدان أخرى هو أخطر التحديات والأزمات التي تنشغل بها حالياً الحكومات والمؤسسات الدولية في شتى أنحاء العالم. ما من دولةٍ في الشرق والغرب إلاّ وتعاني، بشكلٍ او بآخر، تداعيات هذا التحدي المصيري.
أبرز دول الغرب الأوروبي معاناةً فرنسا وايطاليا واليونان التي يتدفق النازحون إليها من شتى أنحاء أفريقيا، وينتقلون منها الى دولٍ أخرى كالمانيا وسويسرا وبريطانيا واسبانيا وغيرها.
النازحون لا تخسرهم أوطانهم فحسب بل يخسرون أنفسهم أيضاً خلال محاولات النزوح، خصوصاً في البحر، حيث يفقد عشرات الآلاف منهم أرواحهم قبل الوصول الى سواحل “الدول المضيفة”.
تحوطاً لتدفق آلاف جدد من النازحين والمهجّرين، عقد قادة الدول الأوروبية المطلة على البحر الأبيض المتوسط اجتماعاً في مالطا قبل أيام للاتفاق على أسس وتدابير مشتركة لمواجهة النزوح والتهجير إلى بلدانهم.
النزوح ليس مشكلة البلدان الفقيرة فحسب بل البلدان الغنية أيضاً. فالولايات المتحدة تعتبر النزوح من جارتها الجنوبية المكسيك مشكلةً عويصة. هي لم تكتفِ بمحاولة بناء سياج مانع على طول حدودها الجنوبية فحسب بل تعاني أيضاً تداعيات هذه المشكلة على الصعيد الداخلي. ذلك ان الأميركيين من أصل أنغلوساكسوني يتخوّفون من ان يؤدي استمرار تدفق النازحين من أميركا الجنوبية اللاتينية بوتيرته الحالية المقرونة بسرعة توالد الأميركيين “اللاتينو” الى تحوّل هؤلاء أكثريةً وازنة في البلاد.
لا تقتصر مشكلة النزوح على تداعيات تغيير التركيبة الديموغرافية للدول المضيفة بل تتعداها الى إمكانية فقدان بعض الكيانات استقلالها ومواطنيها. أليس هذا ما حدث لإقليم ناغورني – كراباخ الأرمني ذي الحكم الذاتي بعد اجتياحه من قبل أذربيجان؟ ألم يؤدِّ ذلك الى نزوح أكثر من نصف عدد سكانه الأرمن البالغ عددهم نحو 130 الفاً الى دولة أرمينيا المجاورة وإصدار رئيس الإقليم سامفيل شهرمانيان مرسوماً يقضي بحلّ جميع مؤسسات الإقليم قائلاً إنّ ناغورني – كراباخ سيزول من الوجود اعتباراً من الأول من كانون الثاني/ يناير 2024.
لماذا نذهب بعيداً؟ ألا تعاني كلٌ من سورية ولبنان وفلسطين المحتلة حاليّاً آثار النزوح والتهجير؟ سورية نزح من سكانها أكثر من ثلاثة ملايين الى لبنان، ونحو مليونين الى تركيا، ونحو هذا العدد أيضاً الى الاردن، وذلك مذّ تفاقمت اضطراباتها الأمنية سنة 2018. اما فلسطين المحتلة فإنها مهددة بتهجير سكان الضفة الغربية الى الأردن إذا ما ثابرت حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة على تنفيذ مخططها العدواني الاستيطاني التهجيري.
بات واضحاً انّ الولايات المتحدة ودول أوروبا تحاول توطين النازحين السوريين في لبنان، وقد نجحت في حمل الأمم المتحدة على إقرار برنامج لتمويل “مساعدة” هؤلاء لدرجة أنّ كثيراً منهم ارتاح لبقائه فيه بسبب العلاوة المالية السخية نسبياً التي يتقاضاها من مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين والتي تمكّنه من أن يعيش في لبنان بمستوى أفضل بكثير من أقرانه المواطنين المقيمين في سورية، لا بل انّ العلاوة المالية تلك باتت تشكّل إغراءً لسائر المقيمين للنزوح الى لبنان. ولا شكّ في أنّ رضوخ الحكومة اللبنانية لضغوط أميركا وأوروبا الساعيتين الى توطين النازحين في لبنان للحؤول دون اختيارهم الهجرة اليهما عزّز نزوح المزيد من السوريين الى بلاد الأرز المضطربة أمنياً وسياسياً واقتصادياً.
