أولى

بين السادس من تشرين العربي والسادس من تشرين الفلسطيني

‭}‬ معن بشوّر
بين السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 1973، والسادس من أكتوبر/ تشرين الأول 1988، شهدت الأمّة العربية حدثين استثنائيين في تاريخها المعاصر، أولهما حرب أكتوبر المجيدة، حيث حطم الجيشان المصري والسوري ومعهما جيوش الأمّة كلها، خط بارليف على قناة السويس، وخط آلون على مشارف الجولان، حيث اكتشف العرب ماذا تستطيع أن تصنع وحدتهم، وأدركوا أنّ العدو الذي طالما روّج له الاستسلاميون في الأمّة أنه عدو لا يُقهر بأنه عدو يُقهر ويُهزم أيضاً، بل أيضاً عرف العرب أنه حيث تكون إرادة للقتال يكون هناك طريق للانتصار.
وفي السادس من أكتوبر/ تشرين الأول كان الحدث الثاني من فلسطين حيث انطلقت من رحم انتفاضة الحجارة المباركة في حركة جهادية عروبية إسلامية سعت إلى استكمال ثورات قام بها الشعب الفلسطيني منذ قيام المشروع الصهيوني، وجرى تتويجها في الفاتح من يناير/ كانون الثاني عام 1965، على يد ثوار العاصفة التي واصلت معركتها على الاحتلال حتى يومنا هذا.
بين الحدثين العربي ذي الأبعاد الوطنية الفلسطينية، والإسلامية الإيمانية، والأممية المكافحة من أجل العدالة، والفلسطيني ذي الأبعاد القومية والإسلامية والعالمية أكثر من رابط، أهمّهما حقيقة الصراع الذي خاض فيه العرب حربهم الرابعة عام 1973، وأطلق فيه الفلسطينيون حركتهم الجهادية المباركة، كما جمعهما رابط لا يقلّ أهمية هو أنّ الحدثين أكّدا أنّ الصراع العربي مع العدو الصهيوني هو صراع مستمر على مدى العقود، لأنه صراع وجود لا صراع حدود، وأنّ كلّ النكسات والهزائم واتفاقات التطبيع السابقة واللاحقة، لن تتمكن من إنهائه إلاّ بعد تحرير الأرض والإنسان.
وإذا كانت حرب تشرين التي حشدت في ميادينها جيوش الأمّة وجماهيرها وقياداتها وقدراتها العسكرية والاقتصادية، قد أظهرت أنّ إمكانية تحقيق تضامن عربي وتكامل قدرات الأمّة ليس أمراً مستحيلاً، فإنّ انطلاقة حركة الجهاد جنباً إلى جنب مع تنظيمات مماثلة في فلسطين، قد أثبت أننا أمام شعب لا يعرف الكلل أو الملل أو التعب من مواجهة المحتلين، وبكل السبل الممكنة، لا سيّما أنه قد اكتشف عبر التجارب المُرّة التي مرّ بها أنّ كلّ ما زيّن له من وعود وتسويات لم يكن إلاّ وهماً، وأنّ الحديث عن السلام مع محتل ومعتدٍ وعنصريّ ليس إلاّ سراباً مخضباً بدماء الشهداء، ومعاناة الأسرى، وعذابات الشعب الفلسطيني ومعه أمّته العربية.
وإذا كانت انتصارات العرب في حرب تشرين هي ثمرة المصالحات العربية – العربية، والقرارات الشجاعة التي لا تقلّ أهمية عن وقائع الحرب ذاتها، وإسقاط كل الخلافات الثانوية أمام المصلحة الوطنية العليا، فإنّ نجاح حركة الجهاد الإسلامي في تجربتها على مدى ثلث قرن ونيّف هو تعبير عن سلامة توجّه مَن يتخذ من فلسطين وحدَها بوصلة له، ومن لا يسمح لأحد باستدراجه إلى اقتتال داخل فلسطين أو أيّ قطر عربي. وبين التجربتين في تشرين العربي وتشرين الفلسطيني أيضاً، تجربة المقاومة اللبنانية التي حاول كثيرون استدراجها إلى معارك داخلية، مع شركاء في الوطن أو أخوة في الانتماء القومي، ولكنهم فشلوا لأنّ هذه المقاومة الإسلامية أصرّت على اعتبار قتال العدو هو بوصلتها، وأنّ شعارها هو ما رفعه جمال عبد الناصر يوماً: «القتال شرف والاقتتال جريمة».
إنّ الوقوف اليوم أمام هذين الحدثين الاستثنائيين في تاريخنا المعاصر ليس استعادة لماضٍ يعتز به كلّ عربي فحسب، بل هو أيضاً دعوة لكي نلتزم بشروط نجاح حقيقة التجربتين دون الوقوع في الأفخاخ المنصوبة، والأوهام الكاذبة، والصراعات السلطوية، والأنانية الفردية أو الحزبية أو الفئوية.
أول الدروس المستفادة هو أنّ معركة تحرير فلسطين هي معركة عربية قومية تنطلق من فلسطين بمشاركة كافة العرب، كما أردنا يوماً في عام 1972، حين أنشأنا الجبهة العربية المشاركة في الثورة الفلسطينية برئاسة القائد الشهيد كمال جنبلاط، كما نشهد اليوم في معارك مناهضة التطبيع المفتوحة في أكثر من قطر عربي والتي تقول إنه إذا أراد أعداؤنا أن يخترقوا وحدة أمّتنا من خلال تطبيع مشؤوم مع العدو، فهم في حقيقة الأمر إنما يوسّعون من نطاق مواجهة الأمّة مع العدو عبر مواجهة التطبيع على أنواعها في كلّ أرجاء الوطن العربي، فلم تعُد المعركة في فلسطين وأكناف فلسطين فقط، بل باتت معركة على امتداد الأمّة من المحيط إلى الخليج.
وثاني الدروس أنّ الطريق لمواجهة الاحتلال يمرّ من فوهات البنادق وعلى يد المقاومين البواسل والمناضلين في كلّ ميادين المقاومة، وفي المقدمة منها المقاومة المسلحة.
وثالث الدروس هو ضرورة خروج الأمّة من سراديب ودهاليز وزواريب الانقسامات التي باتت مشكلة بين الأقطار وداخل كلّ قطر، وبين التيارات والأحزاب وداخل كلّ تيار وحزب، وبين الذوات الفردية المتضخمة التي لا ترى إلا نفسها ومصلحتها ودورها.
أما رابع الدروس فهو الالتفاف حول مشروع نهضوي عربي والذي يحدّد وحده، بغضّ النظر عن الخلفيات الأيدولوجية، مدى ارتباط أيّ جهة بوحدة الأمّة وبنهضتها، فقد آن الأوان أن نبحث عن صيغ تجمعنا لا عن أسباب تفرّق في ما بيننا.
أما خامس الدروس فهو تمسك الأمّة بهويتها القادرة على استيعاب كلّ الهويات الفردية، دينية أم عرقية، عقائدية أم حزبية، طائفية أم مذهبية. فالعروبة ذات العمق الحضاري هي الهوية الأقدر على جمعنا جميعاً، خصوصاً حين ندرك عمق العلاقة التفاعلية بينها وبين الإسلام، ففي أمّتنا عرب مسلمون وغير مسلمين، وفيها مسلمون عرب وغير عرب.
بل إنّ في كلّ عربي ولو كان غير مسلم فيه شيء من الإسلام، وفي كلّ مسلم في بلادنا ولو كان غير عربي شيء من العروبة.
وسادس الدروس أن نسعى إلى ترجمة الترابط بين المشاعر الوطنية والقومية وبين المصالح الجماعية والفردية على قاعدة الخبز مع الكرامة، بل العيش بكرامة وكرامة العيش.
فكما ينبغي أن نقاوم مَن يحتلّ أرضنا، علينا أن نواجه بقوة من ينهب قوتنا ويسرق مواردنا ويقمع حريتنا، فمعركتنا ضدّ الاحتلال لا تنفصل عن معركتنا ضدّ الفساد والتبعية والاستبداد، ومن خلال برامج متكاملة، وأدوات فاعلة بمستوى المعركة…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى