حرب تشرين 1973: 50 عاماً والنتائج حيّة
ناصر قنديل
– لا يمكن بناء الذاكرة على انقطاعات. فالتاريخ تراكم متصل، وإنجازات المقاومة ومحورها ليست رداً على فشل ما قبلها، لأنها في كثير من الوجوه استمرار واستثمار على ما قبلها، وبمقدار ما كانت المقاومة عامل تفعيل للثقة بالنفس والقدرة على تحقيق الانتصار في المجتمع العربي، فهي كانت امتداداً لحرب تشرين وروحها التي أسست لاستعادة هذه الثقة بالذات بعد الهزة الكبرى التي أحدثتها هزيمة العام 1967، والأهم أنه بمقدار ما مثلت المقاومة هزّة أصابت ثقة كيان الاحتلال بقدراته بعد الفشل في الاحتفاظ بالأراضي المحتلة في جنوب لبنان وغزة، فإن هذه الثقة بدأت تهتز بسبب حرب تشرين التي حطمت غرور العام 1967 الذي أصاب الكيان، فإذ بالذي تباهى بتحقيق النصر على الجيوش العربية خلال ستة أيام يفقد أغلب الأراضي التي احتلها خلال ست ساعات، ويفقد معها قرابة نصف طائراته ودباباته.
– أول المعاني التي قالتها حرب تشرين هو أن ثلاث دول عربية هي مصر وسورية والسعودية تمكنت من وضع خطة مشتركة لخوض حرب، وحفظ أسرار التحضيرات، وصولاً لتنفيذ الخطة التي قامت على هجوم برّي وجويّ في جبهتي الجولان وسيناء وعبور قناة السويس وتدمير تحصينات خط بارليف، وإنزال جويّ نوعيّ في جبل الشيخ، بالإضافة إلى وضع النفط للمرة الأولى سلاحاً في الحرب، بوقف تصديره عن كل الدول التي تساند كيان الاحتلال خصوصاً دول الغرب وفي مقدمتها أميركا. وخلال الأيام الأولى اعترف الاحتلال بالفشل والهزيمة، واعترف العالم للعرب بفرض حضورهم وإرادتهم لاعباً غير قابل للتجاهل، بالتوازي مع تحرير الجيش السوري أغلب أراضي الجولان المحتل، وتجاوز المناطق المعقدة من سيناء، والإمساك بزمام المبادرة العسكرية بقوة.
– من المعاني التي يجب أن لا تغيب عن البال في مقاربة هذه الحرب هي الكفاءة العالية التي أظهرتها الجيوش العربية، ومنها بالإضافة إلى الجيشين السوري والمصري الجيش الجزائريّ والجيش العراقي والجيش المغربي الذين أظهروا بسالة عالية ومهارة لافتة في المعارك التي خاضوها. وظهرت في الحرب حلول مبتكرة لمسائل عسكرية معقدة مثل كيفية إزالة الساتر الترابي من جدار بارليف وكيفية عبور قناة السويس، وكيفية بناء جدار الحماية الصاروخيّة في الدفاع الجوي للمدن الكبرى ومواصلة بناء هذه الدفاعات وصولاً إلى الجبهة الأمامية.
– من المعاني أيضاً سقوط كذبة فشل السلاح السوفياتي وتفوّق السلاح الغربي، والأميركي خصوصاً، والقول إن هذا ما يفسّر هزيمة حرب 1967، حتى جاءت حرب تشرين عام 1973 وأظهرت العكس، فتساقطت الطائرات الإسرائيلية واحترقت فرق دبابات كاملة، وبفضل السلاح السوفياتي تمكنت الطائرات السورية من التحليق في سماء الجليل وصولاً الى أجواء حيفا، بينما ظهر السلاح الغربي والأميركيّ خصوصاً في حال العجز الكامل عن تعديل وجهة الحرب، حتى نجح الأميركي سياسياً بالاستفراد بسورية، عبر التهدئة على الجبهة المصرية، وقد تمّ في ظل المفاوضات السريّة لإنجاز هذه التهدئة إحداث اختراقات في الجبهة المصرية مع وقف اندفاعات الهجوم بقرار سياسيّ مصريّ بخلاف رأي القيادات العسكرية.
– بمقدار ما هو خطأ القول بأن الجيوش العربية عاجزة، فمن الخطأ القول إن مصدر الخلل الذي تسبب بتعديل وجهة الحرب هو الانخراط الأميركي الكامل في الحرب إلى جانب كيان الاحتلال، فقد استند هذا الانخراط الأميركي الى الاختراق السياسي الذي حدث في قيادة الحرب عبر الحصول على موافقة مصر والسعودية الخروج من الحرب، وبدلاً من الاستثمار المشترك للجهد المشترك، قرّرت القيادة المصرية السياسية والقيادة السعودية السياسية استثماراً منفرداً للإنجازات، وحصلت السعودية على ما تسبب به قطع إمدادات النفط عن الدول الغربية من ارتفاع في الأسعار، واعتبرته تعويضاً كافياً عن دورها في الحرب، وحصلت مصر على الوعد باستعادة صحراء سيناء، كما حدث لاحقاً في اتفاقيات كامب ديفيد، كثمن لخروجها من الحرب، فالوحدة أنجزت والافتراق بدد الإنجازات.
– العودة الى التاريخ وما كتبه قادة الحرب خصوصاً على الجبهة المصرية، وفي مقدمتهم الفريق الركن سعد الدين الشاذلي، وما نشره الأستاذ الكبير الراحل محمد حسنين هيكل، فإن الحرب كانت قراراً اتخذه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في اليوم الذي تلا قمة الخرطوم ولاءاتها الثلاثة، لا صلح لا تفاوض لا اعتراف، وقد صدرت بتفاهم مصريّ سعوديّ، وكانت الحرب كمؤسسة متكاملة قد صارت أمراً واقعاً لا يمكن تفكيكه بعد رحيل عبد الناصر، خصوصاً أن الرأي العام العربي كان الخلفية المتعطشة للنصر التي استندت إليها الحرب قراراً وإعداداً وإنجازاً، بينما كانت شراكة سورية عبر وزارة الدفاع عندما كان الرئيس الراحل حافظ الأسد وزيراً للدفاع، وأصبحت الشراكة معه رئيساً بعد رحيل عبد الناصر، وقد حكمت الحرب وقرارها مواعيد حركته التصحيحيّة بعد رحيل عبد الناصر.
– بعد 50 سنة تبقى حرب تشرين ملحمة بطولية خاضتها الجيوش العربية، وقالت إنها تستطيع اتخاذ قرار بدء حرب، وتستطيع تحقيق الانتصار العسكري فيها، وإن المعضلة كانت وتبقى في القرار السياسي لا في قدرة الجيوش.