هل صحيح أن لبنان ليس موضع اهتمام؟
ناصر قنديل
– نحن لا نناقش هنا البارانويا التي تصيب بعض اللبنانيين بالتوهّم أن قادة العالم لا ينامون إلا بعد الاطلاع على آخر التقارير الواردة حول الوضع في لبنان، والذين كلما رأوا أمراً يحدث في لبنان يرفضون تصديق حدوثه إلا بربطه بحروب عالمية وإقليمية تخاض عبر لبنان أو تسويات وتفاهمات يتم تظهيرها عبره، بل نحن نناقش ما يتمّ ترويجه خلال كل النقاش حول الاستحقاق الرئاسي من مقولات يتقدّمها الحديث عن أن لبنان خارج دائرة الاهتمام الدولي والإقليمي، وأن اللبنانيين الذين لم يعتادوا أن يأخذوا أمورهم بأيديهم، وأدمنوا الاتكال على الخارج، يفاجئهم أن هذا الخارج ليس مهتماً بهم وببلدهم، وأن سلم أولوياته تتقدّمه مسائل أخرى، وبلاد أخرى أشدّ أهمية.
– ثمّة حاجة للإيضاح هنا أن تورط الكثير من الأطراف اللبنانية بعلاقات مع الخارج، تعوزها الروح السيادية في الكثير من القضايا هو اتهام صحيح، لكن ذلك لا ينفي أن تاريخ الأزمات اللبنانية يؤكد أنه في قضايا مفصلية مثل الاستحقاق الرئاسي في لحظة تحوّل نوعيّ على الصعيدين الدولي والإقليمي، كما كان عليه الحال في سنوات تفكك الاتحاد السوفياتي أواخر الثمانينيات من القرن الماضي سجلت فشل المسعى الدولي الإقليمي الذي عرف باسم تفاهم مورفي – الأسد، الذي قام على تبني ترشيح النائب السابق الراحل مخايل الضاهر، وكان من أفشله يومها، خصومنا السياسيون بالأمس واليوم، والذين تتصدّرهم القوات اللبنانية، ولذلك فإن اتخاذهم مثالاً هو للدلالة على أن نظرتنا للأمور وتحليلها ومحاولة فهمها تقوم على القراءة الموضوعية، وليس على التلاعب بالوقائع لحساب الموقع السياسي وما ينتج عنه من مواقف، ورغم الخلاف معهم والثقة بأنهم في قضايا سيادية كبرى يتهربون من تحمل المسؤولية مراعاة للخارج الذي يدينون له بالولاء، إلا أنه في قضايا مثل الاستحقاق الرئاسي يبقى ثقل القرار اللبناني النابع من حسابات حزبية وطائفية حاضراً أكثر من الطبخة الخارجية، والخارج الذي يملك قدرة التعطيل يقابله داخل يملك قدرة التعطيل أيضا، وهذا ما حدث مع اتفاق الطائف كتفاهم دولي إقليمي محلي واسع وقوي، وقف العماد ميشال عون بوجهه منفرداً بعد مشاركته باسقاط اتفاق مورفي – الأسد، ورغم فشله في إعاقة الاتفاق إلا أنه عبر عن حقيقة أن المعادلة الخارجية ليست ذات فعل تلقائي في تسيير الوقائع السياسية اللبنانية.
– ما يصح في حالة القوات اللبنانية والعماد ميشال عون، يصحّ في تجارب كل الآخرين، وربما أكثر، فإن الرئيس سعد الحريري يدفع اليوم ثمن رفضه الانصياع لمعادلة حليفه الإقليمي الذي تمثله السعودية أكثر الدول العربية حضوراً في الحياة السياسية، عندما خاض غمار تسوية داخلية رافضاً السياسات التصادمية لمخاطر انتهائها بالفتنة الأهلية، والنائب السابق وليد جنبلاط المتموضع دائماً تحت مظلة إقليمية او دولية، لا يستطيع حليفه الخارجي الزعم بأنه يضع قرار جنبلاط وحزبه في جيبه، لأنه فرض مع كل هؤلاء معاملة الشريك، وهو جاهز في كل لحظة لمغادرة مركب دولي إقليمي الى مركب آخر، وقد فعلها مراراً للاحتفاظ بدور توافق الكثير من السياسيين والإعلاميين على توصيفه بيضة القبان، أما الثنائي الوطني الذي يتشكل من حركة أمل وحزب الله بقيادة رئيس مجلس النواب نبيه بري والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، وحلفائهما من الوزير السابق سليمان فرنجية الى الوزير فيصل كرامي والوزير حسن مراد والحزب السوري القومي الاجتماعي وقوى وشخصيات شكلت حركة الثامن من آذار منذ قرابة العقدين، فما يجمعهم بسورية وإيران كان دائماً خيارات ينتمون إليها بالأصالة هي ما يجمعهم بدمشق وطهران كشركاء لا كحلفاء فقط، ومن يريد ان يكون منصفاً عليه ان يعترف ان السياسة السورية التي كانت تقود الحلف السوري الإيراني في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي لم تكن تصاغ إلا بحساب الوقوف على رأي وتوجّه الرئيس بري، وبنسبة كبيرة رأي السيد نصرالله، ودائماً على تفاهم بري ونصرالله، وان السياسة الإيرانية التي تقود الحلف اليوم تصاغ وتبنى بالوقوف على رأي السيد نصرالله وبنسبة كبيرة رأي الرئيس بري، ودائماً على توافقهما.
– بالتوازي مع تظهير هذا الجانب من حضور وأهمية العامل الداخلي، خصوصاً في محطات ذات تأثير سياسي وحزبي داخلي يحدد الأحجام والأوزان، له بعد طائفي حساس يؤثر على توازنات الطوائف، كما استحقاق رئاسة الجمهورية، بحيث لا يمكن اختزال الاستحقاق بما يقرره الخارج، سواء الذي يجتمع في اللجنة الخماسية، أو حتى إذا أضيف إليه النصف الثاني من الكرة الأرضية الذي يمثل رباعي الشرق الحليف لمن لا يمثلهم طرف في اللجنة الخماسية، الصين وروسيا وإيران وسورية، والإحجام الخارجي أو الفشل الخارجي نابع أصلاً من التعقيد الداخلي بنسبة كبيرة، وتوازن القوى الدولي والإقليمي الجديد والتحديات التي تواجهها دول الخماسية كل من نقطة مختلفة، بنسبة أكبر، وغياب رباعي الشرق عن المشهد بنسبة موازية، لكن ليس صحيحاً الكلام عن لأن سبب الانكفاء أو العجز هو عدم الاهتمام، فلماذا؟
– يجمع الاستراتيجيون على تحديد عناصر جذب الاهتمام في المنطقة، أو مصادر القيمة الاستراتيجية للدول، من خلال مدى أهميتها وتأثيرها في ملفين رئيسيين. يقول الأميركيون الذين يقودون اللجنة الخماسية إنهما يختصران أولويات واشنطن في المنطقة، وهما أمن كيان الاحتلال وأمن الطاقة مصادر وممرات، ولن يحتاج الباحث الى عناء وجهد ليكتشف ان لبنان يتصل أكثر من سواه من دول المنطقة بهذين الملفين معاً. فمن جهة هناك الثروات الواعدة في النفط والغاز كما تؤكد نتائج الاكتشافات الأخيرة لشركة توتال، وهي ثروات تقع على ضفاف المتوسط القريب من أوروبا، العطشى الى موارد طاقة سهلة. وممر الطاقة الأهم هو البحر المتوسط الذي أثبتت المقاومة أنها طرف فاعل فيه، من خلال مفاوضات ترسيم الحدود البحرية قبل عام، أما العامل الثاني المتصل بأمن كيان الاحتلال، فهل يوجد تهديد أقوى وأهم من ما تمثله المقاومة في لبنان وفقاً للقراءتين الأميركية والإسرائيلية. وإذا أردنا الالتفات نحو المعايير الأوروبية في تحديد مصادر الجذب والاهتمام، حيث ملف اللجوء هو الذي يتصدر اللائحة بالتوازي مع القلق في مجال أمن الطاقة، ولا يقل أهمية السعي لتفادي اهتزازات كبرى قد يكون مصدرها ما يسميه الفرنسيون بالانهيار اللبناني، بحيث لا يمكن إطلاق صفة اللاعب الدولي والإقليمي على جهة لا يقع لبنان في صلب اهتماماتها، أما العجز فهو نتاج موازين القوى، والحاجة لاشتراك طرف مقابل لصناعة أي تسوية، هو طرف فاعل داخلياً وفاعل إقليمياً وفاعل دولياً، لن تنضج معه صورة الخرائط الجديدة بعد، ولبنان لا تنضج تسوياته إلا بنضج الخرائط الكبرى، لأنه شديد الأهمية.