أولى

في ضوء الواقعات والتحوّلات والتحديات: من يتخطّى الخطوط الحمر أولاً: «إسرائيل» أم المقاومة؟

‭}‬ د. عصام نعمان*
في اليوم التاسع لـِ “طوفان الأقصى” ارتمست على لوحة الصراع واقعاتٌ وتحوّلاتٌ وتحدّياتٌ كثيرة، بعضها مُبهِج وبعضها الآخر مُقلِق.
لعلّ أبرز الواقعات وأسطعها صمودُ “حماس” وسائر فصائل المقاومة المؤازرة لها في غزة وقدرتها على الاحتفاظ بفعاليتها القتالية من خلال إمطار المواقع والمستوطنات الإسرائيلية بآلاف الصواريخ والقذائف التي تعدّت غلاف غزة وصولاً الى تل أبيب وحيفا وحتى صفد في شمال فلسطين المحتلة غير البعيدة عن الحدود مع لبنان. كل ذلك جرى ويجري ردّاً على تصعيد “إسرائيل” قصفها الجوي التدميري لغزة ولسائر أنحاء القطاع ما أدّى إلى ارتقاء المزيد من الشهداء، معظمهم من النساء والأطفال.
إذ تقصّدت “إسرائيل” تهجير سكان القطاع الى خارجه، تحديداً إلى مصر، فقد ألقت طائراتها الحربية مناشير تدعوهم للتوجّه الى جنوب القطاع والى مصر، الأمر الذي سارعت القاهرة الى رفضه وإبقاء معبر رفح مغلقاً.
في مواكبة هذه التطورات، أنهى وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن زيارته لـِ “إسرائيل” واتصالاته بزعمائها، وتوجّه الى الأردن حيث اجتمع الى كلٍّ من الملك عبد الله الثاني ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس وأبلغهما موافقة واشنطن على ترحيل سكان غزة الى منطقة العريش في صحراء سيناء المصرية، ومحاولاً طمأنتهم بأنّ مكوثهم هناك سيكون مؤقتاً، لكنه أخفى عنهما مشروع أميركا بإبعاد فصائل المقاومة عن القطاع ووضعه تحت سلطة الأمم المتحدة وقواتها الدولية. غير أنّ الملك عبد الله ومحمود عباس رفضا الموافقة على ترحيل سكان القطاع الى العريش وطالبا بوقف العدوان الجوّي الإسرائيلي التدميري لقطاع غزة.
لعلّ أبرز التحوّلات تكثيفُ الولايات المتحدة حشدها البحري في شرق البحر المتوسط بنشر المزيد من حاملات الطائرات والمدمّرات والبوارج، متوّجةً ذلك كله بإيفاد وزير الدفاع لويد أوستن إلى “إسرائيل” غداةَ انتهاء زيارة وزير الخارجية بلينكن لتأكيد دعمها المتصاعد، سياسياً وعسكرياً، للكيان الصهيوني.
ترافقت زيارتا بلينكن واوستن مع إعلان ناطق بإسم القيادة المركزية الأميركية أن قوات بلاده المتمركزة في أنحاء المنطقة “تراقب الفصائل المتحالفة مع إيران والتي من المحتمل أن تفتح جبهات جديدة بعد عملية طوفان الأقصى”.
في المقابل، قام وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان بزياراتٍ سريعة إلى بيروت ودمشق والدوحة أكّد خلالها تضامن بلاده مع المقاومة الفلسطينية، وشدّد على امتلاكها من القدرات ما يمكّنها من ردع الهجوم البريّ الإسرائيلي المتوقع على قطاع غزة، وأن توقيت تدخل أطراف محور المقاومة لمساندتها متروك لها.
أما أبرز التحّديات وأخطرها فهو مَن سيكون البادئ بتجاوز الخطوط الحمر ومباشرة الهجوم ضد الآخر: “إسرائيل” ومن خلفها الولايات المتحدة، ام “حماس” بدعمٍ ومشاركة من حزب الله؟
أرى أنه من الصعب جداً إعطاء جوابٍ دقيق في هذه الآونة لأنّ الصراع ما زال في بداياته، ولأنّ أحداثاً ومواجهات كثيرة ستقع في كلٍّ من الجبهات الثلاث التي يحتدم فيها الصراع: قطاع غزة، الضفة الغربية، ومنطقة الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة.
الى ذلك لم تستفق “إسرائيل” بعد من صدمة “طوفان الأقصى” المدوّية التي تسبّبت بأزمة سياسية داخلية، كما وضعت “إسرائيل” في وجه ما يعتبره معظم قواها السياسية خطراً وجودياً يهدّدها بالزوال الأمر الذي يستوجب إجراء حسابات دقيقة لما لديها من قدرات وموارد وقوى عسكرية وحلفاء موثوقين قبل اتخاذ القرار باقتحام القطاع الذي توجد فيه تحت مدينة غزة مدينة أخرى من الأنفاق بمئات الكيلومترات، ومخازن للأسلحة الثقيلة والصواريخ بمختلف الأنواع والأمداء، وألوف المقاتلين المتدرّبين والمتعطشين للدفاع عن أرضهم وقضيتهم.
في هذه الأثناء، تتابع “إسرائيل” ما تسمّيه عملية “تليين” العوائق والتحصينات التي تعيق تقدّم قواتها ومدرّعاتها في غزة مصحوبةً بعملية أكثر تدميراً هي إزالة مساكن الناس والمستشفيات والمساجد ومرافق الماء والكهرباء بقصد دفع الأهالي الى الهرب والتوجّه جنوباً. بنتيجة هذه المنهجية الوحشية يتوقع قادة الكيان العدواني أن يتجمّع عشرات الآلاف من المصابين والجرحى والجوعى والمعاقين قرب معبر رفح لينادوا بوقف القصف بغية العودة الى ما تبقّى من منازلهم او… السماح لهم بالعبور الى الأراضي المصرية.
التحدّي الأخطر هو تواطؤ إدارة الرئيس جو بايدن مع حكومة بنيامين نتنياهو على تنفيذ هذا المخطط الجهنمي، إذ بينما يقوم سلاح الجو الإسرائيلي بالتدمير المنهجي للمنازل والمستشفيات والمساجد والمرافق العامة في مدينة غزة لدفع الأهالي الى الهرب والتوجّه بعيداً منها، تقوم واشنطن بالضغط على مصر للقبول ليس بفتح معبر رفح فحسب أمام الفلسطينيين الجرحى والجوعى والمروّعين المتجمعين قبالة المعبر المذكور بل أيضاً لمطالبة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بالموافقة على إقامة مخيمات في منطقة العريش لإيواء الفلسطينيين المهجّرين والمشرّدين مع وعدٍ بتوفير مساعداتٍ ودعم مالي لمصر بمليارات الدولارات.
“حماس” وسائر فصائل المقاومة في قطاع غزة ما زالت صامدة عسكرياً ورافضة بقوةٍ تهجير وترحيل سكان القطاع إلى العريش، بينما شعوب الأمة في شتى أقطارها تتظاهر رافضةً مخطط التهجير والترحيل وهاتفةً بشعارات العداء لأميركا ودول الغرب. لكن إلى متى يمكن تمديد أجل هذه الحال المزرية؟ إلى متى يستطيع الأهالي الصبر على هذا الهوان؟ إلى متى يمكن أن يصبر مجاهدو فصائل المقاومة في قطاع غزة والضفة الغربية وأخوتهم المقاومون في لبنان وسورية والعراق واليمن الذين ما زالت أصابعهم على زناد أسلحتهم الخفيفة والثقيلة؟
لا غلوّ في القول إنّ قيادات المقاومات العربية في كلّ مكان ستجد نفسها في قابل الأيام أمام خيارين: إما متابعة الاشتباك بالنار مع العدو ومطالبة أطراف محور المقاومة الوفاء بوعدٍ قطعته للدعم والمشاركة في تحمّل أعباء مواجهة العدو، وإما أن ترى فصائل المقاومة نفسها مضطرةً على مضض إلى قبول ترحيل عشرات الآلاف من سكان قطاع غزة إلى مصر اتقاءً لنكبة ثانية تحلّ بالشعب الفلسطيني بعد مرور 75 سنة على نكبته الأولى سنة 1948.
المقاومة الفلسطينية كما الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات صامدان وصابران ومثابران على الكفاح من أجل التحرير والعودة. لكن ماذا عن “إسرائيل” وأميركا اذا ما أُسقط بأيديهما إزاء استمرار المقاومة وشعوب الأمة في الصمود والقتال، وفشل مخطط إقناع قادة مصر والأردن وغيرهما بقبول تهجير وترحيل فلسطينيي قطاع غزة الى سيناء وأغوار الأردن؟
ماذا لو قرّرت واشنطن تجاهل التظاهرات العارمة في كل أنحاء عالم العرب والإسلام، وتظاهرات الأحرار في شتى الأقطار من فنزويلا وغرب أوروبا الى سنغافورا وماليزيا؟… ماذا لو قرّرت واشنطن تجاهل سخط ملايين البشر عليها وسمحت لـِ “إسرائيل” بمتابعة التدمير المنهجي لقطاع غزة وتهجير سكانه المدنيين الأبرياء؟ ألا تكون قد تجاوزت الخطوط الحمر وأصبح من حق فصائل المقاومة في قطاع غزة بل من واجبها مطالبة أطراف محور المقاومة بأن يفوا بوعدهم ويشاركوها في ملحمة “طوفان فلسطين كلها من النهر إلى البحر” من أجل التحرير والعودة؟
*نائب ووزير سابق
[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى