ملحمة طوفان الأقصى… درس في صناعة المستحيل
} د. علي أكرم زعيتر
الأمور لمَّا تتضح بعد، والمشهد يبدو معقداً نوعاً ما. فمن جهة قد تحاول (إسرائيل) هضم الضربة، كأنّ شيئاً لم يكن فيقتصر ردّها على بعض الغارات الجوية والتحركات البرية المحدودة، تلافياً لتوسعة رقعة الحرب ودخول أطراف عديدة على خط المواجهة، من جملتها المقاومة في لبنان وبقية فصائل المقاومة في المنطقة.
ومن جهة أخرى فإنّ حجم الصفعة التي تلقتها (إسرائيل) بدءاً من يوم السبت أكبر من أن تُهضم، ما قد ينحو بها إلى ردّ غير مسبوق، الأمر الذي سيفتح بدوره الاحتمالات على مصراعيها، وهذا ما لا يريده الراعي الأميركي غير الصالح، في الوقت الحالي، نظراً:
1 ـ لانشغاله بالحرب الروسية الأوكرانية.
2 ـ لخشيته من تعسّر جهود التطبيع التي تقوم بها إدارة الرئيس بايدن بين السعودية والكيان المؤقت.
في قراءة أولية لما جرى صبيحة السابع من تشرين الأول 2023، فإنه ببساطة يمكننا القول:
أ ـ إنّ المقاومة الفلسطينية ممثلةً، بحركة حماس، نجحت في مباغتة حكومة الاحتلال، ما شلّ قدرتها على الحركة أو المبادرة أو حتى الردّ.
ب ـ أخرست حركة المقاومة الإسلامية حماس كلّ الأبواق المشبوهة التي عكفت على تخوينها واتهامها بالتقاعس عن نصرة سرايا القدس إبان معركة سيف القدس الأخيرة.
ح ـ لقد طبقت حركة القدس عملياً نظرية وحدة الساحات، كما لم يطبقها أحد من قبل، فصحيح أنها لم تشارك ميدانياً في المعارك التي خاضتها سرايا القدس في الآونة الأخيرة، لكن حينما جاء الوقت المعلوم فعلت ما لم تفعله كلّ فصائل المقاومة الفلسطينية مجتمعة من ذي قبل.
نحن أمام عملية عسكرية ضخمة، أشبه بالطوفان البحري العارم، نظراً للخسائر التي لحقت بجيش العدو ومستوطنيه، حيث يُحكى في وسائل الإعلام الإسرائيلية عن 660 قتيلاً إسرائيلياً، و2500 ما بين جريح وأسير، والحبل على الجرار.
د ـ وضعتنا حماس بعمليتها هذه أمام نموذج مصغّر لما يمكن أن يحدث في حال قرّرت قوات الرضوان التابعة لحزب الله اجتياح الجليل.
يقول المنطق العام، إنّ كتائب القسام المحاصرة في غزة من كلّ جانب استطاعت أن تخترق خطوط العدو، وأن تنزل فيه ضربات قاصمة لم يشهد مثلها من قبل، فما بالك بقوات الرضوان وهي مطلقة اليدين، والدعم والإمداد يصِلاها بانتظام؟ ماذا ينتظر المستوطنات الشمالية في حال اجتاز رجال الرضوان الخط الأزرق وقرّروا العبور إلى عمق الجليل؟ لا شك أننا سنكون أمام نموذج مكبّر لما شاهدناه أول من أمس في مستوطنات غلاف غزة.
هـ ـ إنّ معركة طوفان الأقصى وهو الاسم الذي اختارته حماس لعمليتها العسكرية، هي أكبر رسالة يمكن أن يوجهها محور المقاومة إلى ابن سلمان رداً على تهافته على التطبيع. إنّ هذه الرسالة تحمل فحوى واحداً مفاده: عزيزي، ولي العهد، لقد تأخرت كثيراً… التطبيع مع إسرائيل لم يعد يجدي نفعاً، فهي تعيش أصعب أيامها!
و ـ إنّ الدعم والمدد والتدريب الإيراني لكتائب القسام آتى أكله، فالطائرات العمودية التي شاهدناها تلقي حممها على رؤوس الجنود الصهاينة هي إيرانية الصنع كما يعلم الجميع.
ز ـ إنّ قادة كتائب القسام يعرفون جيداً من أين يؤكل الكتف، فما قام به عناصر القسام ينبغي أن يدرّس في الكليات الحربية بوصفه درساً في صناعة المستحيل.
ح ـ كانت أميركا و”إسرائيل“ تحسبان أنهما بتضييق الخناق على غزة تحسنان صنعاً. فالرائي من بعيد قد يتصوّر أنّ اشتداد الحصار على الفلسطينيين في غزة سيدفعهم إلى الاستسلام واليأس، فإذا بالنتائج تأتي معاكسة. يبدو أنّ الأميركيين والإسرائيليين لم يفهموا بعد عقلية الرجل العربي العنيد!
كلما اشتدّ الخناق كرَّت سبحة التنازلات، بهذا المنطق العقيم يفهم الأميركيون الأمور، ولكن العرب والمسلمين يفهمونها على نحو آخر. شيء من قبيل ”اشتدي أزمة تنفرجي“، أو ”ضاقت فلما استحكمت حلقاتها….. فُرِجت وكنتُ أظنها لا تُفرجُ“.
المنطق ذاته الذي فهم من خلاله الفلسطينيون طبيعة الصراع، يؤمن به قادة المقاومة الإسلامية في لبنان. فتشديد الخناق على لبنان، سيؤدي إلى الفرج حتماً.
ط ـ أما بخصوص تفاصيل العملية، فيبدو بحسب المعلومات الأولية أنّ المقاومين الفلسطينيين تسللوا إلى خلف خطوط العدو عبر الأنفاق.
لا أحد يعرف في الوقت الحالي مآلات الأمور في فلسطين المحتلة والمنطقة، فما بين مستخفّ يرى أنّ حكومة الاحتلال لن تجرؤ على التصعيد خشية دخول المقاومة الإسلامية في لبنان والجمهورية الإسلامية في إيران وسائر دول محور الممانعة على خط المواجهة، وما بين متريِّب يخشى من تدحرج كرة النار واندلاع حرب كبرى في المنطقة، نجد أنفسنا ميالين لتبني خيار وسط، خيار يرى أنّ الردّ الإسرائيلي سيكون وحشياً، ولكنه مدروس، ما سيسحب من أيدي دول وفصائل محور الممانعة الذريعة للانخراط في الحرب.
عوَّدتنا إيران ومعها منظومة المقاومة، ألَّا تتدخل بشكل مباشر في أيّ حرب تُفرض على إحدى حلقاتها، إلا إذا استدعى الأمر ذلك. أيّ بمعنى، إذا شعرت المنظومة أنّ إحدى حلقاتها بخطر تداعت لنجدتها. أما إذا كانت الأمور تسير على ما يُرام فغالباً ما تنأى المنظومة بنفسها عن أيّ مواجهة مباشرة، فيما تستأنف عمليات الدعم والإسناد اللوجستي.
هناك سيناريوات عدة متوقعة، فـ (إسرائيل) المجروحة، أشبه بالموتور الذي يبحث عمّن يقتله ليشفي غليله. تصريح نتنياهو أول من أمس أماط اللثام عن طبيعة الردّ الإسرائيلي المرتقب. الرجل قال صراحةً ما معناه: لقد تباحثت مع عدد من الأصدقاء الدوليين حول طبيعة الردّ على عملية حماس الأخيرة. ما يشي بأنه أخذ الضوء الأخضر من الولايات المتحدة الأميركية لفعل ما يحلو له في غزة. ولا يفوتنا كلامه حول استدعاء الاحتياط، فلهذه الخطوة رمزيتها التي لا تخفى على أحد.
ولعلّ ما أدلى به وزير الحرب الإسرائيلي أبلغ بكثير مما قاله نتنياهو، فقد كان الرجل واضحاً حينما قال: ما كان لن يكون، ولا بدّ من إسقاط حكم حماس في غزة.
السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح ههنا: كيف سيُسقط وزير الحرب الإسرائيلي حكم حماس في غزة؟ هل سيلجأ إلى العنف المفرط والوحشية البالغة، كما سبق وتوقعنا، أم سيكتفي بتصفية عدد من قادة حماس كما فعل من قبل مع حركة الجهاد، حينما نجح في تحييد عدد من قياداتها عبر الاغتيال؟ هل سيشنّ اجتياحاً برياً لغزة وصولاً إلى عمقها، فيقتل كلّ من يصادفه؟ هل سيرتكب مجازر في حق المدنيين كما عوّدتنا آلة القتل الصهيونية، أم سيكتفي بدك موقعها الأمامية، موحياً للرأي العام بأنه أنجز المهمة وعاد أدراجه؟
مهما كان ردّ فعل نتنياهو ووزير حربه، فإنّ من شبه المؤكد بالنسبة لنا أنّ ما حصل صبيحة السابع من تشرين الأول 2023 سيُحفر عميقاً في وعي الصهاينة مدنيّيهم وعسكريّيهم، وما كان قبل ملحمة طوفان الأقصى ليس كما بعدها.
كُثر اليوم، بدؤوا يستحضرون خطابات ولي أمر المسلمين السيد علي الخامنئي، وسماحة السيد حسن نصر الله التي أشارا فيها إلى قرب زوال الكيان الصهيوني، وإلى احتمال الصلاة في المسجد الأقصى عمّا قريب. قبل مشهد اليوم، كان يمكن لكثيرين أن يضعوا خطابات السيدين الجليلين في إطار شحذ الهمم ورفع معنويات الشارع. أما اليوم، فمن غير الصائب في مكان أن لا نقف عند كلّ كلمة قالاها.
بالفعل، ما تفضل به هذان القائدان الفذَّان على مدى الأعوام الماضية يندرج ضمن إطار رسم خطوط صراع كبرى. قد نعرف أين تبدأ ولكن لا أحد يعرف أين تنتهي. اللافت، أنّ كل ما قالاه بخصوص عمر الكيان الصهيوني بدا كأنه يتحقق، ما يعكس:
أولاً، مدى نضوج ووعي القيادة.
ثانياً، واقعيتهما السياسية، وتحاشيهما الأماني.
ثالثاً، التسديد والإلهام الإلهيين.
رابعاً، جدارتهما بقيادة المرحلة من عمر الصراع مع الصهاينة.
لقد نفذت المقاومة صبيحة الأحد قصفاً مركزاً باتجاه مواقع الاحتلال في مزارع شبعا، وكما كان متوقعاً، فقد كان ردّ قوات الاحتلال الإسرائيلي هزيلاً للغاية، ما يعكس رغبةً إسرائيلية بعدم التصعيد على الجبهة الشمالية. فيما يعكس بالمقابل سعياً محموماً من قبل محور المقاومة لتوريط الكيان الصهيوني في حرب كبرى يحاول تفاديها بكلّ ما أوتي من قوة.
مجدّداً، أثبتت منظومة محور المقاومة أنها تمسك بزمام الأمور في المنطقة. وأنها من يجيد إدارة اللعبة ليس على مستوى الإقليم فحسب، وإنما على مستوى العالم. وما تصريح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بالأمس ببعيد عمَّا نقول، فقد ذهب إلى حدّ التعبير عن خشيته من استغلال حزب الله الأوضاع بغرض فتح جبهة جديدة على حدود الكيان الصهيوني الشمالية.