«طوفان الأقصى» والزخم التشريني المتجدّد
} د. حسن أحمد حسن*
من حق جميع عشاق الكرامة ومقارعة قوى الهيمنة والتجبر والعربدة أن يستمتعوا بإعادة المقطع الذي تمّ تناقله في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي وهو يعرض بالصوت والصورة كيف استطاع المقاومون من أبطال “طوفان الأقصى” أن يتعاملوا مع فخر الصناعة الإسرائيلية “الميركافا”، وكيف سحبوا الجندي الإسرائيلي من داخلها وأخذوه أسيراً مع دبابته التي تعدّ قلعة محصنة، ومن حق عشاق الحق الفلسطيني والعربي والإنساني أن يثبتوا في الأذهان دلالات صرخة النصر التي حاول تشويهها أعداء الله والحق والإنسانية، فالصرخة المباركة “الله أكبر” ليست للقتل ولا للذبح ولا لإلقاء الناس أحياء في الأفران، وليست لبقر البطون واغتصاب الحرائر قط، بل هي مترافقة تقليدياً مع وثبة الجنود لمغادرة خط الانطلاق والهجوم على العدو، وهي مرتبطة برفع علم النصر على المناطق التي يتمّ تحريرها، ويليق بكلّ أنصار الأمن والطمأنينة والسلام واستعادة ما اغتصب من أرض وحقوق أن يكرّروا مع أبطال “طوفان الأقصى” صرخة: الله أكبر… الله أكبر على كيد الطغاة البغاة المتجبّرين من أحفاد قتلة الأنبياء والمرسلين وممتهني القتل والسلب واغتصاب الأوطان والإرادة…
الله أكبر على من طغى وتجبّر، وتنمرد وتكبّر، وتفرعن وتباهى وتبختر بقلب لا رحمة فيه، وعقل امتهن الخداع والتضليل والتشويه، وفوقيةٍ تنظر إلى كلّ ما عداها بالدونية والتسفيه، وتاريخ يغصّ بالإرهاب حاضره وماضيه، ومنطلقه وتواليه…
الله أكبر على من استمرأ القتل والإجرام، وحلل الحرام، وانتشى بعذابات الآخرين والآلام، ورقص على الجماجم مستخفاً بكلّ الأنام، فغاص بالإرهاب حتى ركبتيه، وغرق بأوحال الإجرام حتى أذنيه، وأدخله غيَّه ووحشيته مرة أخرى بالضياع والتيه…
الله أكبر على من سكر بدماء الأبرياء، وقتل الآلاف المؤلفة من الأطفال والعُجَّز والنساء، واستحل الحرمات بلا حياء، ولم يقم وزناً لقوانين الأرض والسماء…
الله أكبر على حكام تل أبيب وهم اليوم في ارتباك غريب وتخبّط عجيب ووضع مريب أذهل البعيد والقريب، فهل يُماط اللثام في قادمات الأيام عن فرز جديد للأعلام وإعادة الاصطفاف في الزحام، أم تزبد وترعد بلاد العم سام لتخويف من ولدوا وعاشوا بين الأقزام، وارتضوا بفتات ما تبقى على موائد طعام اللئام، وهيهات هيهات لأولئك أن يرقوا درج رجال العزيمة والإقدام ومعاني العزة والسيادة والكرامة والإكرام.
نعم إنه طوفان الأقصى، وما أدراكم ما الطوفان، وما أدراكم ما الأقصى.. هكذا هو الطوفان يتدفق موجات تتلو موجات وكلّ قادمة تتجاوز سابقتها في العلو والطاقة والاندفاع، والقدرة على اقتلاع ما يظنه أبناء الخطيئة عصياً على الاقتلاع.. طوفان الأقصى بتجلياته الأولى تسونامي جديد يعصف بكلّ عوامل كي الوعي الممنهج والممارس منذ عقود ليظهر المقاوم الفلسطيني على حقيقته التي تؤكد نقاء انتمائه إلى “شعب الجبارين” وقدرته على انتزاع حقوقه ولو بعد حين وإرغام جميع المتجبّرين المتغطرسين على ابتلاع مرارة الهزيمة، والإذعان لمنطق الواقع الذي فرضه محور المقاومة بجميع أطرافه وروافعه التي لا يستطيع إنكار فاعليتها وأهمية دورها إلا مَن به عور في بصره وعمى في بصيرته، وقد يكون من المفيد الإشارة ولو سريعاً إلى بعض ملامح الصورة المتشكلة ببعدها العسكري والميداني، ومنها:
*اعتماد يوم السبت كعطلة أسبوعية ودينية في كيان الاحتلال لتكون الساعات الأولى من صباحه موعداً لاجتياح سياج الحصار الكهربائي المؤتمَت وجدران العزل المحصّنة التي سرعان ما تهاوت تحت أقدام المقاومين المندفعين بيقين لا يشوبه شك ولا ريب، فكان لهم ما أرادوا، وكان العبور المفاجئ والصادم، والانتقال منه إلى الانتشار المنظم وفرض السيطرة على الأقرب من المستوطنات واعتمادها رأس جسر للتقدّم نحو الأبعد في العمق الممتدّ عشرات الكيلومترات، ولا تخلو ساعة الصفر المحددة والمعتمدة من استلهامٍ واستحضارٍ خلَّاق لروح تشرين التحرير 1973.
*الغرور والصلف الإسرائيلي وسوء التقدير، وبخاصة ما يتعلق بالاستهانة بقدرة المقاومة الفلسطينية، وكما كان الكيان بمسؤوليه ومستوطنيه يرفلون في عسل الوهم الخادع الذي يرفض تصديق احتمال أن تقوم سورية ومصر بهجوم مشترك لبدء حرب جديدة بعد نكسة حزيران، كذلك كان حال الكيان الغاصب قبيل دقائق معدودة من بدء طوفان الأقصى متيقناً أنّ أبناء فلسطين بكليتهم قد فقدوا القدرة حتى على مجرد التفكير بإمكانية رؤية المغتصبات الصهيونية التي تمّ احتلالها منذ عقود وتجهيزها بكلّ مقومات الرفاهية للمستوطنين المستجلبين من كلّ أصقاع الكون، وفرض أشدّ أنواع الحصار الخانق على قطاع غزة، وأبنائه كباراً وصغاراً، ولا ذنب لهم إلا أنهم فلسطينيون ويعتزون بانتمائهم الوطني الفلسطيني، وكما انطلقت طلائع القوات السورية والمصرية فتمّ عبور قناة السويس والتقدم في سيناء، وتحرير مرصد جبل الشيخ من قبل.
*مغاوير القوات الخاصة والمظليين الأبطال وإحكام السيطرة عليه بعد أقلّ من نصف ساعة من الاشتباك المباشر مع عناصر حمايته، وتقدّم تشكيلات عسكرية سورية أخرى للوصول إلى مشارف بحيرة طبريا، كذلك كانت انطلاق المقاومين الفلسطينيين لتحرير المستوطنات المحيطة بغلاف غزة من غاصبيها بيقين مطلق بالقدرة على تحقيق هكذا معجزة في زمن انتفت فيه الآمال التي يمكن أن تُبْنَى على استيقاظ ضمير المجتمع الدولي المخدر ـ إلى أجل غير مسمّى ـ بحقن من المورفين السياسي المركز والكفيل بتحييد كلّ ما له علاقة بالحق والمنطق والقانون الدولي وميثاق هيئة الأمم المتحدة.
*تحقيق المفاجأة المركبة: ما أحدثه الإعجاز الفلسطيني فجر السابع من تشرين الأول تجاوز موضوع القدرة على تحقيق عنصر المفاجأة بالمفهوم العسكري التقليدي، فهو:
ـ مفاجأة بالتوقيت وبدء الأعمال القتالية وخوضها بكفاءة عالية أصابت جنود الاحتلال ومستوطنيه بالذهول، وأفقدتهم القدرة على التعامل مع ما يتناسب ومستوى الحدث، وقد هالهم ما يرونه بأمّ العين التي رغبت بالتكذيب، لكن الواقع يقول: إنهم أمام مقاومين يهرب الموت منهم، وترتفع عند وقع أقدامهم بيارق جديدة مزقت كلّ معاني الخوف والتردّد، واستبدلتها بأعلام فلسطين العصية على الموت رغم القهر المتراكم منذ سنين.
ـ مفاجأة بالقوى والوسائط القتالية المستخدمة، فاستخدام منظومة الدفاع الجوي ودخوله ساحة المعركة عامل جديد لا يمكن تجاوز دلالاته، واستخدام المظلات الشراعية للتحليق فوق جدار العزل الذي كلف مئات ملايين الدولارات يعني تحويل كلّ ما بذل وأنفق إلى جهود ومقدرات عبثية احترقت مع تحليق أول مظلي فلسطيني وهبوطه في المستوطنات المغتصبة بسلام، واختراق سياج الفصل الكهربائي بالدراجات النارية في غضون دقائق قليلة حوَّلَ كلّ تقنية الكاميرات الحرارية المتقدمة والرصد الإلكتروني وحساسات الحركة الإلكترونية التي ترصد حتى وقع الأقدام على الأرض إنْ اقتربت لعشرات الأمتار، وفجأة يصبح كل ّذلك معطلاً أو فاقد الصلاحية، ويتحول إلى ما يشبه الدمى والألعاب الإلكترونية التي يلهو بها أطفال غزة العزة.
ـ مفاجأة بعرض الجبهة التي انطلقت منها طلائع المقاومين الذين انتقلوا من الدفاع الثقيل على الأرواح والإرادة إلى الهجوم الصاعق عبر اتجاهات متعددة تكاد تشمل كامل الحدود الشرقية وحتى الشمالية الشرقية والجنوبية الشرقية وبعمق وصل إلى قرابة الأربعين كلم على بعض الاتجاهات، فضلاً عن الجبهة البحرية وتنفيذ إبرار ناجح باستخدام زوارق سريعة حملت مشاة البحرية إلى الشاطئ فانتقلوا على جناح السرعة للسيطرة على مركز العمليات البحرية، واعتماده منصة لانطلاق جديد.
ـ مفاجأة بكثافة النار وقدرة الوسائط المستخدمة على تغيير قواعد الاشتباك القائمة، والحديث هنا انطلاقة خمسة آلاف صاروخ وقذيفة في غضون عشرين دقيقة، واتساع المفاجأة المركبة التي حققها المجاهدون الفلسطينيون يقابلها إخفاق مركب لدى الكيان الإسرائيلي، فهو إخفاق استخباراتي، وإخفاق استطلاعي وإخفاق عسكري، وإخفاق مجتمعي، وهذا يتطلب دراسة مستقلة لتوضيحه والتوقف عند أهميته ودلالاته ومعانيه، ويبقى السؤال المشروع الذي يدور على ألسنة جميع المستوطنين عسكريين ومدنيين سواء في المستوطنات التي تمّ اقتحامها أم في غيرها: كيف فرض المقاومون الفلسطينيون المفاجأة الشاملة على جيش الكيان الغاصب، وماذا كانت تعمل أجهزة الاستخبارات وغرف التجسس والعمليات التي لطالما تباهوا بقدرتها على حصر أنفاس الفلسطينيين ومعرفة أرقام السيارات في الشارع منذ عقود؟
خلاصة واستنتاج
ما بعد طوفان الأقصى ليس كما قبله قط، وتاريخ الصراع العربي الإسرائيلي على الجغرافية الفلسطينية سيؤرّخ له بما قبل الطوفان وما بعده، ولن تستطيع حكومة نتنياهو وكلّ من يدعمها بالبوارج وحاملات الطائرات والتهديد والوعيد أن يحذف من الأذهان والوعي الصورة الزاهية لأبطال طوفان الأقصى وقدرتهم على اقتحام مقر قيادة فرقة غزة، وإحكام السيطرة عليه بعد قتل وأسر جنوده ضباطه وفرار من كتبت له حياة جديدة، ومهما بلغت وحشية الانتقام والتدمير لن تغيّر ما غدا حقيقة راسخة حتى ولو تمكنوا من تسوية كامل القطاع المنتصر بالأرض والقضاء على كلّ من فيه، فصورة انتصار غزة تبلورت، وأية تطورات جديدة مهما بلغت لن تزيل فيروس الهزيمة الذي حوّل المطارات الإسرائيلية إلى قاعات تغصّ بالمغادرين ليقينهم أن حياتهم في خطر.. وأنّ الكيان الذي أنشئ لحماية مصالح القوى الكبرى المتحكمة بمفاصل القرار الدولي لم يعداً قادراً على حماية نفسه، ولا على استمرارية الوجود إلا بمساعدة تلك القوى العاتية، ولكنها في طريقها إلى التراجع وفسح الطريق لتبلور نظام عالمي جديد.
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية