«القومي» يُطلق كتاب «الأيقونة البطلة الاستشهادية سناء محيدلي» في حفل حاشد في المكتبة الوطنية حردان: المقاومة هي خيار الشعوب الراجح والصائب.. وقوة الإيمان وصلابة الإرادة ومضاء العزيمة ورفض التسليم بالأمر المفعول عناصر أساسية في تشكّل روحية التضحية والفداء
ألفا: سناءٌ في السماء أو السماءُ فيها لا فرق.. انها كَتيبَةً مؤلَّلَة في فتاة؟ جيشًا جرّارًا في إصبَعٍ أتقَن تَفجيرَ الغُزاة
الشهداء كما الأطفال يتعمَّدون أيضًا إنما بدمائهم.. ونعودُ إلى سَناء بعد ثمانٍ وثلاثينَ سنة فَحَبَّذا لَو نُخرِجُ الشّهيدَةَ مِن الذِّكرى إلى القُدوَة
المرتضى: عروس الجنوب سناء محيدلي، الحيّة في دورةِ الأرض حول مجدها الذي تكتبه الأحلامُ والأقلامُ فداءً وثقافة انتصار
ـ سناء محيدلي شهيدةٌ ما كانت سوى الغد المتقمّص جسد فتاة في أوج ربيعها، ليس في بالها سوى أرضها التي يقبعُ عليها غرباءَ سفاحون، لبست في يوم تضحيةٍ صباها قنبلةً، وتزنّرت بأحلامها صاعقاً، ومضت لتُفجّر الذعر في عيون الصهاينة، وتكتبَ الحروف الأولى من ملحمة التحرير
ـ نحنُ بِحاجَةٍ دائِمَةٍ إلى مَن يُجَسِّدُ في حياتِنا الوطنيَّةِ الصدقَ حتّى الثمالَة، والوَفاءَ حتى اكتمالِ الوَفاء، والعطاءَ والحبَّ والإيثارَ حتّى المَوت
ـ لقد انتَصَرنا على العدوّ بالحَديد والنّار لكنّهُ يَعودُ إلينا بكلّ موبِقاتِ بثّ الفرقة وترويج الشّذوذ والهدفُ واحِدٌ: إحداثُ تصدّعات بنيويَّة في الصيغة اللبنانية وتيئيسُ اللبنانيين
غانم: فليبرق صدى تفجيرك الأسطوري بعد مرّة يا رفيقة الشمس فمن ألسنة ناره سيرتعدون ومن نوره ستولد حياة جديدة
ـ الكتابة عن النار لا تُكتب إلا بالنار، والكتابة عن الدم المراق في سبيل الوطن لا تستوي إلا إذا قدمت الكلمة نفسها أضحية على مذبح الشهادة
ـ ما قمت به، يا نجمة كل صُبح، ويا رفيقة الشمس، لم يكن في وجه عُتاة الخارج وحسب، بل في وجه عُتّاة الداخل أيضاً
ـ شئتِ لبنان وشاءَه الأطهار من بنيه، وطناً موحد الانتماء والتطلع والرؤيا، فجعلوه أجزاء وأشلاء وقصاصات. شئتموه دولة سيادة واقتدار، فأمعنوا في تنكس هامتها ودَك أركانها وتقطيع أوصالها وتجريدها من أسباب الصمود
قنديل: سناء حالة خارقة والقوميّون العلامة الفارقة وكانت سناء عروس الاستشهاديّين وعلامة نهوض نصف المجتمع إلى خيار المقاومة
ـ حققت سناء للمرأة اللبنانية المعنى الحقيقي للمساواة الذي شوّهت حركات وجمعيات كثيرة معانيه وأبعاده، لتمثل سناء النقيض الكامل للموجات الهجينة التي تضخّ اليوم في شرايين المجتمع بعكس القيم والأخلاق
ـ منذ اليوم الأول للاحتلال نهضت تلك الروح، وقد جسدّتها كوكبات منظمة لشباب وصبايا، لبنانيون ولبنانيات تعاقدوا على رفض الإقرار بالهزيمة، وقالوا إن الهزيمة لا تقع إلا في العقول، وعندما لا تقع في العقول فهي لا تقع بالفعل، وتصبح تحدّياً يتحول إلى فرصة، ومضوا يستثمرون على صناعتها
حداد: سناء محيدلي مقاومة من بلادي أردات تحريرَ النّفوسِ لأنها بابُ كلِّ مقاوَمةٍ وشرطُ كلِّ بناءٍ عتيد يستحق البقاء
ـ سرُّ سناءَ أنّها لم تختبِئْ، أنّها لم تنكفِئْ، أنّها لم تنتظِرْ، أنّها لم تراهنْ إلاّ على قوةِ إيمانِها، فهجمَتْ وفجّرتْ وانفجرَتْ، لتُحطِمَ أسطورةَ عدوٍّ لا يُقْهَرُ وجيشٍ لا يُهزمُ
ـ معركتُك الحقيقيّةُ، يا سناءُ، إنّما كانت، ولا تزالُ، تحريرَ الإنسانِ من كلِّ تبعيّةٍ، إذِ التّبعيّةُ هي أخطرُ أنواعِ الاحتلالِ، لأنّه عدوٌ من الدّاخلِ، يَضْرِبُ المجتمعَ ويَمْنَعُ عنه هواءَ المُواطَنَةِ والمساواةِ في حقوقٍ وفي واجبات
حردان: ما من خيار أمامنا سوى المواجهة والمواجهة ليست فقط بمقاومة الاحتلال ودحره عن ما تبقى محتلاً من أرضنا، بل بوأد مشاريع الفتنة والتقسيم وحماية السلم الأهلي
ـ الأيقونة البطلة الاستشهادية سناء محيدلي مع مَن سبقها وتلاها حوّلوا المستحيل إلى ممكن وإلى حقيقة ثابتة راسخة ومتجذرة
ـ ما كان يعتبره البعض مستحيلاً في نجاح المؤسسات العامة، أصبح مع الوزير المرتضى ممكناً.. فهو كسر نمطيتها السائدة، وهذه المكتبة الوطنية نموذجٌ، فشكراً معالي الوزير.. ولك منا كلّ تقدير
ـ كتاب الأيقونة سناء محيدلي، إضاءة واجبة على بطولة استثنائية، وهو يشكّل مادة توعوية ودرساً بليغاً من دروس مقاومة الاحتلال، وهذا ما يجب أن تتعلمه الأجيال المتعاقبة. فالقضايا الكبرى لا تحتمل ترف التسليم بثقافة الخلاص الفردي، ولا بالحرية المدجّنة، ولا بالديمقرطية المسمومة ولا بالسلام المزعوم، ولا بالتطبيع المستتر، ولا بالخيانة المقنعة
ـ الشعوب الحرة حين تُستهدف بحقها وحقيقتها وأرضها وهويتها، تتخذ الصراع خياراً أوحد في معاركها المصيرية… ونحن رفقاء سناء والشهداء والاستشهاديين نؤمن، بأنّ الحياة لا تكون بلا صراع
ـ كتاب سناء، فصل مشرق من فصول العزة والإباء وهي التي تنتمي إلى مدرسة أنطون سعاده، الذي وثق بشعبه حين قال: «إنكم ملاقون أعظم نصر لأعظم صبر في التاريخ». وهو تثبيت لنهج وثقافة آمنا بهما سبيلاً لبلوغ النصر، فالعز لمن ارتقى في صدارة المواجهة، «شهداؤنا طليعة انتصاراتنا الكبرى»
ـ إذا كان البعض لا يزال متردّداً في تحمّل مسؤولياته ولا يريد أن يفعل شيئاً من أجل المصلحة الوطنية ومن أجل تحصين البلد، فهذا إمعان في إبقاء لبنان في مربّع التهديد والحصار
أقام الحزب السوري القومي الاجتماعي حفل إطلاق كتاب «الأيقونة البطلة الاستشهادية سناء محيدلي» بدعوة من رئيسه الأمين أسعد حردان وذلك في قاعة المكتبة الوطنية ـ الصنائع.
تقدّم الحضور إلى جانب رئيس الحزب وعدد من أعضاء قيادة الحزب، رئيس مجلس النواب نبيه بري مُمثلاً بالنائب محمد خواجة، نائب رئيس الحكومة الدكتور سعادة الشامي، دولة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ممثلاً بمعالي وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى، الأمين العام للمجلس الأعلى اللبناني السوري الأمين نصري خوري، نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ علي الخطيب ممثلاً بمعالي الوزير عدنان منصور، الوزير السابق الدكتور عصام نعمان، النائب السابق زاهر الخطيب، النائب السابق ناصر قنديل، ممثلو السلك الدبلوماسي ممثلو الأحزاب والقوى الوطنية والفصائل الفلسطينية، رئيس المجلس الوطني للإعلام عبد الهادي محفوظ وحشد من الفاعليات والشخصيات والاعلاميين والمهتمين.
بعد النشيدين الوطني اللبناني والسوري القومي الاجتماعي، عرض فيلم وثائقيّ عن عمليّة الاستشهاديّة سناء محيدلي.
ألفا
قدّم الحفل الكاتب والصحافي روني الفا، وجاء في كلمته:
«مرحبًا يوسُف. مَرحَبا أبا سناء. أَيحضنُ ضريحُكَ ضريحَ ابنتِكَ سناءَ في عنقون؟ كم جميلَةٌ نُعومَةُ أصابِعِ أُبُوَّتِك تُسرّح ضفائرَ نَومِها الملائِكيِّ وجِسمُها المُراهِقُ يَتَمرجَحُ فَوقَ نَسائِمِ الهضاب المتناثرة يُغنِّجُ أُذُنَيها السّامِعَتَين تكبيرُ المساجِد المُعَتَّقَة بالعشق وترتيلُ الكنائس الصيداوية العتيقة.
يا عمرَها. يا خمسًا وخمسيَن سَنة في ضَمير البال. كَم كانَتِ الأعمارُ تَليقُ بِطهرِ أُنوثَتِك. كَم كانَت تَليقُ بِكِ فساتينُ المَشاوير وحِكاياتُ القُبَل وغزارةُ الإنجاب والأنخاب. اخترتِ من مِعبرِ الذُلِّ في باتر أن تَعقِدي قِرانَكِ مع الحرية واختَرتِ طائعةً أن تبكي عليكِ أمّةٌ بأكملِها. سناءُ يا سناء، وحدهنُّ الشّهيداتُ يُنجِبنَ بعدَ مَوتِهِنّ. في كلِ يَوم يولَدُ مِن مزهريَّةِ الزَّنبَقِ المتأهِّبَة لِحراسَةِ عَطرِ الشّهيدَة ألفُ مقاومٍ ومقاوِمَة يملأونَ الأرضَ عشقًا وحبًا وحكايا مُخيَّطَة بالمَجد ومطرَّزَة بِحَبكَةِ صنّارَةٍ تَغزِلُ خيطانُها كنزَةَ الكَرامَة ومعاطِفَ تَستَدفئُ في جَوفِها صُدورُ النُّمورِ الرّابِضَةِ فَوق التِّلال«.
وأضاف: «لا نتذكَّر سناء اليوم. هي التي تذكِّرُنا أن بعض الصباحات تتعمّد كما الأطفال بأجرانٍ ممتلئةٍ مياهاً مقدّسة. الشهداء كما الأطفال يتعمَّدون أيضًا إنما بدمائهم. يستأصِلُ أساقفةُ طقوسِ الحرية من أرجلِهِم رِكابًا راكِعةً ويزرع فوق رؤوسهم جِباهًا مرفوعة.
وفي تلك اللحظة، لحظَةُ ما قبلَ اشتعال الصاعِقِ يصبِحُ رتلُ الجنود أضعفَ مِن ترتيلَةِ السُّجود ويرندحُ الموتُ زفَّةَ عروسٍ تدخلُ ملكوتَ الله في سيارةٍ بيضاء.
سناءٌ في السماء أو السماءُ فيها لا فرق. كادت سناء تغازلُ سنَّ البلوغِ، لكنها بلغَتِ القافلةَ التي لوَّثَت طهرَ الجنوب. الجنوبُ الذي يَمحي عارَ العرب بغارِ سناء. الجنوبُ الذي إذا هبَّتْ فيه زوبَعَةٌ خصُبَ هِلالٌ وتلقَّحَ رَحِمُ المقاومةِ بطفلِ المواجهة زِندُهُ جُندُهُ مِن صدرِهِ تتنفَّسُ الحريّةُ ومن فمِهِ ينشقُّ صوتُ الحَقّ».
وختم: «نعودُ إلى سَناء بعد ثمانٍ وثلاثينَ سنة فَحَبَّذا لَو نُخرِجُ الشّهيدَةَ مِن الذِّكرى إلى القُدوَة. الصُّوَرُ تَجاعيدُ فوقَ حَنين جدرانِ الذاكِرَةِ المتصدِّعَة، بالطقوسِ المتناسِلَة نُرَمِّمُها خَوفًا مِن رَميم أما القدوَةُ فلَوحَةٌ لَم تَخطُر على ريشَةِ بيكاسو وملائِكَة لَم تَخطُر على بالِ مَزمور.
يَعيبونَ علينا حبيبَتَنا سناء أن نطوّبَ ذِكراكِ. أن نرطّبَ جَفافَ التّجافي بِكلماتٍ مرَتَّبَة فَدَعيني اليَومَ اَكسِرُ المَحظور. أيُعابُ علينا إدخالَكِ في تاريخِنا القَومي؟ ألستِ كَتيبَةً مؤلَّلَة في فتاة؟ جيشًا جرّارًا في إصبَعٍ أتقَن تَفجيرَ الغُزاة؟ ألَم تعلّمينا أنّ البأسَ أُنثى والإقدامَ أُنثَى؟ أُدخُلي كتبَ تاريخِنا. لا تأبَهي لِمنجِدِ التّعريف. حَسَمناهُ جَميعًا في مجَمعِ اللغة. مَن ماتَ ضِدَّ بَني صهيونَ شَهيد».