في فلسطين المحتلة، تلتزم حكومة نتنياهو تنفيذ خطة استيطانية توسعية إقتلاعية عنوانها: “الشعب اليهودي يملك حقاً حصرياً وغير قابل النقض على كل أنحاء أرض إسرائيل” (راجع مقالة دان كرمون، نائب الرئيس السابق للوفد الإسرائيلي لدى الامم المتحدة، صحيفة “هآرتس”، 2023/9/20). هذه السياسة العنصرية المتطرفة تنطوي على تدابير وإجراءات بالغة القسوة والفظاظة قوامها اعتداءات وحشية على سكان المخيمات، وتصفية كل من تعتبره السلطات الأمنية ذا صلة بعمليات المقاومة، وتدمير منزله، ومنع المزارعين الفلسطينيين من زراعة أراضيهم وجني محصولها، وزج “المشتبه بهم” في السجون، ومنع الفلسطينيين الراغبين في العمل من دخول الأراضي المحتلة سنة 1948. الكاتب الإسرائيلي تامي يكيره أكّد في صحيفة “يديعوت احرونوت” (2023/9/27) “أن ترحيل الفلسطينيين بدأ وهو موثّق، لكن المسؤولين في “إسرائيل” يتجاهلونه”. كل ذلك بقصد تيئيس الفلسطينيين وحملهم على الهجرة الى الأردن الأمر الذي حمل الملك عبد الله الثاني على إثارة هذا الموضوع أخيراً في خطبته امام الجمعية العامة للأمم المتحدة، مشدداً على ان الأردن ينوء بأعباء مئات آلاف النازحين السوريين ولا يمكنه تحمل أعباء المزيد من النازحين.
في لبنان أثارت قضية النازحين وتضخم عددهم الى ما يقارب نصف عدد المواطنين اللبنانيين ردودَ أفعال متباينة أسهمت بدورها في تعميق الاضطراب والانقسام في البلاد. وإذ دعا البعض الى اعتماد نظام اللامركزية الإدارية في أقضية جبل لبنان الشمالي، دعا البعض الآخر الى وقف الإذعان لمخططات أميركا وأوروبا ومقاومة سياسة واشنطن في محاصرتها سورية اقتصادياً وفرض قانون قيصر عليها لمنع التعامل معها، وذلك بالتوجّه شرقاً نحو الصين وروسيا وايران وغيرها والتعاون معها اقتصادياً والإفادة من قروضها واستثماراتها ومساعداتها العينية والمالية.
الحقيقة أن لا سبيل الى إنقاذ لبنان مما هو فيه من انهيار اقتصادي واجتماعي وانسدادٍ سياسي وعجزٍ عن انتخاب رئيس للجمهورية رغم مرور 11 شهراً على انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون إلاّ بمباشرة القوى الوطنية النهضوية الحيّة تضامناً متيناً فيما بينها وتكوين إطار سياسي للتنسيق والتعبئة بغية تجاوز نظام المحاصصة الطوائفي المهترئ ومنظومته الحاكمة، وتكوين قيادات وطنية نهضوية جديدة قادرة على اتخاذ قرارات جذرية في مسار التحوّل، مهما طال الزمن، الى مسار بناء دولة المواطنة المدنية.
لا أمل ولا إنقاذ للبنان في ظل المنظومة الحاكمة المفلسة، أخلاقياً وسياسياً، ولا في وساطات دول أميركا وأوروبا، ولا في موفَديها وجولاتهم المكوكية الفارغة. أجل، لا فائدة تُرتجى من الاعتماد على الغرب المنشغلة حكوماته بأزماتها وقضاياها الداخلية وبتعزيز وحماية مصالحها الإقتصادية وتحقيق مطامعها التوسعية.
إنقاذ لبنان يكون بالاعتماد على النفس وبالتحالف مع الدول الشقيقة والصديقة التي تجمعه وإياها وحدة الهدف والهوية والمصالح المشتركة.
هذه هي الأمثولة المستخلصة من تجارب الأمم والدول على مدى التاريخ.
*نائب ووزير سابق
[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى