«طوفان الأقصى» إيذان بالخراب الثالث لدولة الاحتلال الصهيوني
} د. عدنان نجيب الدين
فريدة من نوعها المأساة التي عاشها الشعب الفلسطيني منذ أكثر من مائة عام. فهو كان عرضة لمؤامرة كبيرة وخبيثة حاكها ضدّه ونفذها على أرضه الاستعمار البريطاني والاستعمار الفرنسي عندما اتفقا على تقسيم منطقتنا العربية وعلى إقامة دولة للعصابات الصهيونية في فلسطين لتكون قاعدة متقدّمة للغرب الإمبريالي وإسفيناً يشق عالمنا العربي ومنعه من التقدّم، خاصة أنّ اكتشاف الثروات البترولية في الخليج العربي قد أثار لعاب القوى الاستعمارية فكان قرار الهيمنة على هذه الثروات ونهبها حافزاً لهم لاستتباع عالمنا العربي لهم من خلال إقامة أنظمة تخدم مصالحم على حساب مصالح شعوب أمتنا بعد أن يسلبوها خيراتها وحقوقها التاريخية في بلادهم.
وللأسف الشديد فإنّ هذه الأنظمة التي عملت بخدمة الغرب ومخططاته أبقت شعوب أمتنا العربية في حالة من التخلف وجعلتهم في أدنى درجات سلم الدول المتقدمة على الصعد الاقتصدية الإنتاجية الصناعية والإبداعية. وبالرغم من أنّ دول الخليج بدأت في السنوات الأخيرة تنفيذ خطط للنهوض الاقتصادي مستفيدة من الثروات البترولية والغازية، إلا أنها ما زالت لا تستطيع أن تقوم بنهضة صناعية وتكنولوجية ومعرفية بسبب أنّ الولايات المتحدة الأميركية والقوى الغربية التابعة لها لا تسمح لها بسلوك هذا الطريق. فنحن لا نرى مثلاً أياً من هذه الدول قد أقامت مشاريع إنتاج صناعي أو تكنولوجي متقدّم، وهي ما زالت تعتمد في استهلاكها على دول الغرب، وهي تستورد منه كلّ شيء تقريباً، من السيارات الى الطائرات والقطارات والأدوية ومعدات البناء وتجهيزات المستشفيات والآلات الزراعية والأسلحة، هذا فضلاً عن أجهزة الكومبيوتر والهواتف الجوالة ومختلف البرامج الخاصة بالمعلوماتية، بل وحتى أبسط الاحتياجات مثل الألبسة وغيرها إلخ… وكل ما تشهده دول الخليج اليوم من نهضة وازدهار مرتبط بمعادلة الدولار النفطي او البترودولار. لكن ماذا بعد انقضاء عصر البترول؟ فإن لم تتبع هذه الدول سياسات اقتصادية إنتاجية تنسجم مع رؤية مستقبلية ثاقبة وواعدة، فسوف تعود إلى الخلف وتصبح من الدول الفقيرة. والأجيال القادمة سوف تعاني من الحاجة إلى كلّ أسباب العيش.
وفي المقابل نرى أنّ الغرب الداعم للكيان الصهيوني قد أمدّه بكلّ أسباب التقدّم العلمي والتكنولوجي والاقتصادي، لأنّ تأسيسه على أرض فلسطين كان لخدمة الشركات وأصحاب رؤوس الأموال الصهاينة والغربيين، فهو يصنع كلّ هذه السلع ليس فقط للاستهلاك المحلي بل والتصدير إلى مختلف دول العالم، وهو يحاول من خلال جعل العالم العربي يسير في خطى الانفتاح عليه وتطبيع العلاقات معه لجعل دولنا سوقاً استهلاكية لصناعاته، بل وأكثر من ذلك يعمد إلى اجتذاب رؤوس الأموال العربية لا سيما الخليجية منها لكي يحكم سيطرته وهيمنته على دولنا وجعلها مرهونة إلى إرادته.
من هنا نفهم أهمية التصدي لهذا الكيان الغاصب لفلسطين، من خلال المقاومة بمختلف فصائلها مدعومة من كلّ شعوب المنطقة، لأنّ التجربة على امتداد العقود الماضية من السنين افهمتنا أن لا تقدم لعالمنا العربي في ظلّ الهيمنة الصهيونية والغربية على منطقتنا وشعوبنا. ومن هنا أيضاً كان الحلّ لكلّ أزماتنا وتخلفنا يكمن في إزالة هذا الكيان الغاصب اللقيط، لتعود فلسطين إلى شعبها الفلسطيني بدل أن تبقى في أيدي شذاذ الآفاق من الصهاينة المحتلين. وتعود لأوطاننا حرية اختيار أنظمتها السياسية وسياساتها الاقتصادية واستقلالية قرارها.
وبناء عليه، تصبح المقاومة حقاً طبيعياً للشعب الفلسطيني لاستعادة أرضه وممتلكاته، كما أنّ مساندته واجب على كلّ شعوب الأمتين العربية والإسلامية.
لقد سبق للأنظمة العربية بما فيها بعض القادة الفلسطينيين بأن اعتمدوا على الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية لاستعادة بعض من حقوق الفلسطينيين في أرضهم التاريخية، لكن ما عرض عليهم هو التنازل عن معظم الجغرافيا الفلسطينية لصالح المحتلّ الصهيوني فقبلوا بإقامة دويلة وسلطة رفض الكيان الغاصب تسميتها وطنية لكي لا يكون للفلسطيننيين وطن ولو على جزء صغير من فلسطين التاريخية، ومع ذلك لم يحصل الفلسطينيون على ما تمّ الاتفاق عليه في أوسلو، فراح الكيان الصهيوني يوسع من مساحة احتلاله للضفة الغربية ويصادر أملاك الفلسطينيين ويقيم المستوطنات واحدة تلو الأخرى. وهكذا جعل من السلطة الفلسطينية أداة في يديه فباتت مجرد سلطة إدارية وأمنية تتعاون معه وتخضع لأوامره، وتحوّلت حياة الفلسطينيين إلى حياة بؤس وشقاء مسلوبي الإرادة وفاقدي الحرية والكرامة الوطنية في أرضهم فضلاً عن أنّ اللاجئين في مخيمات الشتات ممنوعون من العودة إلى أرضهم التي طردوا منها بالقوة. وكلنا يذكر المجازر التي ارتكبتها «إسرائيل» بحق الفلسطينيين فلم توفر الأطفال والنساء والشيوخ، واعتقلت آلاف الفلسطينيين وأخضعتهم للتعذيب والإذلال.
أمام كلّ هذا الواقع وأمام الحصار المطبق على قطاع غزة، وأمام كلّ هذه المآسي وجدت المقاومة الفلسطينية نفسها مجبرة على التصدّي للعدو بشكل تذيقه بعض الألم الذي يعاني منه شعبها. فالقرارات الدولية لم تُعِد للفلسطينيين حقوقهم، والدول الكبرى تكذب عليهم على مدى ثلاثة أرباع القرن من الزمان.
وما يسمّى بالمجتمع الدولي الذي عوّل عليه العرب كلّ هذه السنين أثبت انه والكيان الصهيوني في خندق واحد لا يريد أن يرجع للفلسطينيين حقوقهم، وأنه ضدّ إرادة الشعوب في المنطقة. بل إنه يسعى دائماً إلى إثارة الفتن ليس فقط بين الدول العربية، بل وداخل مجتمعاتها من خلال تمكين بعض القادة السياءيين من إدارة بلادهم بسياسة الفساد واكتساب المغانم وتجميع الثروات على حساب شعوبهم، ومن خلال إنشاء جمعيات ظاهر عملها المساعدات الاجتماعية او التربوية او الإنسانية في حين أنها تهدف للتحكم بمسارات الدولة والمجتمع، او إثارة البلابل والتحريض على كلّ من يرفع صوته ضدّ الهيمنة الغربية واتهامه بانعدام الحسّ السيادي أو الوطني. وهكذا راح من يسمّون أنفسهم سياديين او حلفاء لأميركا والغرب يروّجون لما يسمّونه السلام مع «إسرائيل» ويطلقون ألسنتهم ووسائل إعلامهم لتشويه صورة المقاومة واتهامها بأنها ذراع إيرانية فيما هم مجرد أدوات تستخدمهم أميركا لتنفيذ مخططاتها الإجرامية في المنطقة.
من هنا كان لا بدّ لحركات المقاومة أن تتوحد وتتكامل في ما بينها لمواجهة المشاريع الصهيونية الغربية الهدامة التي سلبت الفلسطينيين حقوقهم وجلبت الانقسامات والخراب لمجتمعاتنا العربية. فحيثما أقامت الولايات المتحدة ومعها الدول الغربية الحليفة معها أنظمة سياسية فاسدة حلّ الفقر والخراب. وما هو حاصل في لبنان والكثير من البلدان العربية شاهد على ذلك، لا سيما أنّ كثيراً من الزعماء لهم مصالح وأموال في الخارج يخشون من العقوبات الأميركية ووضع اليد عليها، فتراهم يجارون الولايات المتحدة في سياساتها ولو أضرّت بمصالح شعوبهم، وذلك تحت طائلة التهديد بأنّ كلّ من يواجهها سوف تجعله بخسر ليس فقط مكانته بل وأمواله وسلطته كما حصل مع كثير من السياسيين ورجال الأعمال اللبنانيين والعرب. نراهم يجدّون السير بسياسة التطبيع مع العدو الإسرائيلي والقبول بما يُملى عليهم.
واليوم نرى الولايات المتحدة الأميركية ترسل أساطيلها الى المنطقة لنجدة العدو الإسرائيلي الذي تكبّد خسائر فادحة لم يعهدها من قبل في المواجهات مع المقاومة الفلسطينية كما بدأت بإرسال طائراتها لتزويده بالسلاح والذخيرة بهدف قتل المزيد من أبناء الشعب الفلسطيني، ولتقول للفلسطينيين وشعوب المنطقة بأنّ عليكم الانصياع للإرادة الصهيونية وتقبلوا باعدام الشعب الفلسطيني وتصفية قضيته، وهي تقول علناً بأنّ الغرب قد توحد خلف الكيان الصهيوني في مواجهة الثورة التي فجرتها المقاومة في وجه الاحتلال «الاسرائيلي» في السابع من تشرين الأول عام 2023. وطبعاً لن تخضع المقاومة، ولن ترضى بأيّ تسوية الا بفكّ الحصار المفروض على غزة وتحرير جميع الاسرى ووقف التعديات على المسجد الأقصى ورفع الضيم عن الضفة الغربية التي تعاني منذ سنوات من اضطهاد أهلها ومصادرة لممتلكاتهم،
أمام هذا الهجوم الأميركي على فلسطين وأهلها وعلى شعوبنا العربية والإسلامية في المنطقة، وقفت الدول العربية موقف المتفرّج على ما يحصل بل ذهب بعضها إلى القبول بما يقوم به العدو من ممارسات لا إنسانية بحقهم ولم تقطع علاقاتها مع الكيان الغاصب، بل وربما أبرمت معه تحالفات غير منظورة. ولم نر الأنظمة العربية تسارع لمدّ يد العون الشعب الفلسطيني وتزويده بما يلزم لدفع العدوان الوحشي عنه وتزويده بما يلزم من أسباب العيش، وكلّ ما جرى هو دعوات لوقف إطلاق النار والذهاب إلى المفاوضات بين الطرفين المتحاربين، وكأنّ تدمير الأبنية والأبراج على رؤوس ساكنيها وقتل الأطفال والنساء والشيوخ، وقطع الماء والكهرباء والدواء والغذاء عن الشعب الفلسطيني امر يمكن تفهّمه وغفرانه وغضّ النظر عنه، فأيّ ضمير للعرب وللعالم الذي يسمي نفسه متحضّر، وايّ أخلاق لهم فيما كرامة الإنسان الفلسطيني وحياته مهدورة ؟ فما علة العرب الا ان يهبّوا وينجدوا أشقاءهم الفلسطينيبن الذين يقتلون اليوم ويشرّدون في العراء، فلماذا تريدون من الفلسطينيين ان يخيب أملهم بالعرب وان ييأسوا من الأنظمة العربية التي يبدو انها خذلتهم؟ فيما يهبّ الغرب لنجدة «إسرائيل»… للأسف لم يبقَ الا محور المقاومة يقف معهم ويساندهم… الفلسطينيون لن ينسوا للجمهورية الإسلامية في إيران وقوفها معهم وإمدادهم وإمداد مقاومتهم بالمال والسلاح والتدريب وأمور أخرى للدفاع عن انفسهم برغم الحصار المفروض عليها منذ أربعين سنة، وقد أثبتت هذه المواجهات مع الآلة الحربية الإسرائيلية الغاشمة أهمية هذا الدعم وبانت نتائجه العملية في ملحمة «طوفان الاقصى» المجيدة، وجسد المقاومون الأبطال أصالة الشعب الفلسطيني العربية التي تأبى الضيم والإذلال، فتمسك بكرامته وحقوقه وأبدى إرادة وبسالة وكفاءة وجدارة بالحياة منقطعة النظير.
اما العدو فبدا ضعيفاً وبدا جيشه نمراً من ورق، ولم يعد الجيش الذي لا يُقهر بعدما أذلّه رجال المقاومة الفلسطينية الشجعان فظهر على صورته الحقيقية مرتبكاً لا يملك إرادة القتال ولا شجاعة المواجهة وهو صورة عن مجتمع الكيان الصهيوني المفكك والمنقسم على نفسه والعاجز عن مواجهة بعض مئات من المقاومين البواسل فقتل من جيشه وجرح الآلاف في يومين وتمّ أسر المئات من الجنود والمستوطنين. نعم إنه كما قال عنه سيد المقاومة أوهن من بيت العنكبوت.
فتحية إلى المقاومة الفلسطينية البطلة، تحية للشعب المقاوم والى كلّ فصائل المقاومة وكلّ القوى العربية والإسلامية المناهضة للمشروع الصهيوني الأميركي الغربي، والنصر سيكون حليف المقاومة الفلسطينية وحليف الشعوب المضطهدة في وجه جلاديها وناهبي خيراتها.
وأخيراً نقول: انّ ملحمة «طوفان الأقصى» هي إيذان بالخراب الثالث لدولة الاحتلال الصهيوني، وسوف تشهد الأمة والعالم زوال الكيان الغاصب لفلسطين واختفاءه الى الأبد في وقت ليس ببعيد بإذن الله العلي القدير.