المرتضى
الوفاء لتضحية سناء يكون برفض التطبيع وبالعمل على حِمايَةِ بَلَدِنا ووحدتنا وقيمنا وعناصر مناعتنا وفي صدارتها مقاومتنا
وألقى وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى كلمة جاء فيها:
«على تخومِ الشَهادَةِ تتحرّر النفس من الحاجات الدّنيويَة فتتسامَى، وتتحوَّلُ الرَغَباتُ إلى ارتِقاء، وتُشرِقُ شَمسُ التخلّي عَن صَغائِرِ الأنانيَّة.
هذه هي سِماتُ حَياةِ الشّهداء، الذينَ يَرتَقونَ إلى حيث يتحوَّلَونَ أنجماً مضيئةً في سَماءِ التاريخ، وجنائنَ وافرةَ الثمراتِ في الأرضِ التي زَرَعوا فيها بُذورَ استِشهادِهِم. شهَداؤنا أيّها الأحبَّة هم روحُ الأمَّة، مِن دونِها تخلَعُ مَعناها ومبناها وعلَّةَ وجودِها، ويتحوّلُ الوَطَنُ إلى هَيكلٍ يتآكله اللامَعنى.
ولذلكَ نحنُ بِحاجَةٍ دائِمَةٍ إلى مَن يُجَسِّدُ في حياتِنا الوطنيَّةِ الصدقَ حتّى الثمالَة، والوَفاءَ حتى اكتمالِ الوَفاء، والعطاءَ والحبَّ والإيثارَ حتّى المَوت، على قاعدة أن «ليس حبٌّ أعظمُ من هذا أن يبذل أحدٌ نفسه لأجل أحبّائه».
بالفعل أيّها الأحبّة ثمّة أحيانٌ لا يمكن فيها حماية الحَياةِ وصناعة الحياة إلاّ بالمَوت… ولَكِن ليسَ أيُّ مَوتٍ. الموتُ الذي يَترافَقُ مَع الخوفِ والاسِتسلامِ هو موتٌ دائمٌ ولا تعقُبُهُ حياة. أما الموتُ المترافقُ مَع حبِّ الحياةِ الكَريمَة ومع حياةِ العزّة والحريَّة فهوَ المَوتُ المُحيي.
إنَّ الذينَ يَرغونَ رَغوًا ويتَمَرمَرونَ مُرًّا ويتّهموننا بِثقافَةِ المَوت هم مَوتى ثقافيون. ألَم يَمُت المسيحُ بِحِسبِ الإيمان المَسيحي حُبّا بالبَشَر؟ ألَم يَمُتِ الحُسَينُ لِتَعيشَ أمَّةٌ بأكمَلِها؟ ألم نختبر نحن في لبنان أنَّ خلاصنا وتحرير أرضنا والعزّة في حياتنا كانت كلّها ببركة تضحيات شهدائنا؟ لا يتنكّر لهذا أيّها الأحبة الاّ نفوسٌ ظلامية حاقدة عليلة عميلة مأجورة.
نقولها بالفم الملآن، رغم أنوف الحاقدين «مَن يَموتُ شَهيدًا يُحيي ثَقافَةَ الحَياة«، وسَناء محَيدلي علَّمَتنا ثقافةَ الحَياة لأنها قدّمت نفسَها قرباناً للحَياةِ الكَريمَة ومَنَعَت عَنّا المَوتَ المُذِلّ. وبفضل تضحيتها وتضحيات آلافِ الشّهداءِ الذينَ حَذوا حَذوَها بقيت لنا الأرض وازدنّا بالعزّة وأورقت في ربوعنا الكرامة وخرجنا وأخرجنا وطننا من كهف مبدأ أن قوة لبنان في ضعفه إلى رحاب منطق أن قوة لبنان في عزّة أبنائه وبسالة جيشه واقتدار مقاومته.
انظُروا مَعي أيها الأحبّة كيفَ تتحوَّلُ القَنابِلُ المضيئَةُ التي يُطلِقُها العَدوُّ على الحدودِ اللبنانيَّةِ الفِلسطينيَّةِ إلى قناديلَ إنارَةٍ ينتظرُها ليلًا أهلُ الجَنوبِ الكُرَماء لِيتسامَروا تَحتَ ضوئِها واسمَعوهَم كيفَ يَرفَعونَ أذانَ مساجِدِهِم ويدقّونَ أجراسَ كنائِسِهِم رغمَ أنوفِ الصّهايِنَةِ. أليسَ هذا بفعل تضحيات سَناء ورفاقها الشهداء؟«.
وأضاف: «أيها الأحبَّة، أنقلُ بتصرّفٍ عن الكاتب الفرنسي شارل بيغي Charles Péguy في تأمّلاتٍ حولَ فَضيلَةِ الاستشهاد حينما يرى أنَّ المدهِشَ في الأقدارِ التي يُعِدُّها الله للبَشَرِ هوَ القدرَةُ على الرّجاء. الرَّجاءُ الذي يَبدو لَنا نطفَةً صَغيرَةً غير ذات أهميَّة. الرّجاءُ الذي يُشبِهُ طفلَةً تتمنّى وتَرجو وَتَتوق. الأجسادُ تَموتُ أما رَجاء قيامةِ الأوطانِ فَيَحيا في الجَماعَة. الرّجاءُ هوَ تلكَ الطفلَة الصّغيرَة التي تَجوبُ العالَم وتَحمل معها كلَّ قيمِ العالَم.
أقرأ بيغي فأراه قبلَ سَناء يكتبُ لِسناء وفي سَناء وفي رفاق سناء؟ أوَ ليسَ ذلكَ مدعاةَ فَخرٍ لَنا أن يزهِرَ ويورِقَ تاريخُنا بِمثلِ سَناء؟ وماذا نفعل أيّها الأحبّة لنحفَظَ إرثَ شهدائِنا؟ هل نفرِّطُ بِها بأخذِ العدوِّ الذي حارَبتهُ سَناء بالأحضان؟ هل نطبِّعُ مع الرّتلِ الذي فجّرَت سَناء جَسدَها فيه؟ وهَل لَنا سِوى السّيرِ على هَديِ شهادَتِها من أجلِ حِمايَةِ بَلَدِنا ووحدتنا وقيمنا وعناصر قوّتنا وفي صدارتها مقاومتنا؟».
وتابع: «لقد انتَصَرنا على العدوّ بالحَديد والنّار، لكنّهُ يَعودُ إلينا بكلّ موبِقاتِ بثّ الفرقة وترويج الشّذوذ والهدفُ واحِدٌ: إحداثُ تصدّعاتٍ بنيويَّة في الصيغة اللبنانية وتيئيسُ اللبنانيين من مبدأ العيش معاً وإحداث مثلها في الذات الإنسانيَّة ومَحوِ الحدود الطبيعيَّة بينَ الـ هوَ والـ هِيَ، وبالتالي تفجيرُ الخليَّةِ التأسيسيَّةِ للمجتَمَع وهي العائلَة وعند ذاك يَهونُ تَدميرُ هُويّةِ التاريخ والدولَة ونصبِحُ لقمَةً سائِغَة لكيان الشرّ… لكن هيهات، فنحن نعاهِدُك يا سناء بالبقاء أوفياء لك ولسائر الشهداء، مُحِبّينَ للحَياةِ مستمرّين على قدر الثقة والأمانة، ثابتين في خطّ حفظ العيش الواحد وصون القيم والانفتاح وبثّ الوعي والوفاء للمقاومة، مُرَدّدينَ قول الشهيد سعاده: «إننا نحبُّ الحياةَ لأنَّنا نحبُّ الحريّة، ونحبُّ الموتَ متى كانَ الموتُ طريقًا إلى الحياة… الحياةُ لا تكونُ إلاّ في العِزّ، أمّا العيشُ فلا يفرِّقُ بينَ العِزِّ والذلّ«. وهو القول المتطابق مع قول سيّد الشهداء الحسين بن علي عليهما السلام: «ألا وإنّ الدّعيّ ابن الدّعيّ قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّ!».
وختم: «سناء محيدلي شهيدةٌ ما كانت سوى الغد المتقمّص جسد فتاة في أوج ربيعها، ليس في بالها سوى أرضها التي يقبعُ عليها غرباءَ سفاحون، لبست في يوم تضحيةٍ صباها قنبلةً، وتزنّرت بأحلامها صاعقاً، ومضت لتُفجّر الذعر في عيون الصهاينة، وتكتبَ الحروف الأولى من ملحمة التحرير.
إنّها عروس الجنوب سناء محيدلي، الحيّة في دورةِ الأرض حول مجدها الذي تكتبه الأحلامُ والأقلامُ فداءً وثقافة انتصار. فألف تحية لروحها الطاهرة وجسدها المزروع في تراب الخلود. وفقنا الله واياكم الى أن نكون من الأوفياء لتضحيات الشهداء، ومن العاملين على حفظ وحدة اللبنانيين وقيمهم الجامعة، الواعين لخطر كيان الشرّ والثابتين في خط مواجهته حتى زواله بإذن الله، السلام لروح سناء عشتم جميعاً وعاش لبنان».
غانم
وألقى رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق القاضي غالب غانم، كلمة جاء فيها:
«للرأي والتبصّر والسكينة أوان، ولجيشان النفس وغضبات القلب والصوت الجهير أوان آخر. هكذا الأوطان تُبنى حجر حكمةٍ على حجر، وحقاً يُعانقُ حقاً، وحلماً يلي حلماً، أو تُبنى برفضٍ يُزاحم رفضاً، بعصف ريحٍ يُسابق عصف ريح، وبتقدمةِ حياة ومعمودية دماء!
ولأننا، الساعة، نحفو بإطلاق كتاب ضمّ ما تأجّجت أحرفه من منثور ومنظوم، وما جلجلت شهاداته في الريحانة والأيقونة وحكاية الجنوب الأسطورية.. وضمّ أشدّ الغضبات في وجه الاستكانة والرُجعى وتعظيم السطحي واستباحة العظيم.. لأننا على هذه الصورة، أبحتُ لقلمي أن يُشارك في هذه الوليمة الحرّة والملتزمة في آن، فاعذروا من كانت الحكمة سلاحه الأمضى، ومن كانت المسافة المتناسبة مما يصطرع في السّاح خياره، فأبدل منهما هتافاً عالياً وانحيازاً إلى الحقائق وسجلات الشرف، وعلى غرار ما قرئ في الكتاب إياه، حاول إشعال الأحرف ومعانيها وأوراقها.
فالكتابة عن النار لا تُكتب إلا بالنار، والكتابة عن الدم المراق في سبيل الوطن لا تستوي إلا إذا قدمت الكلمة نفسها أضحية على مذبح الشهادة«.
وأضاف: «هاتها، إذا.. هاتها من لدّنك يا سناء الجنوب.. هاتها دفعة حب لهذا الوطن، لهذه الأمة، لفتة على حركة حياة، عصفة فكر، اعتراضاً، يقظة، صدقاً، أما ترين أننا على حطة وشلل وحضيض، وعلى مخاتلة ونفاق! إن ربيعاً واحداً من أربعتك السبعة عشر لقادر أن يهلّ ديماً، ويحيى مواتاً، ويوقظ هاجعين، ويفجّر نهضات.
هاتها من لدنك أماثيل أماثيل.. في عشق الأرض واقتحام العصيّ والبذل المذهل الفتّان، هذا التراب المقدّس ما كان، في حسبانك وفي إقدامك، معبراً ومنتزهاً وفرصة طارئة ورزقاً سائباً. تُعطيني من ضلوعك وروحك وقمح كرامتك وأضاميم قيمك وأجاجين ثقافتك وبسالة أبنائك أيها الجنوب، أعطك من عزّة نفسي ومن طاهر دمي، ومما علّمنيه الآباء الأحرار، هذه حياتي فخذها، كانت قبضة من قبضات الزمن الهارب فصارت علامة وشهادة وقيامة، وصارت طريقاً، وصارت هولاً وهمّا في بال الطاغوت والشرير الغاصب«.
وتابع: «ما قمت به، يا نجمة كل صُبح، ويا رفيقة الشمس، لم يكن في وجه عُتاة الخارج وحسب، بل في وجه عُتّاة الداخل أيضاً.
شئتِهِ وشاءَ الأطهار من بنيه، وطناً موحد الانتماء والتطلع والرؤيا، فجعلوه أجزاء وأشلاء وقصاصات.
شئتموه مجتمعاً يساوي بين المواطن والمواطن، ويؤلف ما بين النسيج والنسيج، فرشوا بينهما بذور الشقاق وأنشبوا مخالب الطائفية.
شئتموه دولة سيادة واقتدار، فأمعنوا في تنكس هامتها ودَك أركانها وتقطيع أوصالها وتجريدها من أسباب الصمود.
شئتموه أميناً على الوزنات، لكل زرّاع ما زرع، ولكل يدٍ ما جنت بالحلال، فاختلسوا وكنسوا، ووعدوا ونكثوا، وأقسموا وحنثوا، وانتزعوا الفلس من الأرملة، واللقمة من الطافر الجوعان.
شئتموه عرين شباب، واحة لهم ومرتعاً نضراً مبدعاً، فضيّقوا في وجههم السُبل، ودفعوهم دفعاً إلى اليأس والهجران.
فليبرق صدى ذلك التفجير الأسطوري بعد مرة يا رفيقة الشمس، فليبرق هو أو مثله، إذا من ألسنة ناره سيرتعدون، ومن نوره ستولد حياة جديدة.
وما قمت به كان استنكاراً واستهجانا لما يرسمه بعض جبابرة الدنيا الذين لا قلب لهم ولا ميزان بكفين متعادلتين. خرائط وازياح تتبدل على هوى الراسمين. فرز وضمّ، إبدال جماعات من جماعات، اذكاء فِتن وظهور بمظهر القلب الحاني والمبشر الحكيم.. خطط لتقاسم الأرض وما فوقها وما تحتها.. تراباً وماءً وهواءً وكنوزاً من هبات الطبيعة وهبات اليد العليا.. هذه أوطاننا وهذه أرضنا، هذا لبناننا وهذا شرفنا.. والتراب المخضب بدم أبنائه والمسوّر بسواعدهم وبحقهم فيه، من المنبسطات حتى الثرى ومن ريح الشمال حتى براكين الجنوب، ما ارتضيت، وما ارتضى الأبرار، أن يكون لقمة سائغة بيد أرباب الصفقات، ومحترفي المقامرة بمصائر الشعوب».
وختم: «ويا عروس الجنوب، وعروس لبنان.. اقبلي مني هذه الحكاية الصغيرة..
في زمن مرّ مكّن العدو الاسرائيلي من اجتياح ديارنا ومن الرسو في العاصمة وأصوابها وضواحيها، رسمت لنفسي خطة تنقل تتيح لي تحاشي جيشه المعتدي وأحفاده الغزاة، وبعد أن تم لي ذلك، كنت أعتد بما اعتبره إنجازاً وعلى الاقل اعتراضاً سلبياً على تدنيسه أرضنا الطيبة الحبيبة، وبينما رحت أقارن بين هذا الموقف، وإن شفي غليلي ـ وبين ما قمت به، كنت أخجل، وأسقطت اعتدادي بنفسي، وحوّلت افتخاري كله إلى بهاء روحك وصلابة تصميمك وعظمة بطولتك، وأناملك التي على رقتّها لم تقدح زِناداً وحسب، بل قذفت حمماً بركانية بوجه أعداء لبنان، من عتاة الخارج كانوا أم من عتاة الداخل.
نحن، من نحن إذا قادنا الخنوع إلى غياهب التاريخ! بمثل اللهب الذي شعّ في تلك الهنيهة وأشعلها معه وأشعل التراب، بمثله تُبنى الأوطان، والسلام على روحك الدائمة النضارة».
حداد
وألقت أمل فايز حداد نقيبة المحامين في بيروت السابقة كلمة، جاء فيها:
«سناء محيدلي، يا عروس الجنوب، يا أَيقونةَ المقاومةِ، يا مُلْهِمَةَ المُقاومِين ومُلْهِبَتِهَم! يا سناءُ أنتِ تجاوزتِ، في رمزيّتكِ، كلَّ مكانٍ وزمان، كلَّ حزبٍ وكيان، كلَّ يمينٍ ويسار، لتُثْبِتي أنّ العقيدةَ لا تُقاسُ بِما يَشْرَحُها مِن كُتُبٍ ومؤلّفاتٍ ومحاضرات، بل هي تُقَيَّمُ وتُتَرْجَمُ بِما ومَنْ يُجَسِّدُ أصالةَ الانتماءِ إليها وصِدقَ الإيمانِ بها.
فكانت شهادتُك وكان استشهادُكِ أبلغَ كتابٍ وأصدقَ مثالٍ على أنّ المؤمِنَ لا يحتاجُ إلى صلاةٍ أو صيام، فحسب، إذِ الإيمانُ هو أن تَعْتَنِقَ الجوهرَ، فكنتِ، أنتِ، يا سناءُ، جوهرَ الفكرِ المقاومِ وجوهرتَه الّتي لا تنامُ في مغاورِ الزّمرّدِ والياقوت، لأنّها ساهرةٌ، أبدا،ً فوقَ تلالِ… عنقون.
ومِن عنقونَ مَضَتْ سناءُ، لا لتُصبِحَ سيّدةَ مالٍ أو نجمةَ إعلامٍ، ولكنْ لتُمسِيَ، هي، النّجمةَ تُضيءُ سماءَنا، وهي السّيّدةَ تُفَجِرُ في النّفوسِ نهراً هدّاراً مِن كرامةٍ ومن عنفوان.
ما احتاجَتْ سناءُ إلى تشجيعٍ، ولا هي طلبَتْ تكريماً، أو اشترطَتْ مقابلاً، أو اشتهَتْ ثمناً. فهي مقاوِمةٌ، وليست مقاوِلةً هي حاملةُ فكرٍ، لا تاجرةُ أفكارٍ أو بائعةُ أوطان.
سرُّ سناءَ أنّها لم تختبِئْ، أنّها لم تنكفِئْ، أنّها لم تنتظِرْ، أنّها لم تراهنْ إلاّ على قوةِ إيمانِها، فهجمَتْ وفجّرتْ وانفجرَتْ، لتُحطِمَ أسطورةَ عدوٍّ لا يُقْهَرُ وجيشٍ لا يُهزمُ«.
وأضافت: «بجسدِها، ضَحَّتْ سناءُ، وجسدَها فَجَّرَتْ، حتّى تُفَجِّرَ فينا مارداً كان نائماً، فإذا هو يستيقظُ هتّافاً صخّاباً: ارفَعْ رأسَكَ يا أخي، ارفَعي رأسَكِ يا أختي أنا سناء محيدلي، أنا مقاوِمةٌ من لبنان. وكما الرّسُلُ والرّسولاتُ، كما الأبطالُ والبطلاتُ يتركون بصمةً من خلودٍ، فلقد كنتِ، يا سناءُ، بسمةً وبصمةً تَطْبَعُ تاريخَنا بأحرفِ عزةٍ وكرامةٍ وبطولة.
أنتِ، يا سناءُ، أردتِ تحريرَ النّفوسِ، إذْ هي بابُ كلِّ مقاوَمةٍ وشرطُ كلِّ بناءٍ، فما يَنْفَعُ الإنجازُ إذا كانتِ النّفوسُ مسحوقةً وموبوءةً بداءِ التّبعيّةِ والمحسوبيّةِ والزّبائنيّةِ والطّائفيّة والمذهبيّة؟!
معركتُك الحقيقيّةُ، يا سناءُ، إنّما كانت، ولا تزالُ، تحريرَ الإنسانِ من كلِّ تبعيّةٍ، إذِ التّبعيّةُ هي أخطرُ أنواعِ الاحتلالِ، لأنّه عدوٌ من الدّاخلِ، يَضْرِبُ المجتمعَ ويَمْنَعُ عنه هواءَ المُواطَنَةِ والمساواةِ في حقوقٍ وفي واجبات.
وأنتِ، يا سناءُ، ما استطعْتِ أن تُفَجِّري جسدَك، إلّا لأنّ نفسَكِ كانت عصيّةً على شتّى أنواعِ التّبعيّةِ والغَرَضِيّةِ والمَصْلَحِيَّةِ والأنانيّة. كنتِ حرّةً، فحرّرتِ، تعرفون الحقَّ والحقُّ يُحَرِرُكم.»
وأردفت: «فليكنْ تحريرُ الإنسانِ وبناءُ الإنسانِ هو هدفَنا، اليومَ، وكلَّ يومٍ! فلنعمَلْ له بصدقٍ، كما صنعَتْ سناء، فتحريرُ إنسانِنا هو جزءٌ من تحريرِ أرضِنا، ولا قيمةَ لتحريرِ أرضٍ، إذا كان إنسانُها لا يزالُ أسيرَ عصبيّاتٍ وتبعياتٍ وعبوديّات.
والدّولةُ الحَقَّةُ، لا تَبنِيها، فقط، جسورٌ وطرقاتٌ ومواصلاتٌ وخدماتٌ، باتتِ، اليومَ، مفقودةً أو شبهَ غائبةٍ، وإنّما يَبنِيها إنسانٌ حُرٌ ومجتمعٌ واعٍ يقومُ على ثقافةِ المساءلةِ والمحاسبةِ، إذِ هي عمادُ كلٍّ حُكْمٍ، كما هي أساسُ كلِّ عدلٍ.
والدّولةُ الحَقَّةُ لا تبنِيها خطاباتٌ وبياناتٌ وديباجاتٌ، وإنّما هي بالعِلْمِ تقومُ، وعلى الأخلاقِ تَنْهَضُ، وباستعادةِ الثّقةِ تَسترجِعُ لها مكاناً ومكانةً بين الأممِ والحضاراتِ والشّعوب، فتستحِقَّ أن يكونَ لها عَلَمٌ ونشيدٌ وجنودٌ وحدود«.
وختمت: «كما ابتداءً، تبقى سناء محيدلي هي مَثَلاً ومثالاً، تبقى رمزاً، تبقى قدوةً، تبقى منارةً، تبقى أمانةً، وتبقى رسالةً.
سناء، أنتِ نورٌ لا يَنطفِئُ. أنتِ حياةٌ أقوى من الموت نحن لم نَبْكِكِ في أيِّ يومٍ، لأنّ يومَ استشهادِك كان، هو، ذاتُه، يومَ ميلادِكِ، ويومَ انبعاثِنا.
لا تَبْكِه، فاليومَ بدءُ حياتِه إنّ الشّهيدَ يَعيشُ يومَ مَماتِه«.
قنديل
وألقى رئيس تحرير البناء النائب السابق ناصر قنديل كلمة، جاء فيها:
«هذا اللقاء ليس لتكريم سناء، بل لتأكيد العبر التي أرادت منّا حفظها، ونقل الرسائل الوصايا التي نحملها من شهادتها. في زمن الأسئلة عند سناء الجواب؛ هكذا يقول هذا الكتاب. الأسئلة علامة الشك وعند سناء اليقين، ولولا اليقين ما صارت الأيقونة. وأول الجواب سناء. السناء رجاء والرجاء قيامة والقيامة مقاومة. سناء يقين واليقين فلسطين.
الى الذين يتحدّثون عن استحالة الجمع بين المقاومة والدولة، ويطرحون السؤال عن أيهما نختار، الدولة أم المقاومة؟ نقول المقاومة حتى تصبح شبه الدولة قابلة للتصالح مع كرامتها، وتدرك أن قوتها ليست في ضعفها، فتستحق عندها فقط صفة الدولة.
الى الذين يقولون إن نظامنا الديمقراطي يتعطّل لأن هناك مَن لا ينتظر قرار المؤسسات وينفرد بقرار الحرب والسلم، نقول نحن في حالة حرب أعلنها علينا الاحتلال، ولا يزال، ونظامنا الديموقراطي أراد تشريع الاحتلال عندما أتيحت له الفرصة بدلاً من تشريع المقاومة، كما يخبرنا اتفاق 17 أيار.
ثم نكتشف عبر تجربتنا، ونتعلم أن الديمقراطية نظام صالح لإدارة شؤون الأمم في غير أزمان الأزمات الكبرى والتحولات الكبرى والقضايا المصيرية والتحديات الوجودية. ففي العواصف والحروب تحتاج الأمم إلى اللجوء لاستلهام روحها، والروح لا يمكن تجسيد نهضتها إلا على يد نخبة مضحية مقاتلة مستعدّة للموت، ثم تنهض الأمة من ورائها وتُحدث التغيير، وعندما تهدأ العاصفة تستردّ الديمقراطية عافيتها، رغم ما تكون قد ارتكبت من خطايا الخيانات في زمن العواصف«.
وأضاف: «عندما احتلّ النازيون فرنسا تحولت الديمقراطية الفرنسية إلى منصة مهمتها تشريع الاحتلال، فكانت حكومة فيشي، وعندما تحرّرت فرنسا على يد المقاومة، تعافت الديمقراطية الفرنسية وعندها استعادت سيادتها.
في بريطانيا كان التصويت التمهيدي في البرلمان لصالح تنحية تشرشل، لأنه اتخذ قرار دخول الحرب ضد النازية بدلاً من التفاوض والاستسلام، قبل أن يحاصر تشرشل البرلمان بالشعب بعدما استنهضه تشرشل بروح الأمة، التي مثلها خطابه الشكسبيري الشهير، لن نترك وصمة العار على جبين بريطانيا العظمى، سنقاتل حتى نسقط أو ننتصر، وليست لدينا وعود الا الشرف والكرامة والدم والدموع، وعندما انتصرت بريطانيا كان أول ما فعلته الديمقراطية، إزاحة تشرشل من الحكم.
أما في لبنان فقد قام البرلمان المنتخب نفسه بتشريع اتفاقية الذل والعار المسمّاة باتفاق 17 أيار ثم بعد التحولات التي فرضها إيقاع المقاومة، أسقط البرلمان نفسه اتفاق 17 أيار، من دون أن يرفّ جفن الديمقراطية لتعترف بالفشل أو تعتذر عن الخيانة.
يومها لم تواجه الاتفاق في البرلمان إلا أقلية ضئيلة جداً حملها صوتان يتيمان هما النائبان زاهر الخطيب ونجاح واكيم، لكنهما كانا يومها صدى تلك الروح التي استلهمها الوطن والأمة، لكن من كان يمثل تلك الروح؟«.
