دولة اليهود أو قاعدة الاستعمار؟
} مأمون ملاعب
حين دخل الجنرال غورو إلى دمشق بعد معركة ميسلون وقف أمام قبر الأيوبي وقال: «قم يا صلاح الدين فقد عدنا». قبل ذلك بحوالي 120 عاماً انكسر نابليون على أسوار عكا قادماً من مصر. كانت حملة نابليون تستهدف احتلال الساحل السوري وتتضمّن فكرة إنشاء كيان لليهود الأوروبيين على أرض فلسطين. كان ذلك قبل نشوء الحركة الصهيونية بأكثر من 80 عاماً. أواخر القرن التاسع عشر حاولت الحركة الصهيونية إقامة كيان يهودي من خلال السلطنة العثمانية إذ عرضت على السلطان عبد الحميد دفع ديون السلطنة مقابل ذلك ولم يوافق فساهمت الحركة الصهيونية بإسقاطه عبر حركات تركية في ما بعد.
خلال الحرب العالمية الأولى استعان الحلفاء بالشريف حسين في حربهم على السلطنة ووعدوه بأن يتولى ابنه عرش مملكة سورية بعد التحرير، فجنّد لهم أبناء بلاد الشام والحجاز، وأفتى بقتال الأتراك المسلمين وتمّ طردهم من بلاد الشام.. في الوقت نفسه كان الحلفاء يطبخون في السر طبخة الاستعمار وإقامة كيان لليهود غير عابئين بوعدهم!
اقتسمت بريطانيا مع فرنسا بلاد الشام في معاهدة سايكس بيكو 1916 وتلى ذلك وعد بلفور 1917 وقبل أن تكون فلسطين بأيدي الإنكليز. الوعد الصادر رسمياً عن وزارة الخارجية البريطانية أتى بعد مباحثات بين حكومة المملكة والحركة الصهيونية، مباشرة بعد احتلال فلسطين من قبل البريطانيين. بدأت الهجرات اليهودية إليها (كانت قد سبقت ذلك هجرات طفيفة) بشكل مدروس ومنظم.
تولت الحركة الصهيونية مسؤولية الدعاية في بلاد أوروبا والنقل والتنظيم وتولت بريطانيا مسؤولية الحماية والرعاية على الأرض. ومساعدة العصابات الصهيونية الناشئة التي بدأت بالاعتداء على شعبنا في فلسطين وعلى أملاكهم. حين استتبّ الأمر لتلك العصابات. قررت بريطانيا إخلاء الساحة فغادرت تاركة لهم المواقع والثكنات والسلاح والذخيرة (عدا عن ما جمعوه) وانطلقت تلك العصابات في هجماتها الإرهابية قتلاً من الرضع حتى العجزة، إبادة كاملة في دير ياسين وكفرقاسم بمحاولة لتهجير جماعي وكلي للفلسطينيين. في المقابل، فإنّ بعض الجيوش العربية كان يمتلك سلاحاً بذخيرة فاسدة.
اعتبار «إسرائيل» أداة استعمارية وقاعدة كبيرة للاستعمار أمر صحيح، لكنها في الوقت نفسه قضية نابعة من العقيدة اليهودية وانها قامت بفعل وخطط الحركة الصهيونية أيضاً والأصحّ أنها ما كانت لتوجد لولا التعاون بين الاثنتين. فكرة اختيار اليهود عند المستعمرين نابعة أصلاً من العقيدة اليهودية، أرض الميعاد وأرض الأجداد و»إسرائيل» التاريخية! لكن المستعمرين ما كانوا قادرين على نقل اليهود من دول عديدة بدون أداة يهودية. وفي المقابل فإنّ الحركة الصهيونية ما كانت قادرة على إقامة الدولة بدون دول الاستعمار.
تعتبر المرحلة الأولى للدولة الناشئة مرحلة انتقالية. كان الحزب القوي الوحيد فيها هو حزب العمل، (والذي يحمل اسم الحزب البريطاني نفسه)، تأسّس تحت اسم ماباي عام 1930 من نقابات المزارعين وسيطر على الحركة الصهيونية هو حزب علماني، اشتراكي مختلط مع عناصر ليبرالية، أسّس منظمتي الهاغاتا والبالماخ اللتين شكلتا نواة الجيش الإسرائيلي…
في تلك المرحلة كانت «إسرائيل» تنفذ غايات الاستعمار تماماً وعدوان 1956 مثال على ذلك، ثم جاء عدوان 1967 التوسعيّ، وبعده بدأ الطموح والحلم اليهودي يتكشف تدريجياً في السبعينيات بدأت «إسرائيل» تنتقل إلى مرحلة جديدة أكثر ليبرالية وأكثر تديّناً (تمّ حرق المسجد الأقصى عام 1969 في ظلّ حكم حزب العمل) خلال هذه المرحلة انتقل النفوذ الاستعماري من أوروبا إلى الولايات المتحدة وهاجر إليها العدد الأكبر من يهود أوروبا بأموالهم وهم اليوم يشكلون أكبر جالية يهودية في العالم. أقاموا هناك أكبر المؤسسات بحيث سيطروا على الإعلام والسياسة وبدا التناغم الكلي بين الولايات المتحدة و»إسرائيل» وأصبح أمن «إسرائيل» هو من الأمن القومي الأميركي وحمايتها هي الشغل الشاغل لكلّ إداراتها… بعد حرب الخليج فرضت الولايات المتحدة مؤتمر مدريد حيث اعتقدت أنها تستطيع إنهاء قضية فلسطين بما يلائم مصلحة «إسرائيل» عبر اتفاقيات سلام مع كلّ دول الجوار. ذهبت «إسرائيل» إلى مدريد وحققت بعد ذلك تطبيعاً مع الأردن ثم اتفاقية أوسلو.
مرحلتا الثمانينيات والتسعينيات شهدتا تقلباً بالحكم عند العدو بين حزبي العمل والليكود، اليميني الليبرالي المتشدّد وكانت خطته للمفاوضات هي التعطيل وكسب الوقت دون التنازل. قال إسحاق شامير إنه سيفاوض الفلسطينيين 10 أعوام وبدا الرقم كبيراً آنذاك. وإذ به يصبح عشرات. لم يكن حزب العمل قادراً على التنازل في ظلّ نمو اليمين والأحزاب الدينية والتحوّل من واقعية إنشاء الدولة إلى حلم الدولة اليهودية الساكن نفوس اليهود القادمين ويدغدغ عنصريّتهم.
قامت الولايات المتحدة. باحتلال العراق من ضمن خطة صهيونية قوامها تفتيت دول سايكس بيكو إمعاناً في إضعاف شعبنا وإشغاله في الداخل إفساحاً لديمومة «إسرائيل» وتأمين سيطرتها علينا، مع ذلك حاولت الإدارة الأميركية محاصرة دمشق بخياراتها وجرّها إلى مفاوضات تتضمّن عرضاً بالتنازل ولو عن بعض الجولان. لكن معظم الداخل الإسرائيلي يبحث عن الخروج من إمكانية تطبيق اتفاقية اوسلو وطرد الفلسطينيين لا من أراضي 48 وحسب بل من الضفة أيضاً.
التطبيع الذي تطلبه «إسرائيل» هو مع دول عربية لا تطلب منها أيّ تنازل بل تحوّل الدول العربية من ضفة معادية لو بالشكل فقط إلى دولة حليفة تعمل مع العدو لوأد قضية فلسطين نهائياً…