وأردف: «منذ اليوم الأول للاحتلال نهضت تلك الروح، وقد جسدّتها كوكبات منظمة لشباب وصبايا، لبنانيون ولبنانيات تعاقدوا على رفض الإقرار بالهزيمة، وقالوا إن الهزيمة لا تقع إلا في العقول، وعندما لا تقع في العقول فهي لا تقع بالفعل، وتصبح تحدّياً يتحول إلى فرصة، ومضوا يستثمرون على صناعة هذه الفرصة. وكانت الفرصة هي هم أنفسهم، استشهاديون واستشهاديات، قالوا للاحتلال إن الهزيمة لم تقع ولن تقع، تلك القبضة الماسية من مئة رجل وامرأة، جاؤوا من روافد متعدّدة ليصبوا في مجرى نهر واحد، نذروا أنفسهم لإطلاق المقاومة، فغيّروا خلال ثلاث سنوات وجه لبنان، بل وجه المنطقة.
بين العامين 1982 و1985، انسحب الاحتلال من بيروت إلى مثلث خلدة، ثم الى الأولي، ثم الى الزهراني، ثم الى الليطاني، ثم إلى الشريط الحدودي. وتعاظم الموج الشعبي الرافض للاحتلال على إيقاع هذه البطولات، والشعور بالفخر، مقابل ذلّ الاحتلال، وصارت المئة مئات ثم آلاف، حتى اشتعلت الأرض تحت الدبابات، وشعر الاحتلال باستحالة البقاء، فخرج رئيس أركان جيشه ايهود باراك، في صيف عام 1985 ليعلن عبر مقالته الشهيرة في صحيفة هآرتس، أن الانسحابات المتتالية ليست إلا ترجمة لانسحاب كامل مؤجل التنفيذ ومجزأ التنفيذ، بعدما ثبت أن لا شيء سوف ينجح بإيقاف هذا الطوفان من شباب وصبايا لبنان المستعدين للموت، ومن خلفهم عمق جغرافي يمتد حتى الشام«.
وقال: «بين هؤلاء كانت سناء حالة خارقة، وكان القوميون العلامة الفارقة. كانت سناء عروس الاستشهاديين وعلامة نهوض نصف المجتمع إلى خيار المقاومة.
وكانت سناء وابتسامتها وجمالها وأنوثتها ووصيتها واستشهادها، فعل موجة ساحرة سرت في المجتمع، عنوانها كلنا سناء.
حققت سناء للمرأة اللبنانية المعنى الحقيقي للمساواة الذي شوّهت حركات وجمعيات كثيرة معانيه وأبعاده، لتمثل سناء النقيض الكامل للموجات الهجينة التي تضخّ اليوم في شرايين المجتمع بعكس القيم والأخلاق.
طبع الطلاب والطالبات في الجامعات صورة الأيقونة سناء على قمصانهم، ودقوا اسمها ورسمها وشماً، تعويذة ايمان بوطن وهبته روحها ودمها.
كان المجتمع ممزقاً بالشك فعالجته سناء باليقين، ومن يستطيع أن لا يجد اليقين بعد سماع رسالتها. قالت اليقين لأنها أيقنت، حتى صارت الأيقونة«.
وختم: «أما حزب سناء فقد كان القيمة المضافة، ترجم المقاومة أفعالاً وآمن بها ثقافة، فمنح المقاومة والاستشهاد صفة الوطنية العابرة للطوائف، ومعه بات مستحيلاً أن يُقال إن المقاومة فعل طائفة، وبه صار مستحيلاً أن يقال إن المقاومة ليست إلا ثمرة عقيدة دينية بعينها. عالج العلمانيين المصابين بلوثة الكسل بجرعة مكثفة من الأمل اسمها سناء. كانت سناء الثقافة وكان القوميّون القيمة المضافة.
صارت سناء أيقونة المقاومة وأيقونة القوميين وأيقونة الوطن، وصار كل تكريم دون مستوى التكريم.
نحن هنا فقط لتلقي جرعة من يقين الأيقونة. هذه الجرعة في هذا الكتاب.
الأمة تقدّم لسناء كشف حساب. هذه هي الإضافة. معنى جديد للثقافة. شكراً معالي الوزير. شكراً حضرة الرئيس«.
حردان
وألقى رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي الأمين أسعد حردان كلمة جاء فيها:
نرحّب بكم جميعاً على مشاركتنا حفل إطلاق كتاب «الأيقونة البطلة الاستشهادية سناء محيدلي«، في المكتبة الوطنية، التي صارت مع معالي الوزير المرتضى صرحاً ثقافياً رسمياً متميّزاً، يحتضن الفعاليات الثقافية ذات البعد الوطني والجامع. وهذا إن دلَّ على شيء، إنما يدلّ على أنّ كلّ المؤسسات الرسمية العامة، تستطيع التميّز والانعتاق من الجهوية والطائفية والمذهبية، شرط أن يكون القيّمون عليها، مشبعين بالانتماء الوطني، ويمتلكون إرادة العمل والعطاء من أجل الصالح الوطني العام…
نعم أيها الحضور، ما كان يعتبره البعض مستحيلاً في نجاح المؤسسات العامة، أصبح مع الوزير المرتضى ممكناً.. فهو كسر نمطية سائدة تجاه هذه المؤسسات، وهذه المكتبة الوطنية نموذجٌ، كما أنّ معاليه بما اختزن من ثقافة الانتماء الوطني أحدث فرقاً في الخطاب الثقافي.. فشكراً معالي الوزير.. ولك منا كلّ تقدير.
وفي الحديث عن معادلتي المستحيل والممكن، اعتبر البعض في لبنان أنّ الاحتلال الصهيوني بعتوّه وغطرسته ووحشيته قدر لا يُردّ، وأنّ مواجهة هذا الاحتلال والانتصار عليه أمر مستحيل، غير أنّ الأيقونة البطلة الاستشهادية سناء محيدلي والتي نلتقي اليوم لإطلاق كتاب عنها هي مع مَن سبقها وتلاها، حوّلوا المستحيل الى ممكن، لا بل الى حقيقة ثابتة، راسخة ومتجذرة.
والحقيقة أنّ المقاومة هي خيار الشعوب الراجح والصائب، حين تُحتلّ أرضها من قبل عدو غاشم، وأنّ قوة الإيمان وصلابة الإرادة ومضاء العزيمة ورفض التسليم بالأمر المفعول، عناصر أساسية في تشكّل روحية التضحية والفداء دفاعاً عن الأرض وصوناً للسيادة والكرامة.
كتاب الأيقونة سناء محيدلي، إضاءة واجبة على بطولة استثنائية، وهو يشكّل مادة توعوية ودرساً بليغاً من دروس مقاومة الاحتلال، وهذا ما يجب أن تتعلمه الأجيال المتعاقبة. فالقضايا الكبرى لا تحتمل ترف التسليم بثقافة الخلاص الفردي، ولا بالحرية المدجّنة، ولا بالديمقرطية المسمومة ولا بالسلام المزعوم، ولا بالتطبيع المستتر، ولا بالخيانة المقنعة. إنّ الشعوب الحرة حين تُستهدف بحقها وحقيقتها وأرضها وهويتها، تتخذ الصراع خياراً أوحد في معاركها المصيرية… ونحن رفقاء سناء والشهداء والاستشهاديين نؤمن، بأنّ الحياة لا تكون بلا صراع.
وأضاف: «لا حياة حرة لأيّ شعب، يقف مكتوف الأيدي عديم الفعل أمام التحديات التي تهدّد مصيره ومستقبله.
ولا خير في شعب، لا يخوض التحدي دفاعاً عن نفسه وعن أرضه وعن تاريخه، وعن هويته.
ولا رجاء في أيّ شعب ينأى بنفسه عن الصراع، ويهرع طلباً للنجاة في سفن تتهالك أشرعتها أمام الأمواج العاتية…
ولا كرامة لشعب يتخلى عن عناصر قوته وينأى عن المواجهة بذريعة الحياد ومتذرّعاً بأن قوته في ضعفه.
قولاً واحداً، إنّ الحياة والخير والرجاء والكرامة في شعب اختط نهج الصراع، مقاومة واستشهاداً. وهذا ما جسّده شعبنا في مواجهاته المصيرية، فكان خالد وكانت سناء وكلّ الشهداء والاستشهاديين من مختلف الطيف الوطني والقومي على امتداد كلّ بلادنا«.
وتابع حردان: كتاب الأيقونة سناء، توثيق لمواقف وشهادات من رؤساء ومسؤولين، وقيادات أحزاب وقوى وفصائل، وأدباء وشعراء ومثقفين وإعلاميين وأهل رأي، وإذا كان البعض بدّل في ذلك، فهذا لا يُفسِد حقيقة أنّ ما كتب عن سناء وعمليتها البطولية قد كتب، فهذه المناضلة حطمت هيبة وجبروت الاحتلال الصهيوني وفعلها سيظلّ راسخاً في الذاكرة. وبأنه لولا سناء وكلّ الشهداء والمقاومين لما كان في لبنان سيادة وكرامة.
كتاب سناء، فصل مشرق من فصول العزة والإباء وهي التي تنتمي إلى مدرسة أنطون سعاده، الذي وثق بشعبه حين قال: «إنكم ملاقون أعظم نصر لأعظم صبر في التاريخ«.
كتاب سناء، تثبيت لنهج وثقافة آمنا بهما سبيلاً لبلوغ النصر، فالعز لمن ارتقى في صدارة المواجهة، «شهداؤنا طليعة انتصاراتنا الكبرى«.
كتاب سناء له هدف أسمى وأرقى، إنه ترسيخ لثقافة الصراع التي يحاول البعض الالتفاف عليها بثقافة الاختزال والانعزال والانحلال. وهو باكورة سلسلة من الكتب توثق العمليات الاستشهادية والنوعية، التي يشكّل مجموعها محطات مضيئة في سيرة المقاومة ومسيرتها، وهذا هو التاريخ الناصع بعينه«.
وحيث أكد أن في حضرة سناء والشهداء، واجب الوجوب أن نقول رأينا بوضوح ونؤكد موقفنا بحزم. فواقع الحال في لبنان لا يحتمل ممالأة أحد ولا مهادنة أحد، فهذا البلد في مهبّ العواصف العاتية ويقع على خط زلزالي رسمته بعناية الإرادات الاستعمارية، لذلك ما من خيار أمامنا سوى المواجهة، والمواجهة ليست فقط بمقاومة الاحتلال ودحره عن ما تبقى محتلاً من أرضنا، بل بوأد مشاريع الفتنة والتقسيم وحماية السلم الأهلي، وتثبيت دعائم دولة المؤسسات وفقاً لموجبات الدستور. شدد على أنّ لبنان في خضمّ مواجهة التحديات الكبرى التي تتهدّد مصيره ومستقبل أبنائه، نرى ضرورة للحوار بين مختلف القوى والكتل بغية الوصول الى تفاهمات تؤدّي الى انتخاب رئيس للجمهورية، يلتزم الدستور وتطبيقه بكلّ مندرجاته الإصلاحية، رئيس يحمي ثوابت لبنان ويدافع عن خياراته ويعزّز انتماءه إلى محيطه القومي.
أكثر من ذلك، إنّ تحصين السلم الأهلي يتطلب خطوات جادّة وفاعلة لمواجهة التحدي الأمني الذي تشكله العناصر الإرهابية، فهذه العناصر كانت بالأمس القريب وحتى راهناً محلّ عناية ورعاية من قوى داخلية وخارجية.
وفي هذا السياق نسمع مواقف معلنة بأن لا عودة للنازحين إلى بلدهم. هذه مسألة خطيرة، وإننا نطالب الدولة اللبنانية بأن تكون حاسمة في موقفها، وتبادر الى التنسيق الكامل مع الدولة السورية التي أبدت وتبدي على الدوام كلّ استعداد لعودة النازحين.
المسؤولية كبيرة، وهي ملقاة على عاتق الجميع، أما إذا كان البعض لا يزال متردّداً في تحمّل مسؤولياته، ولا يريد أن يفعل شيئاً من أجل المصلحة الوطنية ومن أجل تحصين البلد، فهذا إمعان في إبقاء لبنان في مربّع التهديد والحصار.
إن زعزعة استقرار لبنان على الصعد كافة، السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، هو هدف القوى الخارجية التي لا تنفكّ عن ممارسة الضغوط على البلد والشعب.
إننا إذ نؤكد على أن لا مصلحة لأحد بإغراق البلد بالعناوين والمشاريع التفتيتية والتقسيمية العبثية، نرى ضرورة أن يتوحّد الجميع على العمل لإنقاذ لبنان من أزماته، وأن تتوحّد الإرادة في اتجاه بناء دولة المواطنة العادلة والقادرة والقوية، التي لقيامها استشهد الأبطال ودفعت الأثمان.
وختم رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي: «عود على بدء، شكراً لكم جميعاً، وكلنا ثقة بأنّ الثقافة المؤيدة بصحة الانتماء هي الرائدة وبها ترتقي الشعوب وتنتصر لحقها وحقيقتها وهويتها وكرامتها.
الشهداء أيّها الحضور حصّنوا بلادنا بالتضحيات وصنعوا الحرية بالكرامة والعزّ والعنفوان…
الأرض لا تتحرّر من الاحتلال ولا تستعاد إلا بسواعد المقاومين الأبطال ودماء الشهداء الأخيار…
الوطن لا يُصان إلا بإيمان أبنائه ووعيهم وبوصلتهم المسدّدة نحو أفق الانتصارات…
وفي الختام، نقول مع سناء، «كل ما فينا هو من الأمة، وكل ما فينا هو للأمة، الدماء التي تجري في عروقنا عينها ليست ملكنا، هي وديعة الأمة فينا متى طلبتها وجدتها.«